الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الخامس : أن يقال : الإرادة نوعان : أحدهما [ بمعنى المشيئة وهو ] [1] أن يريد الفاعل أن يفعل فعلا ، فهذه الإرادة المتعلقة بفعله . والثاني : أن يريد من غيره أن يفعل فعلا [2] فهذه إرادة [3] لفعل الغير .

                  وكلا النوعين معقول [4] في الناس ، لكن الذين قالوا : [ إن ] [5] الأمر لا [6] يتضمن الإرادة ، لم يثبتوا إلا النوع [7] الأول من الإرادة ، والذين [ ص: 169 ] قالوا : إن الله لم يخلق أفعال العباد ، لم يثبتوا إلا النوع الثاني .

                  وهؤلاء [8] القدرية يمتنع عندهم أن يريد الله خلق أفعال العباد بالمعنى الأول ; لأنه لا يخلقها عندهم وأولئك المقابلون لهم [9] يمتنع عندهم الإرادة من الله إلا بمعنى إرادة أن يخلق ، فما لم يرد أن يخلقه لا يوصف بأنه مريد له ، فعندهم هو مريد لكل ما خلق وإن كان كفرا ، ولم يرد ما لم يخلقه [10] وإن كان إيمانا .

                  وهؤلاء ، وإن كانوا أقرب إلى الحق ، لكن التحقيق إثبات النوعين ، كما أثبت ذلك السلف والأئمة ; ولهذا قال جعفر : " أراد بهم وأراد منهم " ، فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريدا لنصحه ، وبيانا لما ينفعه وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل ، إذ ليس كل ما يكون مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي [11] في أن أعاونه [ أنا ] [12] عليه ، بل تكون [13] مصلحتي إرادة ما يضاده .

                  كالرجل الذي يستشيره [14] غيره في خطبة امرأة ، يأمره أن يتزوجها ، لأن ذلك مصلحة المأمور ، والآمر يرى [15] أن مصلحته في أن يتزوجها هو دونه ، فجهة أمره لغيره نصحا - غير جهة فعله لنفسه .

                  [ ص: 170 ] وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين فهو في حق الله أولى بالإمكان . فهو [16] سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله بما ينفعهم ، ونهاهم عما يضرهم ، ولكن [17] منهم من أراد أن يخلق فعله ، فأراد هو سبحانه أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلا له .

                  ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله . فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات - غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو [18] مصلحة للعبد أو مفسدة .

                  وهو سبحانه إذا أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان ، كان قد بين [19] لهم ما ينفعهم ويصلحهم [20] إذا فعلوه ولا يلزم [21] إذا أمرهم أن يعينهم ، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة ، من حيث هو فعل له ، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة له [22] ، ولا يلزم [23] إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله ، أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله [ هو ] [24] ، أو جعل المأمور فاعلا له [25] ، فأين جهة الخلق من جهة الأمر ؟

                  [ ص: 171 ] والقدرية تضرب مثلا فيمن أمر غيره بأمر [26] ، فإنه لا بد [27] أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله ، كالبشر والطلاقة وتهيئة المقاعد والمساند ونحو ذلك .

                  فيقال لهم : هذا يكون على وجهين : أحدهما : أن يكون الآمر أمر غيره [28] لمصلحة تعود إليه ، كأمر الملك جنده [29] بما يؤيد ملكه ، وأمر السيد [30] عبده بما يصلح ماله [31] ، وأمر الإنسان شريكه [32] بما يصلح الأمر المشترك بينهما ، ونحو ذلك .

                  والثاني : أن يكون الآمر يرى الإعانة [33] للمأمور مصلحة [ له ] [34] ، كالأمر بالمعروف [ إذا ] [35] أعان المأمور على البر والتقوى ، فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة ، وأن الله في عون[36] العبد ما كان العبد في عون أخيه ، فأما إذا قدر أن الآمر [37] إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور لا لنفع يعود عليه من فعله كالناصح المشير [38] وقدر أنه إذا [39] أعانه [ ص: 172 ] لم يكن ذلك مصلحة له [40] ، لأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر ] [41] كمن يأمر [42] مظلوما أن يهرب من ظالمه ، وهو لو أعانه حصل بذلك ضرر لهما أو لأحدهما ، مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال [43] لموسى : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين [ سورة القصص : 20 ] فهذا مصلحته في أن يأمر موسى بالخروج لا في أن يعينه على ذلك ، إذ لو أعانه لضره قومه .

