ولأجل هذا اتفق أهل السنة المثبتون للقدر على أن الله خص المؤمنين بنعمة دون الكافرين [1] بأن هداهم للإيمان ، ولو كانت نعمته على المؤمنين مثل نعمته على الكافرين لم يكن المؤمن مؤمنا .
كما قال تعالى : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون [ سورة الحجرات : 7 ] ، وقال تعالى : يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [ سورة الحجرات : 17 ] ، وقال تعالى : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ سورة البقرة : 212 ] ، وقال تعالى : [ ص: 119 ] أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه [ سورة المجادلة : 22 ] ، وقال تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ سورة الأنعام : 125 ] .
[2] على الصنفين سواء ، وقالوا : إن العبد أعطي [3] قدرة تصلح للإيمان والكفر ، ثم إنه يصدر عنه أحدهما بدون سبب حادث يصلح للترجيح ، وزعموا أن القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره والقدرية جعلوا نعمته الدينية [4] على الآخر بلا مرجح وادعوا هذا في قدرة الرب وقدرة العبد .
وقد وافقهم على هذا في قدرة الرب [5] كثير من المثبتين للقدر القائلين بأن ، [ بل ووافقهم فيها كثير من المثبتين للقدر ] الرب لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته [6] ، وصار الرازي [7] وأمثاله ممن يحتج على القدرية [8] بتلك الحجة يتناقضون ، فإذا ناظروهم في مسألة خلق الأفعال احتجوا عليهم بتلك ، وقالوا : إن ، الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام ، سواء صدر عن قادر مختار أو غيره [9] تكلموا في مسألة حدوث العالم ، وقيل لهم : الحادث لا بد له من سبب حادث حادث : [10] أجابوا بجواب [11] القدرية ، فقالوا : [ ص: 120 ] القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره [12] بلا مرجح ، وفرقوا بين القادر وغيره كما قالت القدرية ، وقد يفرقون [13] بين فعل الرب وفعل العبد بأن الرب يرجح بمشيئته [14] القديمة التي هي من لوازم ذاته ، بخلاف العبد فإن إرادته حادثة من غيره .
ولكن قال أكثر الناس : هؤلاء الذين يقولون إن قولهم من جنس قولهم ، فإن الإرادة نسبتها إلى جميع ما يقدر وقتا للحوادث نسبة واحدة ، ونسبتها إلى جميع الممكنات نسبة واحدة ، فترجح أحد المتماثلين على الآخر ترجيحا بلا مرجح ، وإذا قدر حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء ، ثم قدر اختصاص أحد الحالين بالفعل لزم الترجيح بلا مرجح ، وهذا منتهى نظر هؤلاء الطوائف . الإرادة القديمة الأزلية هي المرجحة من غير تجدد شيء
ولهذا كان من لم يعرف كلامهم كالرازي وأمثاله مترددين [15] بين علة الدهرية وقادر القدرية ومريد الكلابية ، [16] لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته وقدرته [17] . ولما كانت الجهمية والقدرية بهذه الحال [ لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته ] [18] جعلت [19] الفلاسفة الدهرية وأمثاله كابن سينا [20] هذا [21] عمدتهم في امتناع حدوث العالم [ ص: 121 ] ووجوب قدمه ، ولكن لا حجة لهم في ذلك [22] على مذهبهم ، فإن غاية هذا أن يستلزم دوام فاعلية الرب تعالى ، لا يدل [23] على قدم الفلك ولا غيره من أعيان العالم .
ولكن هؤلاء قالوا : هذا يستلزم التسلسل ، [ والتسلسل محال ] [24] .
ومرادهم التسلسل في تمام التأثير كما تقدم ، وأما التسلسل في الآثار فهو قولهم .
وقد ذكرنا أن التسلسل الممتنع [25] هنا هو من جنس الدور الممتنع [26] ، فإنه إذا قيل : لا يفعل [27] هذا الحادث حتى يحدث ما به به : [28] يصير فاعلا له ويكون ذلك حادثا مع حدوثه ، وكذلك الثاني ، صار هذا تسلسلا في تمام التأثير [29] وإذا قيل : لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا كان هذا دورا ممتنعا ، فهو تسلسل إذا أطلق الكلام في الحوادث ، ودور [30] إذا عين الحادث .
وهي [31] حجة إلزامية لأولئك المتكلمين من الجهمية والقدرية ، ومن تبعهم من الأشعرية والمعتزلة والكرامية ، ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم ، [ ص: 122 ] [ ودوامها عند من جعله لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته وقدرته ثم صار ذلك ممكنا له ] [32] يستلزم [33] الترجيح بلا مرجح ، أو التسلسل [ المتفق على امتناعه والدور الممتنع ] [34] ، وكل ذلك ممتنع [35] [36] ، فأما التسلسل في الآثار فهو مورد النزاع . والتسلسل المتفق على امتناعه هو التسلسل في المؤثرات [ وفي تمام التأثير ]
وأولئك يبطلون القسمين بناء على أن ما لا يتناهى يمتنع فيه التفاوت .
