الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ولأجل هذا اتفق أهل السنة المثبتون للقدر على أن الله خص المؤمنين بنعمة دون الكافرين [1] بأن هداهم للإيمان ، ولو كانت نعمته على المؤمنين مثل نعمته على الكافرين لم يكن المؤمن مؤمنا .

                  كما قال تعالى : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون [ سورة الحجرات : 7 ] ، وقال تعالى : يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [ سورة الحجرات : 17 ] ، وقال تعالى : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ سورة البقرة : 212 ] ، وقال تعالى : [ ص: 119 ] أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه [ سورة المجادلة : 22 ] ، وقال تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ سورة الأنعام : 125 ] .

                  والقدرية جعلوا نعمته الدينية [2] على الصنفين سواء ، وقالوا : إن العبد أعطي [3] قدرة تصلح للإيمان والكفر ، ثم إنه يصدر عنه أحدهما بدون سبب حادث يصلح للترجيح ، وزعموا أن القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره [4] على الآخر بلا مرجح وادعوا هذا في قدرة الرب وقدرة العبد .

                  وقد وافقهم على هذا في قدرة الرب [5] كثير من المثبتين للقدر القائلين بأن الرب لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ، [ بل ووافقهم فيها كثير من المثبتين للقدر ] [6] ، وصار الرازي [7] وأمثاله ممن يحتج على القدرية [8] بتلك الحجة يتناقضون ، فإذا ناظروهم في مسألة خلق الأفعال احتجوا عليهم بتلك ، وقالوا : إن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام ، سواء صدر عن قادر مختار أو غيره ، [9] تكلموا في مسألة حدوث العالم ، وقيل لهم : الحادث لا بد له من سبب حادث حادث : [10] أجابوا بجواب [11] القدرية ، فقالوا : [ ص: 120 ] القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره [12] بلا مرجح ، وفرقوا بين القادر وغيره كما قالت القدرية ، وقد يفرقون [13] بين فعل الرب وفعل العبد بأن الرب يرجح بمشيئته [14] القديمة التي هي من لوازم ذاته ، بخلاف العبد فإن إرادته حادثة من غيره .

                  ولكن قال أكثر الناس : هؤلاء الذين يقولون إن الإرادة القديمة الأزلية هي المرجحة من غير تجدد شيء قولهم من جنس قولهم ، فإن الإرادة نسبتها إلى جميع ما يقدر وقتا للحوادث نسبة واحدة ، ونسبتها إلى جميع الممكنات نسبة واحدة ، فترجح أحد المتماثلين على الآخر ترجيحا بلا مرجح ، وإذا قدر حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء ، ثم قدر اختصاص أحد الحالين بالفعل لزم الترجيح بلا مرجح ، وهذا منتهى نظر هؤلاء الطوائف .

                  ولهذا كان من لم يعرف كلامهم كالرازي وأمثاله مترددين [15] بين علة الدهرية وقادر القدرية ومريد الكلابية ، [16] لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته وقدرته [17] . ولما كانت الجهمية والقدرية بهذه الحال [ لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته ] [18] جعلت [19] الفلاسفة الدهرية كابن سينا وأمثاله [20] هذا [21] عمدتهم في امتناع حدوث العالم [ ص: 121 ] ووجوب قدمه ، ولكن لا حجة لهم في ذلك [22] على مذهبهم ، فإن غاية هذا أن يستلزم دوام فاعلية الرب تعالى ، لا يدل [23] على قدم الفلك ولا غيره من أعيان العالم .

                  ولكن هؤلاء قالوا : هذا يستلزم التسلسل ، [ والتسلسل محال ] [24] .

                  ومرادهم التسلسل في تمام التأثير كما تقدم ، وأما التسلسل في الآثار فهو قولهم .

                  وقد ذكرنا أن التسلسل الممتنع [25] هنا هو من جنس الدور الممتنع [26] ، فإنه إذا قيل : لا يفعل [27] هذا الحادث حتى يحدث ما به به : [28] يصير فاعلا له ويكون ذلك حادثا مع حدوثه ، وكذلك الثاني ، صار هذا تسلسلا في تمام التأثير [29] وإذا قيل : لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا كان هذا دورا ممتنعا ، فهو تسلسل إذا أطلق الكلام في الحوادث ، ودور [30] إذا عين الحادث .

                  وهي [31] حجة إلزامية لأولئك المتكلمين من الجهمية والقدرية ، ومن تبعهم من الأشعرية والمعتزلة والكرامية ، ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم ، [ ص: 122 ] [ ودوامها عند من جعله لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته وقدرته ثم صار ذلك ممكنا له ] [32] يستلزم [33] الترجيح بلا مرجح ، أو التسلسل [ المتفق على امتناعه والدور الممتنع ] [34] ، وكل ذلك ممتنع [35] والتسلسل المتفق على امتناعه هو التسلسل في المؤثرات [ وفي تمام التأثير ] [36] ، فأما التسلسل في الآثار فهو مورد النزاع .

                  وأولئك يبطلون القسمين بناء على أن ما لا يتناهى يمتنع فيه التفاوت .

                  وجماهير الفلاسفة مع أئمة أهل الملل [37] فإنهم لا ينكرون القسم الثاني .

                  وحينئذ فيقال لهؤلاء المتفلسفة : [38] إن كان التسلسل [ في الآثار ] [39] ممتنعا بطل قولكم ، وإذا بطل القول بطلت حجته بالضرورة ; لأن القول الباطل لا تقوم عليه حجة صحيحة . وإن كان ممكنا بطلت حجتكم [ لإمكان أن تكون كلماته لا نهاية لها ، وأنه لم يزل متكلما بمشيئته أو فعالا بمشيئته ، فعلا بعد فعل من غير قدم شيء بعينه من الأفعال والمفعولات ] [40] ، فالحجة باطلة على التقديرين ، فإنه إذا كان تسلسل [41] الآثار ممكنا أمكن حدوث الأفلاك بأسباب قبلها حادثة .

                  [ ص: 123 ] والرسل صلوات الله عليهم أجمعين أخبرت بأن [42] الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك ، وهذا مما علم [43] بالاضطرار والنقل المتواتر من دين الرسل [44] ، وأدلتكم ليس فيها ما يوجب قدم السماوات فقولكم بقدمها ليس فيه [45] حجة عقلية ، فهو تكذيب للرسل بلا سبب .

                  وأيضا فالعقل الصريح يبطل قولكم ، فإن الأفلاك وغيرها من العالم مستلزم [46] للحوادث ، فلو كان قديما للزم أن يكون صادرا عن موجب له قديم ، فحينئذ يكون الموجب مستلزما [47] لموجبه ومقتضاه لا يتأخر عنه ، إذ لو جاز تأخر موجبه عنه [ لم تكن [48] علة تامة لاستلزام العلة التامة معلولها وإذا لم تكن [49] علة تامة امتنع أن يقارنه موجبه لامتناع قدم المعلول بدون علة تامة . وأيضا فلو جاز تأخر موجبه ] [50] مع جواز مقارنته له في الأزل لافتقر تخصيصه [51] بأحدهما إلى مرجح غير الموجب بذاته [52] ، وليس هناك مرجح غيره فامتنع [ ص: 124 ] وجود الأفلاك وغيرها ، وهذا باطل فإنها موجودة مشهودة عيانا ، وهم يسلمون هذا ، ويقولون بأنها معلول علة قديمة ، وهو موجب بالذات لا يتأخر عنه موجبه .

                  وإذا كان هذا معلوما بالعقل الصريح وهم يوافقون عليه ، بل هو أصل قولهم ، قيل لهم : فما يستلزم الحوادث يمتنع أن يصدر عن موجب بالذات ; لأن الحوادث تحدث شيئا بعد شيء [53] ، وما يحدث شيئا فشيئا لا تكون أجزاؤه قديمة أزلية ، فلا تكون صادرة عن موجب بالذات ، [ فامتنع أن تكون الحوادث صادرة عن موجب بالذات ] [54] ، وامتنع صدور شيء من العالم بدون الحوادث اللازمة له ; لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع . فتبين أنه يمتنع أن يكون الفلك قديما أزليا ، ولا يمكن أن يقال : كان خاليا عن الحوادث في الأزل ثم حدثت فيه ; لأنه يقال حينئذ : فلا بد [55] لتلك الحوادث من سبب ، فالقول فيها كالقول في غيرها ، فإن جاز أن يحدث بدون سبب حادث ، أمكن ذلك في الفلك ، وبطلت حجتهم ، ولزم من ذلك ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح ، وإن كان لا بد لها من سبب لزم التسلسل ودوام الحوادث ، وأن الفلك وكل ما سوى الله لم يزل مقارنا للحوادث [56] ، وكل ممكن قارن الحوادث امتنع أن يكون صادرا عن موجب بالذات ، فامتنع أن يكون قديما .

                  [ ص: 125 ] والناس قد تنازعوا فيما يستلزم الحوادث ، وهو ما لا يخلو عن الحوادث [57] وما لا بد أن تقارنه الحوادث ، هل يجب أن يكون حادثا أو لا يجب حدوثه بل يجوز قدمه ، سواء كان هو الواجب الغني عما سواه ، أو كان ممكنا ، أو يفرق بين الواجب بنفسه الغني عما سواه وبين الممكن الفقير [58] إلى غيره ؟ على ثلاثة أقوال : فالأول : قول من يقول من طوائف النظار وأهل الكلام بامتناع دوام فاعلية الرب [59] وامتناع فعل الرب وتكلمه بمشيئته وقدرته [60] في الأزل وأن [61] ذلك غير ممكن ، وهؤلاء متنازعون في إمكان [62] دوام فاعليته في المستقبل على قولين .

                  و [ القول ] الثاني [63] : قول الفلاسفة الذين يقولون بقدم ما سوى الله : إما الأفلاك وإما العقول وإما غير ذلك ، ويجعلون الرب [ سبحانه ] [64] موجبا بذاته ، لا يمكنه إحداث شيء ولا تغيير شيء من العالم ، بل حقيقة قولهم : إن الحوادث لم تصدر عنه ، بل [ صدرت ] وحدثت [65] بلا محدث .

                  و [ القول ] الثالث : [66] قول أئمة أهل الملل الذين يقولون : إن الله خالق [ ص: 126 ] كل شيء ، وكل ما سوى الله كائن بعد أن لم يكن ، مع دوام قادرية الله ، وأنه لم يزل متكلما إذا شاء ، بل لم يزل فاعلا أفعالا تقوم بنفسه [67] .

                  وأقوال أئمة الفلاسفة [68] وأساطينهم الذين كانوا قبل أرسطو توافق [69] قول هؤلاء ، بخلاف أرسطو [70] وأتباعه الذين قالوا بقدم الأفلاك [71] ، فإن قول هؤلاء معلوم الفساد بصحيح المنقول وصريح المعقول [72] .

                  وأيضا فإن كون المفعول المعين لازما للفعل قديما بقدمه دائما بدوامه [73] ممتنع لذاته ، وإن قدر أن الفاعل غير مختار فكيف إذا ثبت أنه يفعل بمشيئته وقدرته ؟ .

                  [ ص: 127 ] وما [74] يذكرونه من تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان لا يعقل ولا يوجد [75] إلا فيما يكون شرطا ، فإن الشرط قد يقارن المشروط ، أما العلة التي هي فعل فاعل للمعلول فهذه لا يعقل [76] فيها مقارنتها للمعلول في الزمان .

                  وهم يمثلون تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم ، وتقدم الحركة على الصوت [77] وغير ذلك ، وجميع ما يمثلون به إما أن يكون شرطا لا فاعلا ، وإما أن يكون متقدما بالزمان ، وأما فاعل غير متقدم فلا يعقل قط [78] .

                  وليس هذا موضع بسط [ هذه ] [79] الأمور ، فإنها أضل مقالات [80] أهل الأرض ، وقد بسط الكلام عليها في غير هذا [81] .

                  والمقصود هنا التنبيه على أصل القدرية ، فإن حقيقة قولهم أن أفعال الحيوان تحدث بلا فاعل ، كما أن أصل قول الفلاسفة الدهرية [82] أن حركة الفلك وجميع الحوادث تحدث [83] بلا سبب حادث ، وكذلك من وافق [ ص: 128 ] القدرية [84] من أهل الإثبات على أن الرب تعالى لا تقوم به الأفعال ، وقالوا [85] : إن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق ، كما تقوله الأشعرية ومن وافقهم [86] فإنه يلزمه في فعل الرب [87] ما لزم القدرية .

                  ولهذا عامة شناعات هذا الرافضي [88] هي [89] على هؤلاء . وهؤلاء طائفة من طوائف [90] المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان [91] ، وقد وافقهم في ذلك كثير من الشيعة الزيدية والإمامية وغيرهم . وقولهم على كل حال [92] أقل خطأ [93] من قول القدرية ، بل أصل خطئهم [94] موافقتهم للقدرية في بعض خطئهم [95] ، وأئمة أهل السنة لا يقولون بشيء من هذا الخطأ [96] ، وكذلك جماهير أهل السنة من أهل الحديث والفقه والتفسير والتصوف لا يقرون [97] بهذه الأقوال المتضمنة للخطأ [98] ، بل هم متفقون على أن الله خالق أفعال العباد ، وعلى أن العبد قادر مختار يفعل بمشيئته وقدرته [99] ، والله خالق ذلك [ ص: 129 ] كله ، وعلى الفرق بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية ، وعلى أن الرب يفعل بمشيئته وقدرته ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لم يزل قادرا على الأفعال موصوفا بصفات الكمال ، متكلما إذا شاء ، وأنه موصوف بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] [100] من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، فيثبتون علمه المحيط ، ومشيئته النافذة ، وقدرته الكاملة ، وخلقه لكل شيء .

                  ومن هداه الله إلى فهم قولهم ، علم أنهم جمعوا محاسن الأقوال ، وأنهم وصفوا الله بغاية الكمال ، وأنهم هم المستمسكون [101] بصحيح المنقول وصريح المعقول ، وأن قولهم هو القول السديد السليم من التناقض [102] الذي أرسل الله به رسله [103] وأنزل به كتبه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية