الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) قال [ الرافضي ] [1] : " ومنها أنه يلزم أن لا يبقى [2] عندنا فرق بين من أحسن إلينا غاية الإحسان طول عمره ، و [ بين ] من أساء [3] إلينا غاية الإساءة طول عمره ، ولم يحسن منا [ ص: 130 ] شكر الأول وذم الثاني ، لأن الفعلين صادران من الله [ تعالى ] عندهم [4] " .

                  فيقال : هذا باطل ، فإن اشتراك الفعلين في كون الرب خلقهما لا يستلزم اشتراكهما في سائر الأحكام ، فإنه من المعلوم بصريح العقل [5] أن الأمور المختلفة تشترك في أمور كثيرة [6] لا سيما في مثل هذا المقام ، فإن جميع ما سوى الله مشترك [7] في أن الله خلقه ، وأنه ربه ومليكه .

                  ثم من المعلوم [8] أن المخلوقات بينها من الافتراق ما لا يحصيه إلا الخلاق ، فالله تعالى جعل الظلمات والنور ، [ وقال ] [9] : وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور [ سورة فاطر : 19 ، 20 ] والله خالق الجنة والنار ، ولا تستوي الجنة و [ لا ] النار [10] ، ( 8 والله خالق الظل والحرور ، ولا يستوي الظل ولا الحرور ( 8 - 8 ) [11] 8 ) ، والله خالق الأعمى والبصير ولا يستوي الأعمى والبصير ، والله خالق الحي والميت ، والقادر والعاجز ، والعالم والجاهل ، ولا يستوي هذا وهذا ، والله خالق ما ينفع وما يضر ، وما يوجب اللذة وما يوجب الألم ، ولا يستوي هذا وهذا ، فإذا كان الله خالق الأطعمة [ ص: 131 ] الطيبة والخبيثة ، ثم إن الطيب يحب ويشتهى ، ويمدح ويبتغى ، والخبيث يذم ويبغض [12] ويجتنب ، والله خالق هذا وهذا ، والله خالق الملائكة والأنبياء [13] ، وخالق [ الشياطين و ] الحيات والعقارب وغيرها [14] من الفواسق ، فهذا [15] محمود معظم ، وهذا فاسق يقتل في الحل والحرم ، وهو سبحانه وتعالى خالق [16] في هذا طبيعة كريمة تقتضي الخير والإحسان ، وفي هذا طبيعة خبيثة توجب الشر والعدوان ، مع ما بينهما من الفرق في الحب والبغض ، والمدح والذم ونحو ذلك [17] .

                  وإذا [18] كان الشرع والعقل متطابقين على أن ما جعل الله فيه منفعة للناس ومصلحة لهم يحب ويمدح [ ويطلب ] [19] ، وإن كان جمادا أو حيوانا بهيميا [20] ، فكيف لا يكون من جعله محسنا للناس يحصل لهم به منافع ومصالح أحق بأن يحب ويمدح ويثنى عليه ، وكذلك في جانب الشر .

                  والقدري يقول : لا يكون العبد محمودا ومشكورا على إحسانه ، ومذموما على إساءته ، إلا بشرط أن لا يكون الله جعله محسنا إلينا ولا من به علينا إذا فعل الخير ، ولا ابتلانا به إذا فعل الشر ، وهذا حقيقة ما قاله هذا الرافضي القدري [21] .

                  [ ص: 132 ] ومعلوم فساد هذا القول شرعا وعقلا ، فإن حقيقته أنه حيث يشكر العبد لا يشكر الرب وحيث يشكر الرب لا يشكر العبد .

                  وحقيقته أنه [22] لا يكون لله علينا منة في تعليم الرسول وتبليغه إلينا رسالات [23] ربه . وقد قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة [ سورة آل عمران : 164 ] وعلى قول القدري يكون إرسال الله [ له ] [24] من جنس إرسال مخلوق إلى مخلوق [25] ، فذاك تفضل بنفس الإرسال لا بأن جعل الرسل تتلوا وتعلم وتزكي ، بل هذه الأفعال منتسبة [26] عندهم فيها للرسول [27] الذي خلقها [ عندهم ] دون المرسل الذي [28] لم يحدث شيئا منها .

                  والقدري يقول الرسول نطق بنفسه ، لم ينطقه الله ولا أنطق الله شيئا ، بل جعل فيه قدرة على أن ينطق وأن لا ينطق ، وهو يحدث أحدهما مع استواء الحال قبل الإحداث وبعده ، بدون معونة الله له على إحداث النطق وتيسيره له .

                  وعلى قول القدري لا يكون لله نعمة على عباده باستغفار الملائكة لهم ، [ ص: 133 ] وتعليم العلماء لهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، وعدل ولاة الأمور عليهم ، ولا يكون الله مبتليا لهم إذا ظلمهم ولاة [ الأمور ] [29] .

                  وفي الأثر [ المعروف ] [30] : " يقول الله [ عز وجل ] [31] : " أنا الله [32] مالك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة ، فلا تشتغلوا بسب الملوك وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم " [33] . وعند القدري لا يقدر الله أن يجعل الملوك لا [34] عادلين ولا جائرين ، ولا محسنين ولا مسيئين ، ولا يقدر أن يجعل أحدا محسنا إلى أحد ، ولا مسيئا إلى أحد ، ولا يقدر أن [ ينعم ] [35] على أحد بمن [36] يحسن إليه ويكرمه ، ولا يقدر [ على ] [37] أن يبتليه بمن يعذبه ويهينه " .

                  وعلى قول القدري لم يبعث ( الله ) عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، فإنه لم يأمرهم بذلك ولا جعلهم فاعلين ، بل أعطاهم قدرة ، وكذلك عندهم لم يرسل الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [38] .

                  [ ص: 134 ] وقد قال بعضهم إنه على قول القدري [39] لا يستحق [ الله ] أن يشكر بحال [40] ، فإن الشكر إنما يكون على النعم ، والنعم إما دينية وإما دنيوية وإما أخروية ، فالنعم الدنيوية هي عنده واجبة على الله ، وكذلك ما يقدر عليه من الدينية كالإرسال وخلق القدرة ، وأما نفس الإيمان والعمل الصالح فهو عنده لا يقدر أن يجعل أحدا مؤمنا ولا مهتديا ولا صالحا ولا برا ولا تقيا ، فلا يستحق أن يشكر على شيء من هذه الأمور التي لم يفعلها ولا يقدر عليها عنده [41] وأما النعم الأخروية فالجزاء واجب [42] [ عليه ] [43] عنده ، كما يجب على المستأجر أن يوفي الأجير أجره [44] ، ومعلوم أن هذا عنده [45] من باب العدل المستحق لا من باب الفضل [46] والإحسان ، بمنزلة من قضى دينا كان عليه فلا يستحق الشكر على فضل ولا إحسان .

                  ومن هذا حقيقة قوله كيف يعيب أهل الإيمان [47] الذين يشكرون الله على كل [ حال و ] نعمة [48] ، ويشكرون من أجرى الله الخير على يديه ، [ ص: 135 ] فإنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله [49] ، ومن أساء إليهم يعتقدون جواز مقابلته بالعدل [50] ، وأن العفو عنه أفضل إذا لم يكن في عقوبته حق لله ، ويرى أحدهم أن الله أنعم عليه بإحسان الأول [51] ليشكره عليه ، وأنه ابتلاه بإساءة هذا إليه كما يبتليه بأنواع البلاء ليصبر ويستغفر من ذنوبه ويرضى بقضائه .

                  كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يقضي الله لمؤمن [52] قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وإن أصابته ضراء [53] فصبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " [54] [ ص: 136 ] وقد قال تعالى : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ سورة مريم : 83 ] [55] ، وقال تعالى : فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا [ سورة الإسراء : 5 ] فإرساله الشياطين وبعثه لهؤلاء المعتدين على بني إسرائيل أهو [56] أمر شرعي أمرهم به ، كما أرسل [57] رسله بالبينات والهدى ، وكما بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم [58] ؟ أم هو تقدير وتسليط ، وإن كان المسلط ظالما معتديا [59] عاصيا لدين الله وشرعه [60] .

                  ثم من المعلوم أن عامة أهل الأرض مقرون بالقدر ، وهم مع هذا [61] يمدحون المحسن ويذمون المسيء فطروا على هذا وعلى هذا ، فيقرون أن الله ( تعالى ) خالق كل شيء وربه ، وأنه قدر ذلك كله وسلط هذا ويسر هذا ، ويمدحون هذا ويذمون هذا ، وأهل الإثبات المقرون بالقدر يمدحون المحسن ويذمون المسيء ، [62] ، مع اتفاقهم على أن الله خالق الفعلين .

                  فقولهم : إنه يلزمهم [63] أن لا يفرقوا بين هذا وهذا - لزوم ما لا يلزم [64] [ ص: 137 ] وغاية الأمر أن يكون يكون : [65] الله جعل هذا مستحقا للمدح والثواب ، وهذا مستحقا للذم والعقاب فإذا كان قد جعل هذا مستحقا وهذا مستحقا ، لم يمتنع أن يمدح هذا ويذم هذا [66] ، لكن خلقه لهذين الزوجين كخلقه لغير ذلك ، وهذا يتعلق بالحكمة الكلية في خلق [67] المخلوقات ، كما قد ذكر في غير هذا الموضع .

                  وعلى رأي القدري لا يستحق المدح والثناء والشكر إلا من لم يجعله الله محسنا ، ولا يستحق الذم إلا من لم يجعله الله مسيئا [68] ، بل من لا يقدر [ الله ] أن [69] يجعله محسنا ولا مسيئا فعنده [70] لا مدح ولا ذم إلا بشرط عجز الله [ تعالى ] [71] وقصور مشيئته وخلقه ، وحدوث الحوادث بدون محدث .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية