الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الرابع : أن يقال هذه المسألة [1] مبنية على أصل : وهو [2] أن الحب والرضا هل هو الإرادة أو هو صفة مغايرة للإرادة ؟ فكثير من أهل النظر من المعتزلة والأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء من أصحاب [ الإمام ] [3] أحمد والشافعي وغيرهما يجعلونهما [4] جنسا واحدا . ثم القدرية يقولون : بل هو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان فلا يريده [5] ، والمثبتة يقولون : بل هو يريد ذلك فيكون قد أحبه ورضيه .

                  وأولئك يتأولون الآيات المثبتة لإرادة هذه الحوادث ، كقوله تعالى : ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا [ سورة الأنعام : 125 ] ، و [ قوله ] [6] : إن كان الله يريد أن يغويكم [ سورة هود : 34 ] .

                  وهؤلاء يتأولون الآيات النافية لمحبة الله ورضاه بها [7] ، كقوله تعالى : والله لا يحب الفساد [ سورة البقرة : 205 ] ، ولا يرضى لعباده الكفر [ سورة الزمر : 7 ] ، وقوله [8] : إذ يبيتون ما لا يرضى من القول [ سورة النساء : 108 ] .

                  [ ص: 159 ] وأما جماهير الناس من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف فيفرقون بين النوعين ، وهو قول أئمة الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، [ وهو قول المثبتين للقدر قبل الأشعري ، مثل ابن كلاب كما ذكره [9] أبو المعالي الجويني ] ما [10] ، فإن النصوص [11] قد صرحت بأن الله لا يرضى الكفر والفسوق والعصيان ولا يحب ذلك ، مع كون الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى . وتأويل ذلك بمعنى [12] لا يرضاها من المؤمنين [13] أو لا يرضاها ولا يحبها [14] دينا بمعنى : لا يريدها - يقتضي أن يقال : لا يرضى الإيمان أي من الكافر [15] أو لا يريده غير دين .

                  والله تعالى قد أخبر أنه يكره المعاصي بقوله : كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها [ سورة الإسراء : 38 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى كره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال " [16] .

                  [ ص: 160 ] والأمة [17] متفقة على أن الله يكره المنهيات دون المأمورات ، ويحب المأمورات ، دون المنهيات ، وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ، ويحب التوابين ويحب المتطهرين ، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وأنه يمقت الكافرين ويغضب عليهم .

                  وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أحد أحب إليه المدح من الله ، وما أحد أحب إليه العذر من الله " . [18] وقال : " ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته " . [19] ، وقال : " إن الله وتر يحب الوتر " [20] ، [ ص: 161 ] " [ إن ] الله جميل يحب الجمال " [21] ، وقال : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته " [22] .

                  وقال : " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " [23] ، " إن الله يرضى لكم [ ص: 162 ] ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " [24] .

                  وقال : " لله أشد فرحا بتوبة عبده [ المؤمن ] [25] من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها ، فاضطجع ينتظر الموت ، فلما أفاق إذا أ ، ب : فإذا . بدابته عليها طعامه وشرابه ، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا [ الرجل ] [26] براحلته " وهذا الحديث في الصحاح من وجوه متعددة ، وهو مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم متفق على صحته وثبوته [27] ، وكذلك أمثاله .

                  وإذا [28] كان كذلك فالطاعات يريدها من العباد الإرادة ( * المتضمنة [ ص: 163 ] لمحبته لها ورضاه بها إذا وقعت وإن لم يفعلها ، والمعاصي يبغضها ويمقتها ويكره من العباد * ) [29] أن يفعلوها وإن أراد [30] أن يخلقها هو لحكمة اقتضت ذلك [31] ولا يلزم إذا كرهها [32] للعبد لكونها تضر العبد [ ويبغضها أيضا ] [33] - أن يكره أن يخلقها هو لما له فيها [34] من الحكمة ، فإن الفعل قد يحسن من أحد المخلوقين ويقبح من الآخر لاختلاف حال الفاعلين الفاعلين : [35] ، فكيف يلزم أنه ما قبح من العبد قبح [36] من الرب مع أنه لا نسبة للمخلوق مع الخالق [37] وإذا كان المخلوق قد [38] يريد ما لا يحبه ، كإرادة المريض لشرب [39] الدواء الذي يبغضه [40] ، ويحب ما لا يريده كمحبة المريض الطعام الذي يضره ، [ ومحبة الصائم الطعام والشراب الذي لا يريد أن يأكله ، ومحبة الإنسان للشهوات التي يكرهها بعقله ودينه ] [41] .

                  فقد عقل ثبوت أحدهما دون الآخر ، وأن أحدهما ليس بمستلزم [ ص: 164 ] للآخر في المخلوقات في المخلوقات : [42] . فكيف لا يمكن ثبوت أحدهما دون الآخر في حق الخالق تعالى ؟

                  وقد يقال : كل هذه الأمور مرادة محبوبة [43] ، لكن فيها ما يراد لنفسه ، فهو مراد بالذات محبوب لله [44] مرضي له ، وفيها [45] ما يراد لغيره ، وهو مراد بالعرض لكونه وسيلة إلى المراد المحبوب لذاته .

                  فالإنسان يريد العافية لنفسها [46] ويريد شرب الدواء لكونه وسيلة إليها ، وهو [47] يريد ذلك من هذه الجهة وإن لم يكن محبوبا [48] في نفسه ، وإذا كان المراد ينقسم إلى مراد لنفسه وهو المحبوب لنفسه ، وإلى مراد لغيره لكونه وسيلة إلى غيره ، وهذا قد لا يحب لنفسه ، أمكن أن يجعل الفرق بين المحبة والإرادة [49] من هذا الباب .

                  والإرادة نوعان : فما كان محبوبا فهو مراد لنفسه ، وما كان في نفسه غير محبوب فهو [50] مراد لغيره . وعلى هذا تنبني مسألة محبة الرب [ عز وجل ] [51] نفسه ومحبته لعباده ، فإن الذين جعلوا المحبة والرضا هو [ ص: 165 ] الإرادة [52] العامة ، قالوا : إن الرب لا يحب في الحقيقة ولا يحب ، وتأولوا محبته [ تعالى ] [53] لعباده بإرادته [54] ثوابهم ومحبتهم له بإرادة طاعتهم [55] له والتقرب إليه ، و [ منهم ] طائفة [56] كثيرة قالوا : هو محبوب يستحق أن يحب ، ولكن محبته لغيره بمعنى مشيئته .

                  وأما السلف والأئمة [ وأئمة ] أهل [57] الحديث [ وأئمة ] [58] التصوف ، وكثير من أهل الكلام والنظر ، فأقروا بأنه محبوب لذاته ، بل لا يستحق أن يحب لذاته إلا هو .

                  وهذا [59] حقيقة الألوهية ، وهو حقيقة ملة إبراهيم ، ومن لم يقر بذلك لم يفرق بين الربوبية والإلهية [60] ولم يجعل الله معبودا لذاته ، ولا أثبت التلذذ بالنظر إليه ، ولا أنه أحب إلى أهل الجنة من كل شيء .

                  وهذا القول في الحقيقة هو من أقوال الخارجين عن ملة إبراهيم من المنكرين لكون الله هو المعبود دون ما سواه ، ولهذا لما ظهر هذا القول في أوائل الإسلام قتل من أظهره ، وهو الجعد بن درهم يوم الأضحى ، قتله خالد بن عبد الله القسري برضا علماء الإسلام ، وقال : " ضحوا أيها [ ص: 166 ] الناس ، تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا " ثم نزل فذبحه .

                  وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ، ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ، ويجرنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، وهو الزيادة " . [61] .

                  وقد روي في السنن من غير وجه [62] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول [ في دعائه ] [63] : " وأسألك [64] لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك " [65] .

                  وروى [ الإمام ] أحمد والنسائي [ وغيرهما ] عن [66] عمار بن ياسر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان [ يقول في ] دعائه [67] : " أسألك [ ص: 167 ] لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك ، من ع ، م : في . غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة " [68] .

                  وأما الذين أثبتوا أنه محبوب ، وأن محبته لغيره بمعنى [69] مشيئته ، فهؤلاء ظنوا أن كل ما خلقه فقد أحبه . وهؤلاء قد يخرجون إلى مذاهب الإباحة [70] ، فيقولون : إنه يحب الكفر والفسوق والعصيان [ ويرضى ذلك ] [71] ، وأن العارف إذا شهد هذا المقام [72] لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة لشهوده القيومية العامة ، وخلق الرب لكل شيء ، وقد وقع في هذا [ طائفة من الشيوخ الغالطين ] [73] من شيوخ الصوفية والنظار [74] ، وهو غلط عظيم .

                  والكتاب والسنة و [ اتفاق ] سلف [75] الأمة يبين أن الله يحب أنبياءه [ ص: 168 ] وأولياءه ، ويحب ما أمر به ، ولا يحب الشياطين ولا ما نهى عنه ، وإن [ كان ] [76] كل ذلك بمشيئته .

                  وهذه المسألة وقع النزاع فيها بين الجنيد [ بن محمد ] [77] وطائفة من أصحابه ، فدعاهم إلى الفرق الثاني ، وهو أن يفرقوا في المخلوقات بين ما يحبه وما لا يحبه ، فأشكل هذا عليهم لما رأوا أن كل مخلوق فهو مخلوق بمشيئته ، ولم يعرفوا أنه قد يكون فيما خلقه بمشيئته ما لا يحبه ولا يرضاه ، وكان ما قاله الجنيد وأمثاله [78] هو الصواب .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية