الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ( فصل ) [1]

                  وفي الجملة من نفى قيام الأمور الاختيارية بذات الرب تعالى لا بد أن يقول أقوالا متناقضة فاسدة . ولما [2] كانت الجهمية المجبرة والقدرية المعتزلة [ ص: 194 ] قد اشتركوا في أنه لا يقوم بذاته شيء من ذلك ، ثم تنازعوا بعد ذلك في تعليل أفعاله وأحكامه [3] ، كان كل واحد من القولين يستلزم ما يبين فساده وتناقضه .

                  فمثبتة التعليل تقول : من فعل لغير حكمة كان سفيها . وهذا إنما يعلم فيمن [4] فعل لغير حكمة تعود إليه ، وهم يزعمون أن البارئ فعل لا لحكمة تعود إليه ، فإن كان من [5] فعل لا لحكمة سفيها [6] لزمه [7] إثبات السفه ، وإن لم يكن سفيها تناقضوا ، فإن ما أثبتوه من فعله لحكمة لا تعود إليه لا يعقل ، فضلا عن أن يكون حكيما .

                  وهذا نظير قولهم في صفاته وكلامه ، فإنهم قالوا : لا يتكلم إلا بمشيئته [8] وقدرته ، ويمتنع أن يكون القرآن قديما ، لما فيه من الأمور المنافية لقدمه . وقالوا : المتكلم لا يعقل [9] إلا من تكلم بمشيئته وقدرته ، دون من يكون الكلام لازما لذاته لا يحصل بقدرته ومشيئته [10] .

                  فيقال لهم : وكذلك لا يعقل متكلم إلا من يقوم به الكلام . أما متكلم لا يقوم به الكلام ، أو مريد لا تقوم به الإرادة ، أو عالم لا يقوم به العلم فهذا لا يعقل ، بل هو خلاف المعقول .

                  [ ص: 195 ] بل قولهم في الكلام يتضمن أن من قام به الكلام لا يكون متكلما ; لأن المتكلم [11] هو الذي أحدث في غيره الكلام ، وهذا خلاف المعقول . وكذلك قولهم في رضاه وغضبه ومحبته وإرادته وغير ذلك : أنها لا تقوم بذاته ، وإنما هي أمور منفصلة عنه [12] ، فجعلوه موصوفا بأمور لا تقوم به ، بل هي منفصلة عنه [13] ، وهذا خلاف المعقول ، ثم هو تناقض ، فإنه [14] يلزمهم أن يوصف بكل ما يحدثه من المخلوقات [15] ، حتى يوصف بكل كلام خلقه ، فيكون ذلك كلامه . فإذا أنطق [16] ما ينطقه من مخلوقاته ، كان ذلك كلامه لا كلام من ينطقه [17] وهذا مبسوط في موضعه .

                  والمقصود هنا أن كلامهم أنه يفعل لحكمة ، يستلزم أن يكون وجود الحكمة أرجح عنده من عدمها ، أو أنها [18] تقوم به ، وغير ذلك من اللوازم التي لا يعقل من يفعل لحكمة إلا من يتصف بها . وإلا فإذا قدر أن نسبة جميع الحوادث إليه سواء ، وامتنع [19] أن يكون بعضها أرجح عنده من بعض ، امتنع [20] أن يفعل بعضها لأجل بعض .

                  ثم الجهمية المجبرة لما رأت فساد قول هؤلاء القدرية ، وقد شاركوهم [21] [ ص: 196 ] في ذلك الأصل ، قالوا : يمتنع أن يفعل شيئا لأجل شيء أصلا ، ويمتنع أن يكون بعض الأشياء أحب إليه من بعض ، ويمتنع أن يحب شيئا من مخلوقاته دون بعض ، أو يريد منها شيئا دون شيء ، بل كل ما حدث فهو مراد له محبوب مرضي ، سواء كان كفرا أو إيمانا ، أو حسنات أو سيئات ، أو نبيا أو شيطانا . وكل ما لم يحدث فهو ليس [22] محبوبا له ولا مرضيا له ولا مرادا ، كما أنه لم يشأه ، فعندهم ما شاء الله كان وأحبه ورضيه وأراده ، وما لم يشأه لم يكن ولا يحبه ولا يرضاه ولا يريده .

                  وأولئك القدرية يقولون : كل ما أمر به فهو يشاؤه ويريده ، كما أنه يحبه ويرضاه ، وما لم يأمر به لا يشاؤه [23] ولا يريده كما لا يحبه ولا يرضاه ، بل يكون في ملكه ما لا يشاء ، ويشاء ما لا يكون .