وجماهير الفلاسفة مع أئمة أهل الملل [37] فإنهم لا ينكرون القسم الثاني .
وحينئذ فيقال لهؤلاء المتفلسفة : [38] إن كان التسلسل [ في الآثار ] [39] ممتنعا بطل قولكم ، وإذا بطل القول بطلت حجته بالضرورة ; لأن القول الباطل لا تقوم عليه حجة صحيحة . وإن كان ممكنا بطلت حجتكم [ لإمكان أن تكون كلماته لا نهاية لها ، وأنه لم يزل متكلما بمشيئته أو فعالا بمشيئته ، فعلا بعد فعل من غير قدم شيء بعينه من الأفعال والمفعولات ] [40] ، فالحجة باطلة على التقديرين ، فإنه إذا كان تسلسل [41] الآثار ممكنا أمكن حدوث الأفلاك بأسباب قبلها حادثة .
[ ص: 123 ] والرسل صلوات الله عليهم أجمعين أخبرت بأن [42] الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك ، وهذا مما علم [43] بالاضطرار والنقل المتواتر من دين الرسل [44] ، وأدلتكم ليس فيها ما يوجب قدم السماوات فقولكم بقدمها ليس فيه [45] حجة عقلية ، فهو تكذيب للرسل بلا سبب .
وأيضا فالعقل الصريح يبطل قولكم ، فإن الأفلاك وغيرها من العالم مستلزم [46] للحوادث ، فلو كان قديما للزم أن يكون صادرا عن موجب له قديم ، فحينئذ يكون الموجب مستلزما [47] لموجبه ومقتضاه لا يتأخر عنه ، إذ لو جاز تأخر موجبه عنه [ لم تكن [48] علة تامة لاستلزام العلة التامة معلولها وإذا لم تكن [49] علة تامة امتنع أن يقارنه موجبه لامتناع قدم المعلول بدون علة تامة . وأيضا فلو جاز تأخر موجبه ] [50] مع جواز مقارنته له في الأزل لافتقر تخصيصه [51] بأحدهما إلى مرجح غير الموجب بذاته [52] ، وليس هناك مرجح غيره فامتنع [ ص: 124 ] وجود الأفلاك وغيرها ، وهذا باطل فإنها موجودة مشهودة عيانا ، وهم يسلمون هذا ، ويقولون بأنها معلول علة قديمة ، وهو موجب بالذات لا يتأخر عنه موجبه .
وإذا كان هذا معلوما بالعقل الصريح وهم يوافقون عليه ، بل هو أصل قولهم ، قيل لهم : فما يستلزم الحوادث يمتنع أن يصدر عن موجب بالذات ; لأن الحوادث تحدث شيئا بعد شيء [53] ، وما يحدث شيئا فشيئا لا تكون أجزاؤه قديمة أزلية ، فلا تكون صادرة عن موجب بالذات ، [ فامتنع أن تكون الحوادث صادرة عن موجب بالذات ] [54] ، وامتنع ; لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع . فتبين أنه يمتنع أن يكون الفلك قديما أزليا ، ولا يمكن أن يقال : كان خاليا عن الحوادث في الأزل ثم حدثت فيه ; لأنه يقال حينئذ : فلا بد صدور شيء من العالم بدون الحوادث اللازمة له [55] لتلك الحوادث من سبب ، فالقول فيها كالقول في غيرها ، فإن جاز أن يحدث بدون سبب حادث ، أمكن ذلك في الفلك ، وبطلت حجتهم ، ولزم من ذلك ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح ، وإن كان لا بد لها من سبب لزم التسلسل ودوام الحوادث ، وأن الفلك وكل ما سوى الله لم يزل مقارنا للحوادث [56] ، وكل ممكن قارن الحوادث امتنع أن يكون صادرا عن موجب بالذات ، فامتنع أن يكون قديما .
[ ص: 125 ] والناس قد تنازعوا فيما يستلزم الحوادث ، وهو ما لا يخلو عن الحوادث [57] وما لا بد أن تقارنه الحوادث ، هل يجب أن يكون حادثا أو لا يجب حدوثه بل يجوز قدمه ، سواء كان هو الواجب الغني عما سواه ، أو كان ممكنا ، أو يفرق بين الواجب بنفسه الغني عما سواه وبين الممكن الفقير [58] إلى غيره ؟ على ثلاثة أقوال : فالأول : قول من يقول من طوائف النظار وأهل الكلام بامتناع دوام فاعلية الرب [59] وامتناع فعل الرب وتكلمه بمشيئته وقدرته [60] في الأزل وأن [61] ذلك غير ممكن ، وهؤلاء متنازعون في إمكان [62] دوام فاعليته في المستقبل على قولين .
و [ القول ] الثاني [63] : قول : إما الأفلاك وإما العقول وإما غير ذلك ، ويجعلون الرب [ سبحانه ] الفلاسفة الذين يقولون بقدم ما سوى الله [64] موجبا بذاته ، لا يمكنه إحداث شيء ولا تغيير شيء من العالم ، بل حقيقة قولهم : إن الحوادث لم تصدر عنه ، بل [ صدرت ] وحدثت [65] بلا محدث .
و [ القول ] الثالث : [66] قول أئمة أهل الملل الذين يقولون : ، مع دوام قادرية الله ، وأنه لم يزل متكلما إذا شاء ، بل لم يزل فاعلا أفعالا تقوم بنفسه إن الله خالق [ ص: 126 ] كل شيء ، وكل ما سوى الله كائن بعد أن لم يكن [67] .
وأقوال أئمة الفلاسفة [68] وأساطينهم الذين كانوا قبل أرسطو توافق [69] قول هؤلاء ، بخلاف أرسطو [70] وأتباعه الذين قالوا بقدم الأفلاك [71] ، فإن قول هؤلاء معلوم الفساد بصحيح المنقول وصريح المعقول [72] .
وأيضا فإن كون المفعول المعين لازما للفعل قديما بقدمه دائما بدوامه [73] ممتنع لذاته ، وإن قدر أن الفاعل غير مختار فكيف إذا ثبت أنه يفعل بمشيئته وقدرته ؟ .
[ ص: 127 ] وما [74] يذكرونه من تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان لا يعقل ولا يوجد [75] إلا فيما يكون شرطا ، فإن الشرط قد يقارن المشروط ، أما العلة التي هي فعل فاعل للمعلول فهذه لا يعقل [76] فيها مقارنتها للمعلول في الزمان .
وهم يمثلون تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم ، وتقدم الحركة على الصوت [77] وغير ذلك ، وجميع ما يمثلون به إما أن يكون شرطا لا فاعلا ، وإما أن يكون متقدما بالزمان ، وأما فاعل غير متقدم فلا يعقل قط [78] .
وليس هذا موضع بسط [ هذه ] [79] الأمور ، فإنها أضل مقالات [80] أهل الأرض ، وقد بسط الكلام عليها في غير هذا [81] .
والمقصود هنا التنبيه على القدرية ، فإن حقيقة قولهم أن أفعال الحيوان تحدث بلا فاعل ، كما أن أصل قول الفلاسفة الدهرية أصل [82] أن حركة الفلك وجميع الحوادث تحدث [83] بلا سبب حادث ، وكذلك من وافق [ ص: 128 ] القدرية [84] من أهل الإثبات على أن الرب تعالى لا تقوم به الأفعال ، وقالوا [85] : إن ، كما تقوله الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق الأشعرية ومن وافقهم [86] فإنه يلزمه في فعل الرب [87] ما لزم القدرية .
ولهذا عامة شناعات هذا الرافضي [88] هي [89] على هؤلاء . وهؤلاء طائفة من طوائف [90] المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان [91] ، وقد وافقهم في ذلك كثير من الشيعة الزيدية والإمامية وغيرهم . وقولهم على كل حال [92] أقل خطأ [93] من قول القدرية ، بل أصل خطئهم [94] موافقتهم للقدرية في بعض خطئهم [95] ، وأئمة أهل السنة لا يقولون بشيء من هذا الخطأ [96] ، وكذلك [97] بهذه الأقوال المتضمنة للخطأ [98] ، بل هم متفقون على أن الله خالق أفعال العباد ، وعلى أن جماهير أهل السنة من أهل الحديث والفقه والتفسير والتصوف لا يقرون [99] ، والله خالق ذلك [ ص: 129 ] كله ، وعلى الفرق بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية ، وعلى أن الرب يفعل بمشيئته وقدرته ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لم يزل قادرا على الأفعال موصوفا بصفات الكمال ، متكلما إذا شاء ، وأنه موصوف بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] العبد قادر مختار يفعل بمشيئته وقدرته [100] من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، فيثبتون علمه المحيط ، ومشيئته النافذة ، وقدرته الكاملة ، وخلقه لكل شيء .
ومن هداه الله إلى فهم قولهم ، علم أنهم جمعوا محاسن الأقوال ، وأنهم وصفوا الله بغاية الكمال ، وأنهم هم المستمسكون [101] بصحيح المنقول وصريح المعقول ، وأن قولهم هو القول السديد السليم من التناقض [102] الذي أرسل الله به رسله [103] وأنزل به كتبه .