الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ويقال : ثانيا : الجواب عن هذا التقسيم أن يقال : هذا التقسيم ليس بمنحصر [1] . وذلك أن قول القائل : " المعصية ممن ؟ " لفظ [ ص: 142 ] مجمل ، فإن المعصية والطاعة عمل وعرض قائم بغيره [2] ، فلا بد له من محل يقوم به ، وهي قائمة بالعبد لا محالة ، وليست قائمة بالله [ تبارك وتعالى ] [3] بلا ريب .

                  ومعلوم أن كل مخلوق يقال : هو من الله ، بمعنى أنه خلقه بائنا عنه لا بمعنى أنه قام به واتصف به ، كما في قوله [ تعالى ] [4] : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ سورة الجاثية : 13 ] [5] ، وقوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله [ سورة النحل : 53 ] .

                  والله تعالى وإن كان خالقا لكل شيء فإنه خلق الخير والشر لما له في ذلك من الحكمة التي باعتبارها كان فعله حسنا متقنا ، كما قال : الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين [ سورة السجدة : 7 ] وقال : صنع الله الذي أتقن كل شيء [ سورة النمل : 88 ] فلهذا لا يضاف إليه الشر مفردا ، بل إما أن يدخل في العموم ، وإما أن يضاف إلى السبب ، وإما أن يحذف فاعله .

                  فالأول : كقول [ الله تعالى ] [6] الله خالق كل شيء [ سورة الزمر : 62 ] والثاني : كقوله : قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق [ سورة الفلق : 1 ، 2 ] والثالث كقوله فيما حكاه عن الجن : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا [ سورة الجن : 10 ] و [ قد ] [ ص: 143 ] قال ن ، م : قال . في أم القرآن : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ سورة الفاتحة : 6 ، 7 ] فذكر أنه فاعل النعمة ، وحذف فاعل الغضب ، وأضاف الضلال إليهم . وقال الخليل [ عليه السلام ] [7] وإذا مرضت فهو يشفين [ سورة الشعراء : 80 ] ، ولهذا كان لله الأسماء الحسنى ، فسمى [8] نفسه بالأسماء الحسنى المقتضية للخير .

                  وإنما يذكر الشر في المفعولات ، كقوله : اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم [ سورة المائدة : 98 ] [9] ، وقوله في آخر سورة [10] الأنعام : إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم [ سورة الأنعام : 165 ] ( * وقوله في الأعراف : [11] إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم [ سورة الأعراف : 167 ] . * ) [12] وقوله : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [ سورة الحجر : 49 ، 50 ] وقوله : حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو [ سورة غافر : 13 ] .

                  وهذا لأن ما يخلقه من الأمور التي فيها شر [13] بالنسبة إلى بعض الناس [ ص: 144 ] فله فيها [14] حكمة ، هو بخلقه لها [15] حميد مجيد ، له الملك وله الحمد ، فليست بالإضافة إليه شرا ولا مذمومة ، فلا يضاف إليه ما يشعر بنقيض ذلك ، كما أنه سبحانه خالق [16] الأمراض والأوجاع والروائح الكريهة والصور المستقبحة والأجسام الخبيثة كالحيات والعذرات [17] لما له في ذلك من الحكمة البالغة .

                  فإذا قيل : هذه العذرة وهذه الروائح الخبيثة من الله ، أوهم ذلك أنها خرجت منه ، والله منزه عن ذلك . وكذلك إذا قيل : القبائح من الله [ أو المعاصي من الله ] [18] ، قد يوهم ذلك أنها خارجة من ذاته ، كما تخرج من ذات العبد ، وكما يخرج الكلام من المتكلم ، والله منزه عن ذلك ، أو يوهم [ ذلك ] أنها [19] منه قبيحة وسيئة ، والله منزه عن ذلك .

                  بل جميع خلقه خلقه له حسن على قولي [20] التفويض والتعليل . وكذلك إذا قيل للطعوم والألوان والروائح ونحوها من الأعراض : هذا الطعم الحلو والمر من الله أو من هذا النبات ، وهذه الروائح الطيبة أو الخبيثة من الله أو من هذه العين [21] ، وأمثال ذلك . وقد يوهم إذا قيل : [ ص: 145 ] إنها من الله أنه أمر بها ، والله لا يأمر بالفحشاء ، ولا يحب الفساد [22] ، ولا يرضى لعباده الكفر .

                  وهذا مثل قول [23] ابن مسعود لما سئل عن المفوضة : أقول [24] فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه . وكذلك قال أبو بكر [25] في الكلالة ، وقال عمر نحو ذلك . ومرادهم أن الصواب قد أمر الله به وشرعه وأحبه [26] ورضيه ، والخطأ لم يأمر به ولم يحبه ولم يشرعه ، بل هو مما زينه الشيطان لنفسي ففعلته بأمر الشيطان ، فهو مني ومن الشيطان .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية