الوجه الخامس : أن يقال : : أحدهما [ بمعنى المشيئة وهو ] الإرادة نوعان [1] أن يريد الفاعل أن يفعل فعلا ، فهذه . والثاني : أن يريد من غيره أن يفعل فعلا الإرادة المتعلقة بفعله [2] فهذه إرادة [3] لفعل الغير .
وكلا النوعين معقول [4] في الناس ، لكن الذين قالوا : [ إن ] [5] الأمر لا [6] يتضمن الإرادة ، لم يثبتوا إلا النوع [7] الأول من الإرادة ، والذين [ ص: 169 ] قالوا : إن الله لم يخلق أفعال العباد ، لم يثبتوا إلا النوع الثاني .
وهؤلاء [8] القدرية يمتنع عندهم أن يريد الله بالمعنى الأول ; لأنه لا يخلقها عندهم وأولئك المقابلون لهم خلق أفعال العباد [9] يمتنع عندهم الإرادة من الله إلا بمعنى إرادة أن يخلق ، فما لم يرد أن يخلقه لا يوصف بأنه مريد له ، فعندهم هو مريد لكل ما خلق وإن كان كفرا ، ولم يرد ما لم يخلقه [10] وإن كان إيمانا .
وهؤلاء ، وإن كانوا أقرب إلى الحق ، لكن التحقيق إثبات النوعين ، كما أثبت ذلك السلف والأئمة ; ولهذا قال جعفر : " أراد بهم وأراد منهم " ، فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريدا لنصحه ، وبيانا لما ينفعه وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل ، إذ ليس كل ما يكون مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي [11] في أن أعاونه [ أنا ] [12] عليه ، بل تكون [13] مصلحتي إرادة ما يضاده .
كالرجل الذي يستشيره [14] غيره في خطبة امرأة ، يأمره أن يتزوجها ، لأن ذلك مصلحة المأمور ، والآمر يرى [15] أن مصلحته في أن يتزوجها هو دونه ، فجهة أمره لغيره نصحا - غير جهة فعله لنفسه .
[ ص: 170 ] وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين فهو في حق الله أولى بالإمكان . فهو [16] سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله بما ينفعهم ، ونهاهم عما يضرهم ، ولكن [17] منهم من أراد أن يخلق فعله ، فأراد هو سبحانه أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلا له .
ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله . فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات - غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو [18] مصلحة للعبد أو مفسدة .
وهو سبحانه إذا أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان ، كان قد بين [19] لهم ما ينفعهم ويصلحهم [20] إذا فعلوه ولا يلزم [21] إذا أمرهم أن يعينهم ، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة ، من حيث هو فعل له ، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة له [22] ، ولا يلزم [23] إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله ، أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله [ هو ] [24] ، أو جعل المأمور فاعلا له [25] ، فأين جهة الخلق من جهة الأمر ؟
[ ص: 171 ] والقدرية تضرب مثلا فيمن أمر غيره بأمر [26] ، فإنه لا بد [27] أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله ، كالبشر والطلاقة وتهيئة المقاعد والمساند ونحو ذلك .
فيقال لهم : هذا يكون على وجهين : أحدهما : أن يكون الآمر أمر غيره [28] لمصلحة تعود إليه ، كأمر الملك جنده [29] بما يؤيد ملكه ، وأمر السيد [30] عبده بما يصلح ماله [31] ، وأمر الإنسان شريكه [32] بما يصلح الأمر المشترك بينهما ، ونحو ذلك .
والثاني : أن يكون الآمر يرى الإعانة [33] للمأمور مصلحة [ له ] [34] ، كالأمر بالمعروف [ إذا ] [35] أعان المأمور على البر والتقوى ، فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة ، وأن الله في عون[36] العبد ما كان العبد في عون أخيه ، فأما إذا قدر أن الآمر [37] إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور لا لنفع يعود عليه من فعله كالناصح المشير [38] وقدر أنه إذا [39] أعانه [ ص: 172 ] لم يكن ذلك مصلحة له [40] ، لأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر ] [41] كمن يأمر [42] مظلوما أن يهرب من ظالمه ، وهو لو أعانه حصل بذلك ضرر لهما أو لأحدهما ، مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال [43] لموسى : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين [ سورة القصص : 20 ] فهذا مصلحته في أن يأمر موسى بالخروج لا في أن يعينه على ذلك ، إذ لو أعانه لضره قومه .
ومثل هذا كثير [44] كالذي يأمر غيره بتزويج امرأة يريد أن يتزوجها ، أو شراء سلعة يريد شراءها أو استئجار مكان يريد استئجاره ، أو مصالحة قوم ينتفع بهم وهم أعداء الآمر يتقوون بمصالحته ، ونحو ذلك ، فإنه في مثل هذه الأمور لا يفعل ما يعين المأمور ، وإن [45] كان ناصحا له [ بالأمر ] [46] مريدا لذلك .
ففي الجملة أمر المأمور بالفعل لكون [47] الفعل مصلحة له - غير كون الآمر يعينه عليه إن [48] كان من أهل الإعانة [ له ] [49] .
[ ص: 173 ] فإذا [50] قيل : إن الله أمر العباد بما يصلحهم وأراد مصلحتهم عبارة [51] بالأمر ، لم يلزم من ذلك أن يعينهم هو على ما أمرهم [ به ] [52] ، لا سيما وعند القدرية [53] لا يقدر أن يعين أحدا على ما به يصير فاعلا ، فإنه إن [54] لم يعلل أفعاله بالحكمة ، فإنه يفعل ما يشاء من غير تمييز مراد عن مراد ، ويمتنع على هذا أن يكون لفعله لمية [55] ، فضلا عن أن يطلب الفرق .
، وقيل إن اللمية وإن عللت أفعاله بالحكمة [56] ثابتة في نفس الأمر وإن كنا نحن لا نعلمها فلا يلزم إذا كان في نفس الأمر له حكمة في الأمر ، أن [57] يكون في الإعانة على المأمور [ به ] [58] حكمة ، بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه على ذلك ، فإنه إذا أمكن [59] في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة [60] والمصلحة أن يأمر غيره بأمر لمصلحة المأمور ، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك ، فإمكان [61] ذلك في حق الرب أولى وأحرى .
[ ص: 174 ] فالله تعالى [62] أمر الكفار بما هو مصلحة لهم لو فعلوه ، وهو لم يعنهم على ذلك ، ولم يخلق ذلك ، كما لم يخلق غيره من الأمور التي يكون من تمام الحكمة والمصلحة أن لا يخلقها .
والمخلوق إذا رأى أن مصلحة بعض رعيته أن يتعلم [63] الرمي وأسباب الملك لينال [64] الملك ، ورأى هو أن مصلحة ولده أن لا يتقوى ذلك الشخص [65] لئلا يأخذ [ ذلك ] [66] الملك من ولده ، أو يعدو [67] عليه ، أمكن أن يأمر ذلك [68] [ الشخص ] [69] بما هو مصلحة له [70] ويفعل هو ما هو مصلحة ولده [71] ورعيته .
والمصالح والمفاسد بحسب ما يلائم النفوس وينافيها ، فالملائم للمأمور ما [72] أمره به الناصح له ، والملائم للآمر أن لا يحصل لذلك مراده ، لما في ذلك من تفويت مصالح الآمر ومراداته .
وهذا نظر شريف ، وإنما يحققه من علم جهة حكمة الله في خلقه [ ص: 175 ] [ وأمره ] [73] ، واتصافه سبحانه بالمحبة والفرح ببعض الأمور دون بعض ، وأنه قد لا يمكن حصول المحبوب [74] ، إلا بدفع ضده ووجود لازمه ، لامتناع اجتماع الضدين ، وامتناع وجود الملزوم بدون اللازم .
ولهذا كان . الله سبحانه محمودا على كل حال له الملك وله الحمد في الدنيا والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون
فكل ما في الوجود [75] فهو محمود عليه ، وكل ما يعلم ويذكر فهو محمود عليه ، له الحمد على ما هو متصف به في ذاته من أسمائه وصفاته [76] ، وله [77] الحمد على خلقه وأمره ، فكل ما خلقه فهو محمود عليه ، وإن كان في ذلك نوع ضرر لبعض الناس لما له في [78] ذلك من الحكمة ، وكل ما أمر به فله الحمد عليه ، لما له في ذلك من الهداية والبيان .
ولهذا كان له الحمد ملء السماوات [79] وملء الأرض وملء ما بينهما ، وملء ما شاء من [80] شيء بعد . فإن هذا كله مخلوق [ له ] [81] ، وكل ما يشاؤه بعد ذلك مخلوق [ له ] [82] ، له الحمد على كل ما خلقه .
[ ص: 176 ] والأمثلة التي تذكر [83] في المخلوقين ، وإن لم يكن ذكر نظيرها في حق الرب ، فالمقصود [ هنا ] [84] أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه [ عليه ] [85] ، فالخالق أولى بإمكان [86] ذلك في حقه مع حكمته ، فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به تعلق به خلقه وأمره ، فشاءه خلقا ومحبة ، فكان [87] مرادا لجهة الخلق ومرادا لجهة الأمر . ومن لم يعنه على فعل المأمور ، كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه [88] ، لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به ، ولحصول الحكمة المتعلقة بخلق ضده .
، فإن وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر ، ويرق [ به ] خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه ، ودعاؤه لربه ، وتوبته من ذنوبه ، وتكفيره خطاياه [89] قلبه ، ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان ، يضاد خلق الصحة التي لا يحصل معها هذه المصالح .
وكذلك خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض ، يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح ، وإن كانت مصلحته [ هو ] في [90] أن يعدل .
[ ص: 177 ] وتفصيل . حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة مثلوا الله فيها بخلقه ، ولم يثبتوا [91] حكمة تعود إليه فسلبوه قدرته وحكمته [92] ومحبته وغير ذلك من صفات كماله ، فقابلهم خصومهم [ الجهمية المجبرة ] [93] ببطلان التعليل في نفس الأمر .
كما تنازعوا في ، فأولئك أثبتوه على طريقة سووا فيها بين الله وخلقه مسألة الحسن والقبح [94] ، وأثبتوا حسنا وقبحا لا يتضمن محبوبا ولا مكروها ، وهذا لا حقيقة له ، كما أثبتوا تعليلا لا يعود إلى الفاعل حكمه .
وخصومهم سووا بين [ جميع ] [95] الأفعال ، ولم يثبتوا لله محبوبا ولا مكروها ، وزعموا أن الحسن لو كان صفة ذاتية للفعل لم يختلف حاله . وغلطوا ، فإن الصفة الذاتية للموصوف قد يراد بها اللازمة له [96] والمنطقيون يقسمون اللازم إلى ذاتي وعرضي ، وإن كان هذا التقسيم خطأ . وقد يراد بالصفة الذاتية ما تكون ثبوتية قائمة بالموصوف ، احترازا عن الأمور النسبية الإضافية .
ومن هذا الباب اضطربوا في الأحكام الشرعية ، فزعم [97] نفاة الحسن [ ص: 178 ] والقبح العقليين أنها ليست صفة ثبوتية للأفعال ولا مستلزمة صفة ثبوتية للأفعال ، بل هي من الصفات النسبية الإضافية ، فالحسن هو المقول فيه : افعله أو لا بأس بفعله ، والقبيح هو المقول فيه : لا تفعله [98] .
قالوا : وليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية ، وذكروا عن منازعيهم أنهم قالوا : الأحكام صفات ذاتية [99] للأفعال ، ونقضوا ذلك بجواز تبدل أحكام الفعل مع كون الجنس [100] واحدا .
وتحقيق الأمر أن ، بل [ هي ] الأحكام للأفعال ليست من الصفات اللازمة [101] من العارضة للأفعال بحسب ملاءمتها ومنافرتها ، فالحسن والقبح بمعنى كون الشيء محبوبا ومكروها ونافعا وضارا ، وملائما ومنافرا . وهذه صفة ثبوتية للموصوف ، لكنها تتنوع بتنوع أحواله فليست لازمة له .
. ومن قال : إن الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحسن والقبح ، فهو بمنزلة قوله : ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين والتبريد والإشباع والإرواء ، فسلب صفات الأعيان المقتضية للآثار ، كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار
وأما [102] ، يثبتون ما في الأفعال من حسن وقبح باعتبار ملاءمتها ومنافرتها ، كما [ ص: 179 ] قال تعالى : جمهور المسلمين الذين يثبتون طبائع الأعيان وصفاتها ، فهكذا يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [ سورة الأعراف : 107 ] ، فدل ذلك على أن الفعل في نفسه معروف ومنكر ، والمطعوم طيب وخبيث .
ولو كان لا صفة للأعيان والأفعال إلا بتعلق الأمر والنهي ، لكان التقدير : يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم ، ويحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم ، والله منزه عن مثل هذا الكلام .
وكذلك قوله تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ سورة الإسراء : 32 ] وقال : إن الله لا يأمر بالفحشاء [ سورة الأعراف : 28 ] ونظائر هذا كثيرة [103] .