                  ثم إن الجهمية المجبرة [24] إذا تلي عليهم قوله تعالى : والله لا يحب الفساد [ سورة البقرة : 205 ] ، ولا يرضى لعباده الكفر [ سورة الزمر : 7 ] ، قالوا : معناه لا يحبه ولا يريده ولا يشاؤه ممن لم يوجد منه ، أو لا يحبه ولا يشاؤه ولا يريده دينا ، بمعنى أنه لا يشاء أن يثيب صاحبه .

                  وأما ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان فعندهم أنه يحبه ويرضاه كما يشاؤه لكن لا يحب أن يثيب صاحبه ، كما لا يشاء أن يثيبه ، وعندهم يشاء تنعيم أقوام وتعذيب آخرين لا بسبب ولا لحكمة [25] ، وليس في بعض [ ص: 197 ] المخلوقات قوى ولا طبائع كان بها الحادث ، ولا فيها حكمة لأجلها كان الحادث ، ولا أمر بشيء لمعنى ، ولا نهى عنه لمعنى ، ولا اصطفى أحدا من الملائكة والنبيين لمعنى فيه [26] ، ولا أباح الطيبات وحرم الخبائث لمعنى أوجب كون هذا طيبا وهذا خبيثا ، ولا أمر بقطع يد السارق لحفظ [27] أموال الناس ، ولا أمر بعقوبة قطاع الطريق المعتدين لدفع ظلم العباد بعضهم عن بعض ، ولا أنزل المطر لشرب الحيوان ولإنبات [28] النبات .

                  وهكذا يقولون في سائر ما خلقه ، لكن يقولون إنه إذا وجد مع شيء منفعة أو مضرة ، فإنه خلق هذا مع هذا لا لأجله ولا به . وكذلك وجده [29] المأمور مقارنا لهذا لا به ولا لأجله . والاقتران أجرى به العادة من غير حكمة ولا سبب ، ولهذا لم تكن الأعمال عندهم إلا مجرد علامات محضة وأمارات ، لأجل ما جرت به العادة من الاقتران ، لا لحكمة ولا لسبب [30] ، وفي كل من القولين من التناقض ما لا يكاد يحصى .

                  ولكن هذا الإمامي القدري لما أخذ يذكر تناقض أقوال أهل السنة مطلقا ، بين له [31] أن القدرية كلهم يعجزون عن إقامة الحجة على [32] مقابليهم من المجبرة ، كما تعجز الرافضة [33] عن إقامة الحجة على مقابليهم [ ص: 198 ] من الخوارج والنواصب ، فضلا عن أن يقيموا الحجة على أهل الاستقامة والاعتدال المتبعين للكتاب والسنة ] [34] .

                  ولهذا نبهنا على [ بعض ] [35] ما في أقوالهم من التناقض والفساد [36] الذي لا يكاد ينضبط [37] . والأشعري وغيره من متكلمة أهل [38] الإثبات انتدبوا لبيان تناقضهم في أصولهم [39] وأوعبوا [40] في بيان تناقض أقوالهم [41] .

                  وحكاية الأشعري مع الجبائي في الإخوة الثلاثة مشهورة ، فإنهم يوجبون على الله أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له [42] في دينه . وأما في الدنيا فالبغداديون من المعتزلة يوجبونه أيضا ، والبصريون لا يوجبونه .

                  فقال له : إذا خلق الله ثلاثة إخوة ، فمات أحدهم صغيرا ، وبلغ الآخران : أحدهما آمن ، والآخر كفر ، فأدخل المؤمن الجنة ورفع درجته ، وأدخل الصغير الجنة وجعل منزلته تحته . قال له الصغير : يا رب ارفعني إلى درجة أخي . قال : إنك لست مثله ; إنه آمن وعمل الصالحات [43] ، [ ص: 199 ] وأنت صغير [44] لم تعمل عمله . قال : يا رب أنت [45] أمتني ، فلو [ كنت ] أبقيتني كنت أعمل [46] مثل عمله [47] . فقال : عملت مصلحتك ; لأني علمت أنك لو بلغت لكفرت ، فلهذا اخترمتك . فصاح الثالث من أطباق النار ، وقال يا رب هلا اخترمتني [48] قبل البلوغ كما اخترمت أخي الصغير ؟ فإن هذا كان مصلحة [49] في حقي أيضا .

                  فيقال [50] : إنه لما أورد عليه هذا انقطع [51] . وذلك أنهم يوجبون عليه العدل بين المتماثلين وأن يفعل بكل واحد منهما ما هو أصلح [52] ، وهنا [53] قد فعل [ بأحدهما ما هو ] [54] الأصلح عندهم دون الآخر . وليس هذا موضع بسط ذلك .

                  وإذا كان الأمر كذلك بطل تشبيههم لله بخلقه ، وقال لهم هؤلاء : [ ص: 200 ] نحن وأنتم قد اتفقنا على أن فعل الله لا يقاس [55] على فعل [56] خلقه ، وإنا وإياكم نثبت فاعلا يفعل شيئا منفصلا عن نفسه ، بدون شيء حادث في نفسه ، وهذا غير معقول في الشاهد [57] ، ( * ونثبت [58] فاعلا لم يزل غير فاعل حتى فعل من غير تجدد شيء ، وهذا غير معقول في الشاهد * ) [59] .

                  وأنتم تثبتون من الغرض ما ثبت فاعلا لم يزل غير فاعل حتى فعل من غير تجدد شيء ، وهذا غير معقول في الشاهد . وأنتم تثبتون من الغرض ما لا يعقل في الشاهد ، وتدعون بذلك أنكم [60] تنفون عنه [61] السفه وتجعلونه حكيما ، والذي تذكرونه هو السفه [62] المعقول في الشاهد المخالف للحكمة .

                  وإذا كان كذلك فقولكم [63] : إن كل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريده وينهى عما يريده - إلى السفه ، تعالى الله عن ذلك .

                  فيقال لكم [64] : إن كان هذا الفاعل من المخلوقين ، فلم قلتم : إن الخالق كذلك ، مع ما اتفقنا عليه من الفرق بينهما ؟ والمخلوق محتاج إلى [ ص: 201 ] جلب المنفعة ودفع المضرة ، والله تعالى [ منزه ] [65] عن ذلك ، والعبد مأمور منهي ، والله منزه عن ذلك .

                  فهذه [66] القضية إن أخذتموها كلية يدخل فيها الخالق ، منعنا الإجماع [67] المحكي عن العقلاء . وإن أخذتموها في المخلوق لتقيسوا به الخالق ، كان هذا قياسا فاسدا ، فلا يصح معكم هذا القياس ، لا على أنه قياس شمول ولا على أنه قياس تمثيل .

                  وقد أجابهم الأشعري بجواب آخر [68] ، فقال : لا نسلم أن أمر الإنسان بما لا يريده [69] سفه [70] مطلقا ، بل قد يكون حكمة ، إذا كان مقصوده امتحان المأمور ليبين [71] عذره عند الناس في عقابه ، مثل من يكون له عبد يعصيه فيعاقبه ، فيلام على عقوبته ، فيعتذر [72] بأن هذا يعصيني ، فيطلب [73] منه تحقيق ذلك ، فيأمر أمر امتحان ، وهو [ هنا ] [74] لا يريد أن يفعل المأمور به ، بل يريد أن يعصيه ليظهر عذره في عقابه .

                  وأثبت بهذا أيضا كلام النفس الذي يثبته ، وأن الطلب القائم بالنفس [ ص: 202 ] ليس هو الإرادة ولا مستلزما لها ، كما أثبت معنى الخبر : أنه ليس هو العلم بإخبار الكاذب ، فاعتمد على أمر الممتحن وخبر الكاذب .

                  لكن جمهور أهل السنة لم يرضوا بهذا الجواب ، فإن هذا في الحقيقة ليس هو أمرا ، وإنما هو إظهار أمر . وكذلك خبر الكاذب هو قال بلسانه [75] ما ليس في قلبه ، فخبر الكاذب ليس خبرا عما في نفسه ، بل هو إظهار الخبر [ عما ] [76] في نفسه ، فصار [77] أمر الممتحن كأمر الهازل الذي لا يعلم المأمور هزله [78] ، ونظائر ذلك .

                  ولهذا إذا عرف المأمور حقيقة [79] أمر الممتحن [ ليعاقبه ] [80] ، وأنه ليس مراده إلا أن يعصيه ، فإنه يطيعه في هذه الحال .

                  والممتحن نوعان : نوع قصده أن يعصيه المأمور ليعاقبه ، مثل هذا المثال [81] . ونوع مراده طاعة المأمور وانقياده [82] لأمره ، لا نفس [83] الفعل المأمور به ، كأمر الله سبحانه وتعالى [84] للخليل صلى الله عليه وسلم بذبح ابنه ، وكان المراد طاعة إبراهيم وبذل ذبح ابنه في محبة الله [85] ، وأن يكون [ ص: 203 ] طاعة الله ومحبوبه ومراده [86] أحب إليه من الابن ، فلما حصل هذا المراد ، فداه الله بالذبح العظيم .

                  كما قال تعالى : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم [ سورة الصافات : 103 ، 107 ] .

                  وتصور هذه المعاني نافع جدا في هذا الباب ، الذي كثر فيه الاضطراب [87] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية