الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " وإباحة أكل الكلب ، واللواط بالعبيد ، وإباحة الملاهي كالشطرنج والغناء ، وغير ذلك من المسائل التي لا يحتملها هذا المختصر " .

                  فيقال : نقل هذا عن جميع أهل السنة كذب ، وكذلك نقله عن جمهورهم . بل فيه ما قاله بعض المقرين بخلافة الخلفاء الثلاثة ، [ ص: 435 ] وفيه [1] ما هو كذب عليهم لم يقله أحد منهم ، وذلك الذي قاله بعض هؤلاء أنكره جمهورهم فلم يتفقوا على ضلالة .

                  ثم إن الموجود في الشيعة من الأمور المنكرة الشنيعة [2] المخالفة للكتاب والسنة والإجماع ، أعظم وأشنع [3] مما يوجد في أي طائفة فرضت من طوائف السنة ، فما من طائفة من طوائف السنة [4] يوجد في قولها ما هو [5] ضعيف إلا ويوجد ما هو أضعف منه وأشنع من أقوال الشيعة [6] .

                  فتبين على كل تقدير أن كل طائفة من أهل السنة خير منهم ، فإن الكذب الذي [7] يوجد فيهم ، والتكذيب بالحق ، وفرط الجهل ، والتصديق بالمحالات ، وقلة العقل ، والغلو في اتباع الأهواء [8] ، والتعلق بالمجهولات لا يوجد مثله في طائفة أخرى .

                  وأما ما حكاه من إباحة اللواط بالعبيد ، فهو كذب لم يقله أحد من علماء أهل [9] السنة ، وأظنه قصد التشنيع به على مالك ، فإني رأيت من الجهال من يحكي هذا عن مالك . وأصل ذلك ما يحكى عنه في حشوش [ ص: 436 ] النساء [10] ، فإنه لما حكي عن طائفة من أهل المدينة إباحة ذلك ، وحكي عن مالك فيه روايتان ، ظن الجاهل أن أدبار المماليك كذلك .

                  وهذا من أعظم الغلط على من هو [11] دون مالك ، فكيف على مالك مع جلالة قدره وشرف مذهبه وكمال صيانته عن الفواحش ، وأحكامه بسد الذرائع ، وأنه من أبلغ المذاهب إقامة للحدود ، ونهيا عن المنكرات والبدع [12] .

                  ولا يختلف مذهب مالك في أن من استحل إتيان المماليك أنه يكفر ، كما أن هذا قول جميع أئمة المسلمين ، فإنهم متفقون على أن استحلال هذا بمنزلة استحلال وطء أمته التي هي بنته من الرضاعة ، أو أخته من الرضاعة ، أو هي موطوءة ابنه أو أبيه ، فكما أن مملوكته إذا كانت محرمة برضاع أو صهر لا تباح له باتفاق المسلمين ، فمملوكه أولى بالتحريم ، فإن هذا الجنس محرم [13] مطلقا لا يباح بعقد نكاح ولا ملك يمين ، بخلاف وطء الإناث .

                  ولهذا كان مذهب مالك وعلماء المدينة أن اللوطي [14] يقتل رجما ، [ ص: 437 ] محصنا كان أو غير محصن ، سواء تلوط بمملوكه أو غير مملوكه ، فإنه يقتل عندهم الفاعل والمفعول به .

                  كما في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اقتلوا الفاعل والمفعول به " . رواه أبو داود وغيره [15] . .

                  وهذا مذهب أحمد في الرواية المنصوصة عنه [16] . ، وهو أحد قولي الشافعي . فمن يكن مذهبه أن هذا أشد من الزنا ، كيف يحكى عنه أنه أباح ذلك . وكذلك لم يبحه غيره من العلماء [17] بل هم متفقون على تحريم ذلك . ولكن كثيرا من الأشياء يتفقون [18] . على تحريمها ، ويتنازعون في إقامة الحد على فاعلها : هل يحد أو يعزر بما دون الحد كما لو وطئ أمته التي هي ابنته من الرضاعة .

                  وأما قوله : " وإباحة الملاهي كالشطرنج والغناء " .

                  فيقال : مذهب جمهور العلماء [19] . أن الشطرنج حرام . وقد ثبت عن [ ص: 438 ] علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - [20] . أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون [21] . ؟ .

                  وكذلك النهي عنها معروف عن أبي موسى وابن عباس وابن عمر وغيره من الصحابة .

                  وتنازعوا في أيهما أشد [22] . تحريما : الشطرنج أوالنرد ؟ فقال مالك : الشطرنج أشد من النرد . وهذا منقول [23] . عن ابن عمر ، وهذا لأنها تشغل القلب بالفكر الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النرد .

                  وقال : أبو حنيفة وأحمد : النرد أشد ، فإن العوض يدخل فيها أكثر . وأما الشافعي فلم يقل [24] . : إن [25] . الشطرنج حلال ، ولكن قال : النرد حرام والشطرنج دونها ، ولا يتبين لي [26] . أنها حرام ، فتوقف في التحريم . ولأصحابه في تحريمها قولان [27] . : فإن كان التحليل هو الراجح فلا ضرر ، [ ص: 439 ] وإن كان التحريم هو الراجح فهو قول جمهور أهل السنة ، فعلى التقديرين لا يخرج الحق عنهم .

                  قوله : " وإباحة الغناء " .

                  فيقال له : هذا من الكذب على الأئمة الأربعة ، فإنهم متفقون على تحريم المعازف [28] . التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه ، ولو أتلفها متلف عندهم لم يضمن صورة التالف ، بل يحرم عندهم اتخاذها . وهل يضمن المادة : على قولين [29] . مشهورين لهم ، كما لو أتلف أوعية الخمر ، فإنه لو أتلف ما يقوم به المحرم [30] . من المادة لم يضمنه في أحد قوليهم ، كما هو مذهب مالك ، وأشهر الروايتين عن أحمد ، كما أتلف موسى العجل المتخذ من الذهب [31] . .

                  وكما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - أمر عبد الله بن عمرو أن يحرق الثوبين المعصفرين اللذين كانا عليه

                  [32] [ ص: 440 ] وكما أمرهم عام خيبر بكسر القدور التي كان [33] . فيها لحوم الحمر ، ثم أذن لهم في إراقة [34] . ما فيها [35] . ، فدل على جواز الأمرين .

                  وكما أمر لما حرمت الخمر بشق الظروف وكسر الدنان [36] . .

                  وكما أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - [37] . أمرا بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر .

                  ومن لم يجوز ذلك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد - في

                  [ ص: 441 ] إحدى الروايتين عنه قالوا : هذه عقوبات مالية وهي منسوخة ، وأولئك يقولون : لم ينسخ ذلك [38] . شيء ، فإن النسخ لا يكون [39] . إلا بنص متأخر عن الأول يعارضه ، ولم يرد شيء من ذلك [40] . ، بل العقوبات المالية كالعقوبات البدنية تستعمل على الوجه المشروع ، بل هي أولى بالاستعمال ، فإن إتلاف الأبدان والأعضاء أعظم من إتلاف الأموال ، فإذا كان جنس الأول مشروعا ، فجنس الثاني بطريق الأولى .

                  وقد تنازعوا أيضا في القصاص في الأموال : إذا خرق [41] . له ثوبا هل له أن يخرق [42] . نظيره من ثيابه ، فيتلف ماله كما أتلف ماله ، على قولين هما روايتان عن أحمد . فمن قال : لا يجوز ذلك قال : لأنه فساد [43] . ومن قال : يجوز ، قال : إتلاف النفس والطرف أشد فسادا ، وهو جائز على وجه العدل والاقتصاص ، لما فيه من كف العدوان ، [ وشفاء نفس المظلوم ] [44] . . ومن منع قال : النفوس لو لم يشرع فيها القصاص لم تنكف النفوس [45] . فإن القاتل إذا علم أنه لا يقتل بل يؤدي دية ، أقدم [46] . على القتل وأدى [47] . الدية .

                  [ ص: 442 ] بخلاف الأموال ، فإنه يؤخذ من المتلف نظير ما أتلفه ، فحصل القصاص بذلك الزجر . وأما إتلاف ذلك فضرره [48] . على المتلف عليه ، فإنه يذهب ماله وعوض ماله عليه ، وذلك يقول : بل فيه نوع من [49] . شفاء غيظ المظلوم . وأما إذا تعذر القصاص [50] . منه إلا بإتلاف ماله فهذا [51] . أظهر جوازا ; لأن [52] . القصاص عدل ، وجزاء سيئة سيئة مثلها ، فإذا أتلف ماله ولم يكن الاقتصاص [53] . منه إلا بإتلافه ، جاز ذلك .

                  ولهذا اتفق العلماء على جواز إتلاف الشجر والزرع الذي للكفار ، إذا فعلوا بنا مثل ذلك ، أو لم يقدر [54] . عليهم إلا به . وفي جوازه بدون ذلك نزاع معروف [55] . وهو روايتان عن أحمد . والجواز مذهب الشافعي وغيره .

                  [ والمقصود هنا ] [56] . أن آلات اللهو محرمة عند الأئمة الأربعة ، ولم يحك عنهم نزاع في ذلك [57] . ، إلا أن المتأخرين من الخراسانيين من أصحاب الشافعي ذكروا في النزاع وجهين ، والصحيح التحريم . وأما [ ص: 443 ] العراقيون وقدماء الخراسانيين فلم يذكروا في ذلك نزاعا .

                  وأما الغناء المجرد فمحرم عند أبي حنيفة ومالك ، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد ، وعنهما أنه مكروه . وذهبت طائفة من أصحاب أحمد إلى أن الغناء المجرد مباح . فإن كان هذا القول حقا فلا ضرر ، وإن كان باطلا فجمهور أهل السنة على التحريم ، فلم يخرج الحق عن أهل السنة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية