الوجه الرابع : أن يقال هذه المسألة [1] مبنية على أصل : وهو [2] أن ؟ فكثير من أهل النظر من الحب والرضا هل هو الإرادة أو هو صفة مغايرة للإرادة المعتزلة والأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء من أصحاب [ الإمام ] [3] أحمد وغيرهما يجعلونهما والشافعي [4] جنسا واحدا . ثم القدرية يقولون : بل هو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان فلا يريده [5] ، والمثبتة يقولون : بل هو يريد ذلك فيكون قد أحبه ورضيه .
وأولئك يتأولون الآيات المثبتة لإرادة هذه الحوادث ، كقوله تعالى : ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا [ سورة الأنعام : 125 ] ، و [ قوله ] [6] : إن كان الله يريد أن يغويكم [ سورة هود : 34 ] .
وهؤلاء يتأولون بها الآيات النافية لمحبة الله ورضاه [7] ، كقوله تعالى : والله لا يحب الفساد [ سورة البقرة : 205 ] ، ولا يرضى لعباده الكفر [ سورة الزمر : 7 ] ، وقوله [8] : إذ يبيتون ما لا يرضى من القول [ سورة النساء : 108 ] .
[ ص: 159 ] وأما جماهير الناس من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف فيفرقون بين النوعين ، وهو قول أئمة الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم ، [ وهو قول المثبتين للقدر قبل وأحمد ، مثل الأشعري كما ذكره ابن كلاب [9] ] ما أبو المعالي الجويني [10] ، فإن النصوص [11] قد صرحت بأن ، مع كون الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى . وتأويل ذلك بمعنى الله لا يرضى الكفر والفسوق والعصيان ولا يحب ذلك [12] لا يرضاها من المؤمنين [13] أو لا يرضاها ولا يحبها [14] دينا بمعنى : لا يريدها - يقتضي أن يقال : لا يرضى الإيمان أي من الكافر [15] أو لا يريده غير دين .
بقوله : والله تعالى قد أخبر أنه يكره المعاصي كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها [ سورة الإسراء : 38 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " " إن الله تعالى كره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال [16] .
[ ص: 160 ] والأمة [17] متفقة على أن ، وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ، ويحب التوابين ويحب المتطهرين ، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وأنه يمقت الكافرين ويغضب عليهم . الله يكره المنهيات دون المأمورات ، ويحب المأمورات ، دون المنهيات
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " " . ما أحد أحب إليه المدح من الله ، وما أحد أحب إليه العذر من الله [18] وقال : " " . ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته [19] ، وقال : " " إن الله وتر يحب الوتر [20] ، [ ص: 161 ] " " [ إن ] الله جميل يحب الجمال [21] ، وقال : " " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته [22] .
وقال : " " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي [23] ، " " إن الله يرضى لكم [ ص: 162 ] ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم [24] .
وقال : " [25] من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها ، فاضطجع ينتظر الموت ، فلما أفاق إذا أ ، ب : فإذا . بدابته عليها طعامه وشرابه ، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا [ الرجل ] [26] براحلته " وهذا الحديث في الصحاح من وجوه متعددة ، وهو مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم متفق على صحته وثبوته لله أشد فرحا بتوبة عبده [ المؤمن ] [27] ، وكذلك أمثاله .
وإذا [28] كان كذلك ورضاه بها إذا وقعت وإن لم يفعلها ، والمعاصي يبغضها ويمقتها ويكره من العباد * ) فالطاعات يريدها من العباد الإرادة ( * المتضمنة [ ص: 163 ] لمحبته لها [29] أن يفعلوها وإن أراد [30] أن يخلقها هو لحكمة اقتضت ذلك [31] ولا يلزم إذا كرهها [32] للعبد لكونها تضر العبد [ ويبغضها أيضا ] [33] - أن يكره أن يخلقها هو لما له فيها [34] من الحكمة ، فإن الفعل قد يحسن من أحد المخلوقين ويقبح من الآخر لاختلاف حال الفاعلين الفاعلين : [35] ، فكيف يلزم أنه ما قبح من العبد قبح [36] من الرب مع أنه لا نسبة للمخلوق مع الخالق [37] وإذا كان المخلوق قد [38] يريد ما لا يحبه ، كإرادة المريض لشرب [39] الدواء الذي يبغضه [40] ، ويحب ما لا يريده كمحبة المريض الطعام الذي يضره ، [ ومحبة الصائم الطعام والشراب الذي لا يريد أن يأكله ، ومحبة الإنسان للشهوات التي يكرهها بعقله ودينه ] [41] .
فقد عقل ثبوت أحدهما دون الآخر ، وأن أحدهما ليس بمستلزم [ ص: 164 ] للآخر في المخلوقات في المخلوقات : [42] . فكيف لا يمكن ثبوت أحدهما دون الآخر في حق الخالق تعالى ؟
وقد يقال : كل هذه الأمور مرادة محبوبة [43] ، لكن فيها ما يراد لنفسه ، فهو مراد بالذات محبوب لله [44] مرضي له ، وفيها [45] ما يراد لغيره ، وهو مراد بالعرض لكونه وسيلة إلى المراد المحبوب لذاته .
فالإنسان يريد العافية لنفسها [46] ويريد شرب الدواء لكونه وسيلة إليها ، وهو [47] يريد ذلك من هذه الجهة وإن لم يكن محبوبا [48] في نفسه ، وإذا كان المراد ينقسم إلى مراد لنفسه وهو المحبوب لنفسه ، وإلى مراد لغيره لكونه وسيلة إلى غيره ، وهذا قد لا يحب لنفسه ، أمكن أن يجعل الفرق بين المحبة والإرادة [49] من هذا الباب .
[50] مراد لغيره . وعلى هذا تنبني مسألة محبة الرب [ عز وجل ] والإرادة نوعان : فما كان محبوبا فهو مراد لنفسه ، وما كان في نفسه غير محبوب فهو [51] نفسه ومحبته لعباده ، فإن الذين جعلوا المحبة والرضا هو [ ص: 165 ] الإرادة [52] العامة ، قالوا : إن الرب لا يحب في الحقيقة ولا يحب ، وتأولوا محبته [ تعالى ] [53] لعباده بإرادته [54] ثوابهم ومحبتهم له بإرادة طاعتهم [55] له والتقرب إليه ، و [ منهم ] طائفة [56] كثيرة قالوا : هو محبوب يستحق أن يحب ، ولكن محبته لغيره بمعنى مشيئته .
وأما السلف والأئمة [ وأئمة ] أهل [57] الحديث [ وأئمة ] [58] التصوف ، وكثير من أهل الكلام والنظر ، فأقروا بأنه محبوب لذاته ، بل لا يستحق أن يحب لذاته إلا هو .
وهذا [59] ، وهو حقيقة ملة حقيقة الألوهية إبراهيم ، ومن لم يقر بذلك لم يفرق بين الربوبية والإلهية [60] ولم يجعل الله معبودا لذاته ، ولا أثبت التلذذ بالنظر إليه ، ولا أنه أحب إلى أهل الجنة من كل شيء .
وهذا القول في الحقيقة هو من إبراهيم من المنكرين لكون الله هو المعبود دون ما سواه ، ولهذا لما ظهر هذا القول في أوائل الإسلام قتل من أظهره ، وهو أقوال الخارجين عن ملة يوم الأضحى ، قتله الجعد بن درهم برضا علماء الإسلام ، وقال : " ضحوا أيها [ ص: 166 ] الناس ، تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضح خالد بن عبد الله القسري ، إنه زعم أن الله لم يتخذ بالجعد بن درهم إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا " ثم نزل فذبحه .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " . إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ، ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ، ويجرنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، وهو الزيادة [61] .
وقد روي في السنن من غير وجه [62] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول [ في دعائه ] [63] : " [64] لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك وأسألك " [65] .
وروى [ الإمام ] أحمد [ وغيرهما ] عن والنسائي [66] أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان [ يقول في ] دعائه عمار بن ياسر [67] : " " أسألك [ ص: 167 ] لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك ، من ع ، م : في . غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة [68] .
وأما بمعنى الذين أثبتوا أنه محبوب ، وأن محبته لغيره [69] مشيئته ، فهؤلاء ظنوا أن كل ما خلقه فقد أحبه . وهؤلاء قد يخرجون إلى مذاهب الإباحة [70] ، فيقولون : إنه يحب الكفر والفسوق والعصيان [ ويرضى ذلك ] [71] ، وأن العارف إذا شهد هذا المقام [72] لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة لشهوده القيومية العامة ، وخلق الرب لكل شيء ، وقد وقع في هذا [ طائفة من الشيوخ الغالطين ] [73] من شيوخ الصوفية والنظار [74] ، وهو غلط عظيم .
والكتاب والسنة و [ اتفاق ] سلف [75] الأمة يبين ، ويحب ما أمر به ، ولا يحب الشياطين ولا ما نهى عنه ، وإن [ كان ] أن الله يحب أنبياءه [ ص: 168 ] وأولياءه [76] كل ذلك بمشيئته .
وهذه المسألة وقع النزاع فيها بين الجنيد [ بن محمد ] [77] وطائفة من أصحابه ، فدعاهم إلى الفرق الثاني ، وهو أن يفرقوا في المخلوقات بين ما يحبه وما لا يحبه ، فأشكل هذا عليهم لما رأوا أن كل مخلوق فهو مخلوق بمشيئته ، ولم يعرفوا أنه قد يكون فيما خلقه بمشيئته ما لا يحبه ولا يرضاه ، وكان ما قاله الجنيد وأمثاله [78] هو الصواب .