[ ( فصل ) [1]
وفي الجملة . ولما من نفى قيام الأمور الاختيارية بذات الرب تعالى لا بد أن يقول أقوالا متناقضة فاسدة [2] كانت الجهمية المجبرة والقدرية المعتزلة [ ص: 194 ] قد اشتركوا في أنه لا يقوم بذاته شيء من ذلك ، ثم تنازعوا بعد ذلك في تعليل أفعاله وأحكامه [3] ، كان كل واحد من القولين يستلزم ما يبين فساده وتناقضه .
فمثبتة التعليل تقول : من فعل لغير حكمة كان سفيها . وهذا إنما يعلم فيمن [4] فعل لغير حكمة تعود إليه ، وهم يزعمون أن البارئ فعل لا لحكمة تعود إليه ، فإن كان من [5] فعل لا لحكمة سفيها [6] لزمه [7] إثبات السفه ، وإن لم يكن سفيها تناقضوا ، فإن ما أثبتوه من فعله لحكمة لا تعود إليه لا يعقل ، فضلا عن أن يكون حكيما .
وهذا نظير قولهم في صفاته وكلامه ، فإنهم قالوا : لا يتكلم إلا بمشيئته [8] وقدرته ، ويمتنع أن يكون القرآن قديما ، لما فيه من الأمور المنافية لقدمه . وقالوا : المتكلم لا يعقل [9] إلا من تكلم بمشيئته وقدرته ، دون من يكون الكلام لازما لذاته لا يحصل بقدرته ومشيئته [10] .
فيقال لهم : وكذلك ، بل هو خلاف المعقول . لا يعقل متكلم إلا من يقوم به الكلام . أما متكلم لا يقوم به الكلام ، أو مريد لا تقوم به الإرادة ، أو عالم لا يقوم به العلم فهذا لا يعقل
[ ص: 195 ] بل قولهم في الكلام يتضمن أن من قام به الكلام لا يكون متكلما ; لأن المتكلم [11] هو الذي أحدث في غيره الكلام ، وهذا خلاف المعقول . وكذلك قولهم في رضاه وغضبه ومحبته وإرادته وغير ذلك : أنها لا تقوم بذاته ، وإنما هي أمور منفصلة عنه [12] ، فجعلوه موصوفا بأمور لا تقوم به ، بل هي منفصلة عنه [13] ، وهذا خلاف المعقول ، ثم هو تناقض ، فإنه [14] يلزمهم أن يوصف بكل ما يحدثه من المخلوقات [15] ، حتى يوصف بكل كلام خلقه ، فيكون ذلك كلامه . فإذا أنطق [16] ما ينطقه من مخلوقاته ، كان ذلك كلامه لا كلام من ينطقه [17] وهذا مبسوط في موضعه .
والمقصود هنا أن كلامهم أنه يفعل لحكمة ، يستلزم أن يكون وجود الحكمة أرجح عنده من عدمها ، أو أنها [18] تقوم به ، وغير ذلك من اللوازم التي لا يعقل من يفعل لحكمة إلا من يتصف بها . وإلا فإذا قدر أن نسبة جميع الحوادث إليه سواء ، وامتنع [19] أن يكون بعضها أرجح عنده من بعض ، امتنع [20] أن يفعل بعضها لأجل بعض .
ثم الجهمية المجبرة لما رأت فساد قول هؤلاء القدرية ، وقد شاركوهم [21] [ ص: 196 ] في ذلك الأصل ، قالوا : يمتنع أن يفعل شيئا لأجل شيء أصلا ، ويمتنع أن يكون بعض الأشياء أحب إليه من بعض ، ويمتنع أن يحب شيئا من مخلوقاته دون بعض ، أو يريد منها شيئا دون شيء ، بل كل ما حدث فهو مراد له محبوب مرضي ، سواء كان كفرا أو إيمانا ، أو حسنات أو سيئات ، أو نبيا أو شيطانا . وكل ما لم يحدث فهو ليس [22] محبوبا له ولا مرضيا له ولا مرادا ، كما أنه لم يشأه ، فعندهم ما شاء الله كان وأحبه ورضيه وأراده ، وما لم يشأه لم يكن ولا يحبه ولا يرضاه ولا يريده .
وأولئك القدرية يقولون : كل ما أمر به فهو يشاؤه ويريده ، كما أنه يحبه ويرضاه ، وما لم يأمر به لا يشاؤه [23] ولا يريده كما لا يحبه ولا يرضاه ، بل يكون في ملكه ما لا يشاء ، ويشاء ما لا يكون .
ثم إن [24] إذا تلي عليهم قوله تعالى : والله لا يحب الفساد [ سورة البقرة : 205 ] ، ولا يرضى لعباده الكفر [ سورة الزمر : 7 ] ، قالوا : معناه لا يحبه ولا يريده ولا يشاؤه ممن لم يوجد منه ، أو لا يحبه ولا يشاؤه ولا يريده دينا ، بمعنى أنه لا يشاء أن يثيب صاحبه . الجهمية المجبرة
وأما ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان فعندهم أنه يحبه ويرضاه كما يشاؤه لكن لا يحب أن يثيب صاحبه ، كما لا يشاء أن يثيبه ، وعندهم يشاء تنعيم أقوام وتعذيب آخرين لا بسبب ولا لحكمة [25] ، وليس في بعض [ ص: 197 ] المخلوقات قوى ولا طبائع كان بها الحادث ، ولا فيها حكمة لأجلها كان الحادث ، ولا أمر بشيء لمعنى ، ولا نهى عنه لمعنى ، ولا اصطفى أحدا من الملائكة والنبيين لمعنى فيه [26] ، ولا أباح الطيبات وحرم الخبائث لمعنى أوجب كون هذا طيبا وهذا خبيثا ، ولا أمر بقطع يد السارق لحفظ [27] أموال الناس ، ولا أمر بعقوبة قطاع الطريق المعتدين لدفع ظلم العباد بعضهم عن بعض ، ولا أنزل المطر لشرب الحيوان ولإنبات [28] النبات .
وهكذا يقولون في سائر ما خلقه ، لكن يقولون إنه إذا وجد مع شيء منفعة أو مضرة ، فإنه خلق هذا مع هذا لا لأجله ولا به . وكذلك وجده [29] المأمور مقارنا لهذا لا به ولا لأجله . والاقتران أجرى به العادة من غير حكمة ولا سبب ، ولهذا لم تكن الأعمال عندهم إلا مجرد علامات محضة وأمارات ، لأجل ما جرت به العادة من الاقتران ، لا لحكمة ولا لسبب [30] ، وفي كل من القولين من التناقض ما لا يكاد يحصى .
ولكن هذا الإمامي القدري لما أخذ يذكر تناقض أقوال أهل السنة مطلقا ، بين له [31] أن القدرية كلهم يعجزون عن إقامة الحجة على [32] مقابليهم من المجبرة ، كما تعجز الرافضة [33] عن إقامة الحجة على مقابليهم [ ص: 198 ] من الخوارج والنواصب ، فضلا عن أن يقيموا الحجة على أهل الاستقامة والاعتدال المتبعين للكتاب والسنة ] [34] .
ولهذا نبهنا على [ بعض ] [35] ما في أقوالهم من التناقض والفساد [36] الذي لا يكاد ينضبط [37] . وغيره من متكلمة أهل والأشعري [38] الإثبات انتدبوا لبيان تناقضهم في أصولهم [39] وأوعبوا [40] في بيان تناقض أقوالهم [41] .
وحكاية مع الأشعري الجبائي في الإخوة الثلاثة مشهورة ، فإنهم يوجبون على الله أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له [42] في دينه . وأما في الدنيا فالبغداديون من المعتزلة يوجبونه أيضا ، والبصريون لا يوجبونه .
فقال له : إذا خلق الله ثلاثة إخوة ، فمات أحدهم صغيرا ، وبلغ الآخران : أحدهما آمن ، والآخر كفر ، فأدخل المؤمن الجنة ورفع درجته ، وأدخل الصغير الجنة وجعل منزلته تحته . قال له الصغير : يا رب ارفعني إلى درجة أخي . قال : إنك لست مثله ; إنه آمن وعمل الصالحات [43] ، [ ص: 199 ] وأنت صغير [44] لم تعمل عمله . قال : يا رب أنت [45] أمتني ، فلو [ كنت ] أبقيتني كنت أعمل [46] مثل عمله [47] . فقال : عملت مصلحتك ; لأني علمت أنك لو بلغت لكفرت ، فلهذا اخترمتك . فصاح الثالث من أطباق النار ، وقال يا رب هلا اخترمتني [48] قبل البلوغ كما اخترمت أخي الصغير ؟ فإن هذا كان مصلحة [49] في حقي أيضا .
فيقال [50] : إنه لما أورد عليه هذا انقطع [51] . وذلك أنهم يوجبون عليه العدل بين المتماثلين وأن يفعل بكل واحد منهما ما هو أصلح [52] ، وهنا [53] قد فعل [ بأحدهما ما هو ] [54] الأصلح عندهم دون الآخر . وليس هذا موضع بسط ذلك .
وإذا كان الأمر كذلك بطل تشبيههم لله بخلقه ، وقال لهم هؤلاء : [ ص: 200 ] نحن وأنتم قد اتفقنا على أن فعل الله لا يقاس [55] على فعل [56] خلقه ، وإنا وإياكم نثبت فاعلا يفعل شيئا منفصلا عن نفسه ، بدون شيء حادث في نفسه ، وهذا غير معقول في الشاهد [57] ، ( * ونثبت [58] فاعلا لم يزل غير فاعل حتى فعل من غير تجدد شيء ، وهذا غير معقول في الشاهد * ) [59] .
وأنتم تثبتون من الغرض ما ثبت فاعلا لم يزل غير فاعل حتى فعل من غير تجدد شيء ، وهذا غير معقول في الشاهد . وأنتم تثبتون من الغرض ما لا يعقل في الشاهد ، وتدعون بذلك أنكم [60] تنفون عنه [61] السفه وتجعلونه حكيما ، والذي تذكرونه هو السفه [62] المعقول في الشاهد المخالف للحكمة .
وإذا كان كذلك فقولكم [63] : إن كل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريده وينهى عما يريده - إلى السفه ، تعالى الله عن ذلك .
فيقال لكم [64] : إن كان هذا الفاعل من المخلوقين ، فلم قلتم : إن الخالق كذلك ، مع ما اتفقنا عليه من الفرق بينهما ؟ والمخلوق محتاج إلى [ ص: 201 ] جلب المنفعة ودفع المضرة ، والله تعالى [ منزه ] [65] عن ذلك ، والعبد مأمور منهي ، والله منزه عن ذلك .
فهذه [66] القضية إن أخذتموها كلية يدخل فيها الخالق ، منعنا الإجماع [67] المحكي عن العقلاء . وإن أخذتموها في المخلوق لتقيسوا به الخالق ، كان هذا قياسا فاسدا ، فلا يصح معكم هذا القياس ، لا على أنه قياس شمول ولا على أنه قياس تمثيل .
وقد أجابهم بجواب آخر الأشعري [68] ، فقال : لا نسلم أن أمر الإنسان بما لا يريده [69] سفه [70] مطلقا ، بل قد يكون حكمة ، إذا كان مقصوده امتحان المأمور ليبين [71] عذره عند الناس في عقابه ، مثل من يكون له عبد يعصيه فيعاقبه ، فيلام على عقوبته ، فيعتذر [72] بأن هذا يعصيني ، فيطلب [73] منه تحقيق ذلك ، فيأمر أمر امتحان ، وهو [ هنا ] [74] لا يريد أن يفعل المأمور به ، بل يريد أن يعصيه ليظهر عذره في عقابه .
وأثبت بهذا أيضا كلام النفس الذي يثبته ، وأن الطلب القائم بالنفس [ ص: 202 ] ليس هو الإرادة ولا مستلزما لها ، كما أثبت معنى الخبر : أنه ليس هو العلم بإخبار الكاذب ، فاعتمد على أمر الممتحن وخبر الكاذب .
لكن جمهور أهل السنة لم يرضوا بهذا الجواب ، فإن هذا في الحقيقة ليس هو أمرا ، وإنما هو إظهار أمر . وكذلك خبر الكاذب هو قال بلسانه [75] ما ليس في قلبه ، فخبر الكاذب ليس خبرا عما في نفسه ، بل هو إظهار الخبر [ عما ] [76] في نفسه ، فصار [77] أمر الممتحن كأمر الهازل الذي لا يعلم المأمور هزله [78] ، ونظائر ذلك .
ولهذا إذا عرف المأمور حقيقة [79] أمر الممتحن [ ليعاقبه ] [80] ، وأنه ليس مراده إلا أن يعصيه ، فإنه يطيعه في هذه الحال .
والممتحن نوعان : نوع قصده أن يعصيه المأمور ليعاقبه ، مثل هذا المثال [81] . ونوع مراده طاعة المأمور وانقياده [82] لأمره ، لا نفس [83] الفعل المأمور به ، كأمر الله سبحانه وتعالى [84] للخليل صلى الله عليه وسلم بذبح ابنه ، وكان المراد طاعة إبراهيم وبذل ذبح ابنه في محبة الله [85] ، وأن يكون [ ص: 203 ] طاعة الله ومحبوبه ومراده [86] أحب إليه من الابن ، فلما حصل هذا المراد ، فداه الله بالذبح العظيم .
كما قال تعالى : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم [ سورة الصافات : 103 ، 107 ] .
وتصور هذه المعاني نافع جدا في هذا الباب ، الذي كثر فيه الاضطراب [87] .