الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) .

                  قال [ الرافضي ] الإمامي [1] : " ومنها أنه يلزم نسبة السفه [2] إلى الله تعالى لأنه يأمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه ، وينهاه عن المعصية وقد أرادها منه [3] ، وكل عاقل ينسب من يأمر [4] بما لا يريد [5] وينهى عما يريد [6] إلى السفه ، تعالى الله عن ذلك " .

                  [ ص: 180 ] فيقال له : قد تقدم أن المحققين من أهل السنة يقولون : [ إن ] [7] الإرادة ، نوعان : إرادة الخلق وإرادة الأمر [8] فإرادة الأمر أن يريد من المأمور [9] فعل ما أمر به ، وإرادة الخلق أن يريد هو خلق ما يحدثه من أفعال العباد وغيرها . والأمر مستلزم للإرادة الأولى دون الثانية .

                  والله تعالى أمر الكافر بما أراده منه بهذا الاعتبار ، وهو ما [10] يحبه ويرضاه ، ونهاه عن المعصية التي لم يردها منه ، [ أي لم يحبها ولم يرضها بهذا الاعتبار ] [11] ، فإنه لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد . وقد قال تعالى : إذ يبيتون ما لا يرضى من القول [ سورة النساء : 108 ] وإرادة [12] الخلق هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد ، فهذه الإرادة لا تتعلق إلا بالموجود ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . وفرق بين أن يريد هو أن يفعل ، فإن هذا يكون لا محالة لأنه قادر على ما يريده ، فإذا[13] اجتمعت الإرادة والقدرة وجب وجود المراد ، وبين أن يريد من غيره أن يفعل ذلك الغير فعلا [14] لنفسه ، فإن هذا [15] لا يلزم أن يعينه عليه .

                  [ ص: 181 ] وأما طائفة من المثبتين للقدر فظنوا أن الإرادة نوع واحد ، [ وأنها [16] هي المشيئة ] [17] فقالوا : يأمر بما لا يريده [18] .

                  ثم هؤلاء على قسمين : فقسم قالوا : يأمر بما يحبه ويرضاه وإن لم يرده ، أي لم يشأ وجوده ، وهذا مذهب جمهور القائلين بهذا القول من الفقهاء وغيرهم .

                  وقسم قالوا : بل المحبة والرضا هي الإرادة وهي المشيئة ، فهو يأمر بما لم يرده ولم يحبه ولم يرضه ، وما وقع من الكفر والفسوق عند [19] هؤلاء أحبه ورضيه [20] ، كما أراده وشاءه ، ولكن يقولون [21] : لا يحبه ولا يرضاه دينا ، كما لا يريده دينا [ ولا يشاؤه دينا ] [22] ، ولا يحبه ولا يرضاه ممن لم يقع منه ، [ كما لم يرده ممن لم يقع منه ، ولم يشأه ممن لم يقع منه ] [23] وهذا قول الأشعري وأكثر أصحابه ، وحكاه هو عن طائفة من أهل الإثبات ، وحكي عنه كالقول [24] الأول .

                  وأصحاب هذا القول هم القدرية [25] من المعتزلة والشيعة وغيرهم [ ص: 182 ] يجعلون الرضا والمحبة بمعنى الإرادة ، ثم قالت القدرية النفاة : والكفر والفسوق والمعاصي لا يحبها ولا يرضاها [26] بالنص وإجماع الفقهاء ، فلا يريدها ولا يشاؤها [27] .

                  وقال هؤلاء المثبتة : هو شاء ذلك بالنص وإجماع السلف ، فيكون قد أحبه ورضيه وأراده . وأما جمهور الناس فيفرقون بين المشيئة والإرادة [28] وبين المحبة والرضا ، كما يوجد الفرق بينهما في الناس ، فإن الإنسان قد يريد شرب الدواء ونحوه من الأشياء الكريهة التي يبغضها ولا يحبها ، ويحب أكل [29] الأشياء التي يشتهيها ، كاشتهاء المريض لما حمي عنه [30] ، واشتهاء الصائم الماء البارد مع عطشه ولا يريد فعل ذلك [31] ، فقد تبين أنه يحب ما لا يريده ويريد ما لا يحبه [32] ، وذلك أن المراد قد يراد لغيره ، فيريد الأشياء المكروهة لما في عاقبتها من الأشياء المحبوبة [33] ويكره فعل بعض ما يحبه [34] لأنه يفضي إلى ما يبغضه .

                  والله تعالى له الحكمة [35] فيما يخلقه ، وهو سبحانه يحب المتقين [ ص: 183 ] والمحسنين والتوابين ، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ويفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في مهلكة إذا وجدها بعد الإياس [36] منها كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ، كقوله : " لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من رجل أضل راحلته [37] بأرض دوية [38] مهلكة عليها طعامه وشرابه ، فطلبها فلم يجدها ، فنام ينتظر الموت ، فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه ، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته " [39] .

                  والمتفلسفة [40] يعبرون بلفظ البهجة واللذة [41] والعشق ونحو ذلك عن الفرح والمحبة وما يتبع ذلك ، وإذا كان كذلك فهو سبحانه يريد وجود [ بعض ] الأشياء [42] لإفضائها إلى ما يحبه ويرضاه ، وهو سبحانه قد لا يفعل بعض ما يحبه لكونه يستلزم وجود ما يكرهه ويبغضه ، فهو سبحانه قادر على أن يخلق من كل نطفة رجلا يجعله مؤمنا به [43] يحبه ويحب إيمانه ، لكنه لم يفعل ذلك لما له في ذلك [44] من الحكمة ، وقد يعلم أن ذلك يفضي إلى ما يبغضه ويكرهه .

                  [ ص: 184 ] وإذا قيل : فهلا يفعل هذا ويمنع ما يبغضه .

                  قيل : من الأشياء ما يكون ممتنعا لذاته ، ومنها ما يكون ممتنعا لغيره ، واللذة [45] الحاصلة بالأكل لا تحصل هي ولا نوعها [46] بالشرب [47] والسماع والشم ، وإنما تحصل لذة أخرى .

                  ووجود لذة الأكل في الفم تنافي حصول لذة الشرب في تلك الحال ، وتلذذ العبد بسماع بعض [48] الأصوات يمنع تلذذه بسماع صوت آخر في تلك الحال ، فليس كل ما هو محبوب للعبد ولذيذ له يمكن اجتماعه في آن [49] واحد ، بل لا يمكن حصول [50] أحد الضدين إلا بتفويت الآخر ، وما من شيء [51] مخلوق إلا له لوازم وأضداد ، فلا يوجد إلا بوجود لوازمه ومع عدم أضداده [52] والرب تعالى إذا كان يحب من عبده أن يسافر للحج ويسافر للجهاد ، فأيهما فعله [53] كان محبوبا له ، لكن لا يمكن في حال واحدة [54] أن يسافر العبد إلى الشرق وإلى الغرب [55] ، بل لا يمكن [56] حصول هذين المحبوبين جميعا في وقت واحد ، فلا يحصل [ ص: 185 ] أحدهما إلا بتفويت الآخر ، فإن كان الحج فرضا معينا ، والجهاد تطوعا [57] ، كان الحج أحبهما إليه [58] ، وإن كان كلاهما تطوعا أو فرضا ، فالجهاد أحبهما إليه ، فهو [ سبحانه ] [59] يحب هذا المحبوب المتضمن تفويت ذلك المحبوب . وذلك [ أنه ] [60] لو قدر وجوده بدون تفويت هذا المحبوب [61] لكان أيضا محبوبا ، ولو قدر وجوده بتفويت ما هو أحب إليه منه لكان محبوبا من وجه مكروها من وجه آخر [62] أعلى منه .

                  وهو سبحانه إذا لم يقدر طاعة بعض الناس كان له في ذلك حكمة ، كما أنه إذا لم [63] يأمر هذا بأدنى [64] المحبوبين كان له في ذلك حكمة ، والله تعالى على كل شيء قدير . لكن اجتماع الضدين لا يدخل في عموم الأشياء ، فإنه محال لذاته .

                  وهذا بمنزلة أن يقال : هلا أقدر [65] هذا العبد أن يسافر في هذه الساعة إلى الغرب للحج وإلى [66] الشرق للجهاد ؟

                  فيقال : لأن [67] كون الجسم الواحد في مكانين محال لذاته [68] ، فلا [ ص: 186 ] يمكن هذان السفران [69] في آن [70] واحد ، وليس هذا بشيء حتى يقال : إنه مقدر ، بل هذا لا حقيقة له ، وليس بشيء ، بل هو أمر يتصوره [71] الذهن كتصوره [72] لنظيره في الخارج ، ليحكم [73] عليه بالامتناع في الخارج ، وإلا فما يمكن الذهن أن يتصور هذا [ في ] [74] الخارج ، ولكن الذهن يتصور [ اجتماع ] [75] اللون والطعم في محل واحد ، كالحلاوة البيضاء [ والبياض ] [76] ، ثم يقدر الذهن في نفسه [77] : هل يمكن أن يجتمع السواد والبياض في محل [ واحد ] [78] ، كاجتماع اللون والطعم [79] ، فيعلم أن هذا الاجتماع ممتنع في الخارج ، ويعلم أنه يمكن أن زيدا قد يكون [80] في الشرق وعمرا في الغرب [81] ، ويقدر في ذهنه : هل يمكن أن يكون زيد نفسه في هذين المكانين ، كما كان هو وعمرو ؟ فيعلم أن هذا ممتنع .

                  فهذا [82] ونحوه كلام من جعل الإرادة نوعين ويفرق بين أحد نوعيها [ ص: 187 ] وبين المحبة والرضا . وأما من يجعل الجميع نوعا واحدا فهو بين أمرين : إن جعل الحب والرضا من هذا النوع لزمته [83] تلك المحاذير الشنيعة ، وإن جعل الحب والرضا نوعا لا يستلزم الإرادة ، وقال [84] : إنه قد يحب ويرضى ما لا يريده بحال ، وحينئذ فيكون مقصوده بقوله : " لا يريده " [85] أي لا يريد كونه ووجوده ، وإلا فهو عنده يحبه ويرضاه .

                  فهذا يجعل الإرادة هي المشيئة لأن يخلق . وهذا ، وإن كان اصطلاح طائفة من المنتسبين إلى السنة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، فهو خلاف [86] استعمال الكتاب والسنة . وحينئذ فيكون النزاع معه لفظيا . وأحق الناس بالصواب في المنازعات اللفظية من كان لفظه موافقا للفظ القرآن .

                  وقد تبين أن القرآن [87] جعل هذا النوع مرادا ، فلا حاجة إلى إطلاق [88] القول بأن الله يأمر بما لا يريده ، ثم تبين [89] أن الإرادة نوعان ، وأنه يأمر [ بما يشاؤه [90] فيأمر ] [91] بما لا يريد أن يخلقه هو ، ولا يأمر إلا بما يحبه لعباده [92] ويرضاه لهم أن يفعلوه .

                  [ ص: 188 ] ولو قال رجل [93] : " والله لأفعلن ما أوجب الله علي أو ما يحبه [ الله ] لي [94] إن شاء الله " ولم يفعل ، لم يحنث باتفاق الفقهاء . ولو قال : " والله لأفعلن ما أوجب [95] الله علي إن كان الله يحبه ويرضاه " حنث إن [96] لم يفعله بلا نزاع نعلمه [97] .