                  ومثل هذا كثير [44] كالذي يأمر غيره بتزويج امرأة يريد أن يتزوجها ، أو شراء سلعة يريد شراءها أو استئجار مكان يريد استئجاره ، أو مصالحة قوم ينتفع بهم وهم أعداء الآمر يتقوون بمصالحته ، ونحو ذلك ، فإنه في مثل هذه الأمور لا يفعل ما يعين المأمور ، وإن [45] كان ناصحا له [ بالأمر ] [46] مريدا لذلك .

                  ففي الجملة أمر المأمور بالفعل لكون [47] الفعل مصلحة له - غير كون الآمر يعينه عليه إن [48] كان من أهل الإعانة [ له ] [49] .

                  [ ص: 173 ] فإذا [50] قيل : إن الله أمر العباد بما يصلحهم وأراد مصلحتهم عبارة [51] بالأمر ، لم يلزم من ذلك أن يعينهم هو على ما أمرهم [ به ] [52] ، لا سيما وعند القدرية [53] لا يقدر أن يعين أحدا على ما به يصير فاعلا ، فإنه إن [54] لم يعلل أفعاله بالحكمة ، فإنه يفعل ما يشاء من غير تمييز مراد عن مراد ، ويمتنع على هذا أن يكون لفعله لمية [55] ، فضلا عن أن يطلب الفرق .

                  وإن عللت أفعاله بالحكمة ، وقيل إن اللمية [56] ثابتة في نفس الأمر وإن كنا نحن لا نعلمها فلا يلزم إذا كان في نفس الأمر له حكمة في الأمر ، أن [57] يكون في الإعانة على المأمور [ به ] [58] حكمة ، بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه على ذلك ، فإنه إذا أمكن [59] في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة [60] والمصلحة أن يأمر غيره بأمر لمصلحة المأمور ، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك ، فإمكان [61] ذلك في حق الرب أولى وأحرى .

                  [ ص: 174 ] فالله تعالى [62] أمر الكفار بما هو مصلحة لهم لو فعلوه ، وهو لم يعنهم على ذلك ، ولم يخلق ذلك ، كما لم يخلق غيره من الأمور التي يكون من تمام الحكمة والمصلحة أن لا يخلقها .

                  والمخلوق إذا رأى أن مصلحة بعض رعيته أن يتعلم [63] الرمي وأسباب الملك لينال [64] الملك ، ورأى هو أن مصلحة ولده أن لا يتقوى ذلك الشخص [65] لئلا يأخذ [ ذلك ] [66] الملك من ولده ، أو يعدو [67] عليه ، أمكن أن يأمر ذلك [68] [ الشخص ] [69] بما هو مصلحة له [70] ويفعل هو ما هو مصلحة ولده [71] ورعيته .

                  والمصالح والمفاسد بحسب ما يلائم النفوس وينافيها ، فالملائم للمأمور ما [72] أمره به الناصح له ، والملائم للآمر أن لا يحصل لذلك مراده ، لما في ذلك من تفويت مصالح الآمر ومراداته .

                  وهذا نظر شريف ، وإنما يحققه من علم جهة حكمة الله في خلقه [ ص: 175 ] [ وأمره ] [73] ، واتصافه سبحانه بالمحبة والفرح ببعض الأمور دون بعض ، وأنه قد لا يمكن حصول المحبوب [74] ، إلا بدفع ضده ووجود لازمه ، لامتناع اجتماع الضدين ، وامتناع وجود الملزوم بدون اللازم .

                  ولهذا كان الله سبحانه محمودا على كل حال له الملك وله الحمد في الدنيا والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون .

                  فكل ما في الوجود [75] فهو محمود عليه ، وكل ما يعلم ويذكر فهو محمود عليه ، له الحمد على ما هو متصف به في ذاته من أسمائه وصفاته [76] ، وله [77] الحمد على خلقه وأمره ، فكل ما خلقه فهو محمود عليه ، وإن كان في ذلك نوع ضرر لبعض الناس لما له في [78] ذلك من الحكمة ، وكل ما أمر به فله الحمد عليه ، لما له في ذلك من الهداية والبيان .

                  ولهذا كان له الحمد ملء السماوات [79] وملء الأرض وملء ما بينهما ، وملء ما شاء من [80] شيء بعد . فإن هذا كله مخلوق [ له ] [81] ، وكل ما يشاؤه بعد ذلك مخلوق [ له ] [82] ، له الحمد على كل ما خلقه .

                  [ ص: 176 ] والأمثلة التي تذكر [83] في المخلوقين ، وإن لم يكن ذكر نظيرها في حق الرب ، فالمقصود [ هنا ] [84] أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه [ عليه ] [85] ، فالخالق أولى بإمكان [86] ذلك في حقه مع حكمته ، فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به تعلق به خلقه وأمره ، فشاءه خلقا ومحبة ، فكان [87] مرادا لجهة الخلق ومرادا لجهة الأمر . ومن لم يعنه على فعل المأمور ، كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه [88] ، لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به ، ولحصول الحكمة المتعلقة بخلق ضده .

                  وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر ، فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه ، ودعاؤه لربه ، وتوبته من ذنوبه ، وتكفيره خطاياه ، ويرق [ به ] [89] قلبه ، ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان ، يضاد خلق الصحة التي لا يحصل معها هذه المصالح .

                  وكذلك خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض ، يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح ، وإن كانت مصلحته [ هو ] في [90] أن يعدل .

                  [ ص: 177 ] وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر . والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة مثلوا الله فيها بخلقه ، ولم يثبتوا [91] حكمة تعود إليه فسلبوه قدرته وحكمته [92] ومحبته وغير ذلك من صفات كماله ، فقابلهم خصومهم [ الجهمية المجبرة ] [93] ببطلان التعليل في نفس الأمر .

                  كما تنازعوا في مسألة الحسن والقبح ، فأولئك أثبتوه على طريقة سووا فيها بين الله وخلقه [94] ، وأثبتوا حسنا وقبحا لا يتضمن محبوبا ولا مكروها ، وهذا لا حقيقة له ، كما أثبتوا تعليلا لا يعود إلى الفاعل حكمه .

                  وخصومهم سووا بين [ جميع ] [95] الأفعال ، ولم يثبتوا لله محبوبا ولا مكروها ، وزعموا أن الحسن لو كان صفة ذاتية للفعل لم يختلف حاله . وغلطوا ، فإن الصفة الذاتية للموصوف قد يراد بها اللازمة له [96] والمنطقيون يقسمون اللازم إلى ذاتي وعرضي ، وإن كان هذا التقسيم خطأ . وقد يراد بالصفة الذاتية ما تكون ثبوتية قائمة بالموصوف ، احترازا عن الأمور النسبية الإضافية .

                  ومن هذا الباب اضطربوا في الأحكام الشرعية ، فزعم [97] نفاة الحسن [ ص: 178 ] والقبح العقليين أنها ليست صفة ثبوتية للأفعال ولا مستلزمة صفة ثبوتية للأفعال ، بل هي من الصفات النسبية الإضافية ، فالحسن هو المقول فيه : افعله أو لا بأس بفعله ، والقبيح هو المقول فيه : لا تفعله [98] .

                  قالوا : وليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية ، وذكروا عن منازعيهم أنهم قالوا : الأحكام صفات ذاتية [99] للأفعال ، ونقضوا ذلك بجواز تبدل أحكام الفعل مع كون الجنس [100] واحدا .

                  وتحقيق الأمر أن الأحكام للأفعال ليست من الصفات اللازمة ، بل [ هي ] [101] من العارضة للأفعال بحسب ملاءمتها ومنافرتها ، فالحسن والقبح بمعنى كون الشيء محبوبا ومكروها ونافعا وضارا ، وملائما ومنافرا . وهذه صفة ثبوتية للموصوف ، لكنها تتنوع بتنوع أحواله فليست لازمة له .

                  ومن قال : إن الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحسن والقبح ، فهو بمنزلة قوله : ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين والتبريد والإشباع والإرواء ، فسلب صفات الأعيان المقتضية للآثار ، كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار .

                  وأما جمهور المسلمين الذين يثبتون طبائع الأعيان وصفاتها ، فهكذا [102] ، يثبتون ما في الأفعال من حسن وقبح باعتبار ملاءمتها ومنافرتها ، كما [ ص: 179 ] قال تعالى : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [ سورة الأعراف : 107 ] ، فدل ذلك على أن الفعل في نفسه معروف ومنكر ، والمطعوم طيب وخبيث .

                  ولو كان لا صفة للأعيان والأفعال إلا بتعلق الأمر والنهي ، لكان التقدير : يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم ، ويحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم ، والله منزه عن مثل هذا الكلام .

                  وكذلك قوله تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ سورة الإسراء : 32 ] وقال : إن الله لا يأمر بالفحشاء [ سورة الأعراف : 28 ] ونظائر هذا كثيرة [103] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية