( فصل ) قال [ الرافضي ] [1] : " ومنها أنه يلزم أن لا يبقى [2] عندنا فرق بين من أحسن إلينا غاية الإحسان طول عمره ، و [ بين ] من أساء [3] إلينا غاية الإساءة طول عمره ، ولم يحسن منا [ ص: 130 ] شكر الأول وذم الثاني ، لأن الفعلين صادران من الله [ تعالى ] عندهم [4] " .
فيقال : هذا باطل ، فإن ، فإنه من المعلوم بصريح العقل اشتراك الفعلين في كون الرب خلقهما لا يستلزم اشتراكهما في سائر الأحكام [5] أن الأمور المختلفة تشترك في أمور كثيرة [6] لا سيما في مثل هذا المقام ، فإن جميع ما سوى الله مشترك [7] في أن الله خلقه ، وأنه ربه ومليكه .
ثم من المعلوم [8] أن ، فالله تعالى جعل الظلمات والنور ، [ وقال ] المخلوقات بينها من الافتراق ما لا يحصيه إلا الخلاق [9] : وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور [ سورة فاطر : 19 ، 20 ] والله خالق الجنة والنار ، ولا تستوي الجنة و [ لا ] النار [10] ، ( 8 والله خالق الظل والحرور ، ولا يستوي الظل ولا الحرور ( 8 - 8 ) [11] 8 ) ، والله خالق الأعمى والبصير ولا يستوي الأعمى والبصير ، والله خالق الحي والميت ، والقادر والعاجز ، والعالم والجاهل ، ولا يستوي هذا وهذا ، والله خالق ما ينفع وما يضر ، وما يوجب اللذة وما يوجب الألم ، ولا يستوي هذا وهذا ، فإذا كان الله خالق الأطعمة [ ص: 131 ] الطيبة والخبيثة ، ثم إن الطيب يحب ويشتهى ، ويمدح ويبتغى ، والخبيث يذم ويبغض [12] ويجتنب ، والله خالق هذا وهذا ، والله خالق الملائكة والأنبياء [13] ، وخالق [ الشياطين و ] الحيات والعقارب وغيرها [14] من الفواسق ، فهذا [15] محمود معظم ، وهذا فاسق يقتل في الحل والحرم ، وهو سبحانه وتعالى خالق [16] في هذا طبيعة كريمة تقتضي الخير والإحسان ، وفي هذا طبيعة خبيثة توجب الشر والعدوان ، مع ما بينهما من الفرق في الحب والبغض ، والمدح والذم ونحو ذلك [17] .
وإذا [18] كان [ ويطلب ] الشرع والعقل متطابقين على أن ما جعل الله فيه منفعة للناس ومصلحة لهم يحب ويمدح [19] ، وإن كان جمادا أو حيوانا بهيميا [20] ، فكيف لا يكون من جعله محسنا للناس يحصل لهم به منافع ومصالح أحق بأن يحب ويمدح ويثنى عليه ، وكذلك في جانب الشر .
والقدري يقول : لا يكون العبد محمودا ومشكورا على إحسانه ، ومذموما على إساءته ، إلا بشرط أن لا يكون الله جعله محسنا إلينا ولا من به علينا إذا فعل الخير ، ولا ابتلانا به إذا فعل الشر ، وهذا حقيقة ما قاله هذا الرافضي القدري [21] .
[ ص: 132 ] ومعلوم فساد هذا القول شرعا وعقلا ، فإن حقيقته أنه . حيث يشكر العبد لا يشكر الرب وحيث يشكر الرب لا يشكر العبد
وحقيقته أنه [22] لا يكون لله علينا منة في تعليم الرسول وتبليغه إلينا رسالات [23] ربه . وقد قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة [ سورة آل عمران : 164 ] وعلى قول القدري يكون إرسال الله [ له ] [24] من جنس إرسال مخلوق إلى مخلوق [25] ، فذاك تفضل بنفس الإرسال لا بأن جعل الرسل تتلوا وتعلم وتزكي ، بل هذه الأفعال منتسبة [26] عندهم فيها للرسول [27] الذي خلقها [ عندهم ] دون المرسل الذي [28] لم يحدث شيئا منها .
والقدري يقول ، وهو يحدث أحدهما مع استواء الحال قبل الإحداث وبعده ، بدون معونة الله له على إحداث النطق وتيسيره له . الرسول نطق بنفسه ، لم ينطقه الله ولا أنطق الله شيئا ، بل جعل فيه قدرة على أن ينطق وأن لا ينطق
وعلى قول القدري لا يكون لله نعمة على عباده باستغفار الملائكة لهم ، [ ص: 133 ] وتعليم العلماء لهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، وعدل ولاة الأمور عليهم ، ولا يكون الله مبتليا لهم إذا ظلمهم ولاة [ الأمور ] [29] .
وفي الأثر [ المعروف ] [30] : " يقول الله [ عز وجل ] [31] : " أنا الله [32] مالك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة ، فلا تشتغلوا بسب الملوك وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم " [33] . وعند القدري لا يقدر الله أن يجعل الملوك لا [34] عادلين ولا جائرين ، ولا محسنين ولا مسيئين ، ولا يقدر أن يجعل أحدا محسنا إلى أحد ، ولا مسيئا إلى أحد ، ولا يقدر أن [ ينعم ] [35] على أحد بمن [36] يحسن إليه ويكرمه ، ولا يقدر [ على ] [37] أن يبتليه بمن يعذبه ويهينه " .
وعلى قول القدري ، وكذلك عندهم لم يرسل الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا لم يبعث ( الله ) عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، فإنه لم يأمرهم بذلك ولا جعلهم فاعلين ، بل أعطاهم قدرة [38] .
[ ص: 134 ] وقد قال بعضهم إنه على قول القدري [39] لا يستحق [ الله ] أن يشكر بحال [40] ، فإن الشكر إنما يكون على النعم ، والنعم إما دينية وإما دنيوية وإما أخروية ، فالنعم الدنيوية هي عنده واجبة على الله ، وكذلك ما يقدر عليه من الدينية كالإرسال وخلق القدرة ، وأما نفس الإيمان والعمل الصالح فهو عنده لا يقدر أن يجعل أحدا مؤمنا ولا مهتديا ولا صالحا ولا برا ولا تقيا ، فلا يستحق أن يشكر على شيء من هذه الأمور التي لم يفعلها ولا يقدر عليها عنده [41] وأما النعم الأخروية فالجزاء واجب [42] [ عليه ] [43] عنده ، كما يجب على المستأجر أن يوفي الأجير أجره [44] ، ومعلوم أن هذا عنده [45] من باب لا من باب الفضل العدل المستحق [46] والإحسان ، بمنزلة من قضى دينا كان عليه فلا يستحق الشكر على فضل ولا إحسان .
ومن هذا حقيقة قوله كيف يعيب أهل الإيمان [47] الذين يشكرون الله على كل [ حال و ] نعمة [48] ، ويشكرون من أجرى الله الخير على يديه ، [ ص: 135 ] فإنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله [49] ، ومن أساء إليهم يعتقدون جواز مقابلته بالعدل [50] ، وأن العفو عنه أفضل إذا لم يكن في عقوبته حق لله ، ويرى أحدهم أن الله أنعم عليه بإحسان الأول [51] ليشكره عليه ، وأنه ابتلاه بإساءة هذا إليه كما يبتليه بأنواع البلاء ليصبر ويستغفر من ذنوبه ويرضى بقضائه .
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " [52] قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وإن أصابته ضراء [53] فصبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " لا يقضي الله لمؤمن [54] [ ص: 136 ] وقد قال تعالى : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ سورة مريم : 83 ] [55] ، وقال تعالى : فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا [ سورة الإسراء : 5 ] أهو فإرساله الشياطين وبعثه لهؤلاء المعتدين على بني إسرائيل [56] أمر شرعي أمرهم به ، كما أرسل [57] رسله بالبينات والهدى ، وكما بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم [58] ؟ أم هو تقدير وتسليط ، وإن كان المسلط ظالما معتديا [59] عاصيا لدين الله وشرعه [60] .
ثم من المعلوم أن عامة أهل الأرض مقرون بالقدر ، وهم مع هذا [61] يمدحون المحسن ويذمون المسيء فطروا على هذا وعلى هذا ، فيقرون أن الله ( تعالى ) خالق كل شيء وربه ، وأنه قدر ذلك كله وسلط هذا ويسر هذا ، ويمدحون هذا ويذمون هذا ، ، وأهل الإثبات المقرون بالقدر يمدحون المحسن ويذمون المسيء [62] ، مع اتفاقهم على أن الله خالق الفعلين .
فقولهم : إنه يلزمهم [63] أن لا يفرقوا بين هذا وهذا - لزوم ما لا يلزم [64] [ ص: 137 ] وغاية الأمر أن يكون يكون : [65] الله جعل هذا مستحقا للمدح والثواب ، وهذا مستحقا للذم والعقاب فإذا كان قد جعل هذا مستحقا وهذا مستحقا ، لم يمتنع أن يمدح هذا ويذم هذا [66] ، لكن خلقه لهذين الزوجين كخلقه لغير ذلك ، وهذا يتعلق بالحكمة الكلية في خلق [67] المخلوقات ، كما قد ذكر في غير هذا الموضع .
وعلى رأي القدري لا يستحق المدح والثناء والشكر إلا من لم يجعله الله محسنا ، ولا يستحق الذم إلا من لم يجعله الله مسيئا [68] ، بل من لا يقدر [ الله ] أن [69] يجعله محسنا ولا مسيئا فعنده [70] لا مدح ولا ذم إلا بشرط عجز الله [ تعالى ] [71] وقصور مشيئته وخلقه ، وحدوث الحوادث بدون محدث .