                  وعلى هذا فقد ظهر بطلان حجة المكذبين بالقدر ، فإنه إذا قال : كل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد إلى السفه . قيل له : إذا أمر غيره بأمر لم [98] يرد أن يفعله له : هل يكون سفيها [99] أم لا ؟

                  ومن المعلوم باتفاق العقلاء أن من أمر غيره بأمر ، ولم يرد أن يفعل هو ذلك الأمر [100] ولا يعينه عليه ، لم يكن سفيها ، بل أوامر الحكماء والعقلاء [101] كلها من هذا الباب .

                  والطبيب إذا أمر المريض بشرب الدواء ، لم يكن عليه أن يعاونه على شربه ، والمفتي إذا أمر المستفتي بما يجب عليه ، لم يكن عليه أن يعاونه ، والمشير إذا أمر المستشير بتجارة أو فلاحة [ أو نكاح ] [102] ، لم يكن عليه أن يفعل هو ذلك [103] .

                  [ ص: 189 ] ومن كان يحب من غيره أن يفعل أمرا فأمره به ، والآمر لا يساعده عليه ، لما في ذلك من المفسدة له ، لم يكن سفيها [104] .

                  فظهر بطلان ما ذكره هذا وأمثاله من القدرية . وكذلك من نهى غيره عما يريد أن يفعله هو ، لم يلزم أن يكون سفيها ، فإنه [ قد ] [105] يكون مفسدة لذلك مصلحة للناهي . فالمريض الذي يشرب المسهلات إذا نهى ابنه [106] الصغير عن شربها لم يكن سفيها .

                  والحاوي [107] الذي يريد إمساك الحية إذا نهى ابنه عن إمساكها لم يكن سفيها ، والسابح في البحر إذا نهى العاجز عن السباحة لم يكن سفيها ، والملك الذي خرج لقتال عدوه إذا نهى نساءه عن الخروج معه لم يكن سفيها ، ونظائر هذا لا تحصى [108] .

                  [ ولو نهى الناهي غيره عن فعل ما يضره فعله نصحا له ، إذ لو كان مصلحة الناهي [109] أن يفعله هو به ؛ حمد على فعله ، وحمد على نصحه ، كما يوجد كثير من الناس ينهون من ينصحونه عن فعل أشياء ، وقد يطلبون فعلها منهم لمصلحتهم .

                  [ ص: 190 ] لكن المثل المطابق لفعل الرب من كل وجه لا يمكن في حق المخلوق ، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله . وقد سئل بعض الشيوخ عن مثل [110] هذه المسائل فأنشد :

                  ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا

                  لكن المقصود أنه يمكن في المخلوق أمر الإنسان بما لا يريد أن [111] يعين عليه المأمور ، ونهيه عما يريد الناهي أن يفعله هو لمصلحته ] [112] .

                  فتبين أن هذا القدري وأمثاله تكلموا بلفظ مجمل . فإذا قالوا : من أمر بما لا يريد كان سفيها ، أوهموا الناس أنه أمر بما لا يريد للمأمور أن يفعله . والله لم يأمر العباد بما لم يرض لهم أن يفعلوه ، [ ولم يحب لهم أن يفعلوه ] [113] ، ولم يرد لهم أن يفعلوه بهذا المعنى ، وإنما أمر بعضهم بما لم يرد هو أن يخلقه لهم بمشيئته و [ لم ] يجعلهم فاعلين له [114] . ومن المعلوم أن الآمر ليس عليه أن يجعل المأمور فاعلا للمأمور به ، بل هذا [115] ممتنع عند القدرية .

                  وعند غيرهم هو قادر عليه ، لكن له أن يفعله وله ألا يفعله . فعلى قول من يثبت المشيئة دون الحكمة الغائية ، يقول : هذا كسائر [116] الممكنات [ ص: 191 ] إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله ، ومن أثبت الحكمة قال : له في أن لا يحدث هذا حكمة ، كما له في سائر ما لم يحدثه ، وقد يكون في إحداث هذا مفسدة لغير هذا المأمور أعظم من المصلحة الحاصلة له [117] ، وقد يكون في فعل هذا المأمور تفويت مصلحة أعظم من المصلحة الحاصلة له ، والحكيم هو الذي يقدم أعلى [118] المصلحتين ، ويدفع أعظم المفسدتين .

                  وليس على العباد أن يعلموا تفصيل حكمة الله تعالى ، بل يكفيهم العلم العام والإيمان التام [119] .

                  ومن جعل الإرادة نوعا واحدا ، وإن كان [ قوله ] [120] مرجوحا ، فهو خير من قول نفاة القدر الذين يجعلون [121] الإرادة والمشيئة والمحبة شيئا واحدا ، وزعموا أنه يكون ما لا يشاؤه [122] [ ويشاء ما لا يكون ] [123] ، وذلك لأنه يقول : السفه إنما يجوز على من يجوز عليه الأغراض ، والأغراض [124] مستلزمة للحاجة إلى الغير وللنقص [125] بدونها ، وذلك على الله ممتنع ، وهي في حق الله مستلزمة للتسلسل وقيام الحوادث به ، وهو ممتنع عند هذا الخصم .

                  فإذا كانت المعتزلة - والشيعة الموافقون لهم - يسلمون هذه الأصول [ ص: 192 ] انقطعوا ، وذلك ; لأنهم [126] إذا قالوا : يفعل لغرض . قيل لهم : نسبة وجود الغرض [127] وعدمه إليه على السواء ، أو وجود الغرض [128] أولى به . فإن قالوا : هما على السواء ، امتنع مع هذا أن يفعل لما وجوده وعدمه بالنسبة إليه سواء . وهذا معدود من السفهاء فينا ، وهذا هو العبث فينا .

                  فإن قالوا : فعل لنفع العباد .

                  قيل : الواحد من الناس إنما ينفع غيره لما له في ذلك من المصلحة في الدين أو الدنيا . أما التذاذه بالإحسان إليه [129] ، كما يوجد في النفوس الكريمة [130] التي إنما تلتذ [131] وتبتهج بالإحسان إلى غيرها ، وهذا مصلحة ومنفعة لها .

                  وأما دفع ألم الرقة [132] عن نفسه ، فإن الواحد إذا رأى جائعا بردان تألم له فيعطيه ، فيزول الألم عن نفسه . وزوال الألم منفعة [ له ] [133] ومصلحة ، دع ما سوى هذا من رجاء المدح والثناء والمكافأة ، أو الأجر من الله [ تعالى ] [134] فتلك مطالب منفصلة [135] ، ولكن هذان أمران موجودان في نفس الفاعل ، فمن نفع غيره ، وكان [136] وجود النفع وعدمه بالنسبة إليه سواء من [ ص: 193 ] كل وجه ، كان هذا من أسفه السفهاء لو وجد [137] ، فكيف إذا كان ممتنعا ؟ فإنه يمتنع أن يفعل المختار شيئا حتى يترجح عنده ، فيكون أن يفعله أحب إليه من أن لا يفعله ، وترجيح الأحب لذة ومنفعة .

                  فهؤلاء القدرية الذين يعللون بالغرض [138] هم [139] الذين يذكرون ما يمتنع أن يكون غرضا [140] ، ولا يكون [141] إلا ممتنعا أو سفها ، وإن أثبتوا [142] غرضا قائما به ، لزم أن يكون محلا للحوادث ، وهم يحيلون ذلك . ثم الغرض إن كان لغرض آخر لزم التسلسل ، وهم يحيلونه في الماضي . ولهم في المستقبل قولان . وإن لم يكن لغرض آخر جاز أن يحدث لا لغرض . فهذه الأصول التي اتفقوا عليها - هم والمثبتون للقدر - هي حجة لأولئك عليهم [143] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية