الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                  فصل [1] .

                  قال الرافضي : " [ الوجه ] [2] الرابع [3] : أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين المشهورين بالفضل والعلم والزهد والورع والاشتغال في كل وقت بالعبادة والدعاء [4] وتلاوة القرآن والمداومة على ذلك من [5] زمن الطفولية إلى آخر العمر ، ومنهم من يعلم الناس العلوم [6] ، ونزل في حقهم : ( هل أتى ) [ سورة الإنسان : 1 ] ، وآية الطهارة ، وإيجاب المودة لهم ، وآية الابتهال وغير ذلك . وكان علي [ - رضي الله عنه - ] [7] يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، ويتلو القرآن مع شدة ابتلائه بالحروب والجهاد .

                  [ ص: 6 ] فأولهم علي بن أبي طالب [ - رضي الله عنه - ] [8] كان أفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [9] وجعله الله نفس رسول الله [10] حيث قال : ( وأنفسنا وأنفسكم ) [ سورة آل عمران : 61 ] وواخاه [ رسول الله ] وزوجه [11] ابنته ، وفضله لا يخفى [12] وظهرت منه [13] معجزات كثيرة ، حتى ادعى قوم فيه [14] الربوبية وقتلهم ، وصار إلى مقالتهم آخرون إلى هذه الغاية كالغلاة والنصيرية . وكان ولداه سبطا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [15] سيدا شباب أهل الجنة إمامين بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - [16] ، وكانا أزهد الناس وأعلمهم في زمانهما [17] ، وجاهدا [18] في الله حق جهاده حتى قتلا ، ولبس الحسن [19] الصوف تحت ثيابه الفاخرة من [ ص: 7 ] غير أن يشعر أحد [20] بذلك ، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما الحسين على فخذه الأيمن [21] ، وإبراهيم [22] على فخذه الأيسر ، فنزل جبرائيل [ عليه السلام ] [23] وقال : إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما [24] ، فاختر من شئت منهما ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - [25] : إذا مات الحسين بكيت [26] أنا وعلي وفاطمة ، وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه ، فاختار موت إبراهيم [27] فمات بعد ثلاثة أيام ، وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول [28] : أهلا ومرحبا بمن فديته بابني إبراهيم . وكان علي بن الحسين زين العابدين [29] يصوم نهاره ويقوم ليله ، ويتلو الكتاب العزيز ، ويصلي كل يوم وليلة ألف ركعة ، ويدعو كل ركعتين [30] بالأدعية المنقولة عنه وعن آبائه [31] ثم يرمي الصحيفة كالمتضجر ، ويقول [32] : أنى لي بعبادة [ ص: 8 ] علي [33] ، وكان يبكي كثيرا [34] حتى أخذت الدموع من لحم خديه ، وسجد حتى سمي ذا الثفنات [35] ، وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد العابدين .

                  وكان قد حج هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر [36] فلم يمكنه من الزحام [37] فجاء زين العابدين فوقف [38] الناس له وتنحوا عن الحجر حتى استلمه [39] ، ولم يبق عند الحجر سواه [40] ، فقال هشام [ بن عبد الملك ] : من هذا ؟ فقال الفرزدق [ الشاعر ] [41] :

                  هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم     هذا ابن خير عباد الله كلهم
                  هذا التقي النقي الطاهر [42] العلم     يكاد يمسكه عرفان راحته
                  ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم [ ص: 9 ]     إذا رأته قريش قال قائلها
                  إلى مكارم هذا ينتهي الكرم     إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم
                  أو قيل من خير أهل الأرض [43] قيل هم     هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
                  بجده أنبياء الله قد ختموا     يغضي حياء ويغضى من مهابته
                  فما يكلم إلا حين يبتسم     ينشق نور الهدى عن صبح غرته
                  كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم     مشتقة من رسول الله نبعته
                  طابت عناصره والخيم والشيم     الله شرفه قدما وفضله
                  جرى بذاك له في لوحه القلم [44]     من معشر حبهم دين وبغضهم
                  كفر وقربهم ملجا ومعتصم     لا يستطيع جواد بعد غايتهم
                  ولا يدانيهم قوم وإن كرموا     هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت
                  والأسد أسد الشرى والرأي [45] محتدم     لا ينقص [46] العسر بسطا من أكفهم
                  سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا     ما قال لا قط إلا في تشهده
                  لولا التشهد كانت لاؤه نعم     يستدفع السوء [47] والبلوى بحبهم
                  ويسترق به الإحسان والنعم     مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
                  في كل بر [48] ومختوم به الكلم     من يعرف الله يعرف أولوية ذا
                  [49] فالدين من بيت هذا ناله الأمم

                  [50] [ ص: 10 ] فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بين مكة والمدينة ، [ فقال الفرزدق هذه الأبيات وبعث بها إليه [51]

                  أتحبسني بين المدينة والتي     إليها قلوب الناس يهوي منبيها
                  [52] تقلب رأسا لم يكن رأس سيد     وعينا له حولاء [53] باد عيوبها

                  ] [54] .

                  فبعث إليه الإمام [55] زين العابدين [56] بألف دينار فردها ، وقال : إنما قلت هذا غضبا لله ولرسوله [57] ، فما آخذ عليه أجرا ، فقال علي بن الحسين [58] : نحن أهل بيت [59] لا يعود إلينا ما خرج منا ، فقبلها [60] الفرزدق .

                  [ ص: 11 ] وكان بالمدينة قوم يأتيهم رزقهم ليلا ولا يعرفون ممن هو ، فلما مات زين العابدين [61] ، انقطع ذلك عنهم [62] وعرفوا أنه كان منه [63] .

                  وكان ابنه محمد الباقر [64] أعظم الناس زهدا وعبادة ، بقر السجود جبهته ، وكان أعلم [ أهل ] [65] وقته ، سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الباقر ، وجاء جابر بن عبد الله الأنصاري إليه [66] وهو صغير في الكتاب ، فقال له : جدك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عليك . فقال : وعلى جدي السلام . فقيل لجابر : كيف هذا ؟ قال : [67] كنت جالسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحسين في حجره وهو يلاعبه ، [68] فقال : يا جابر ، يولد له ولد اسمه علي إذا [69] كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم سيد العابدين ، فيقوم ولده ، ثم يولد له مولود اسمه محمد الباقر ، يبقر [70] العلم بقرا ، فإذا رأيته فأقرئه مني السلام [71] .

                  وروى عنه أبو حنيفة وغيره .

                  [ ص: 12 ] وكان ابنه الصادق [72] عليه السلام أفضل أهل زمانه وأعبدهم . قال علماء السيرة [73] إنه اشتغل بالعبادة عن طلب الرياسة . وقال عمر بن أبي المقدام : كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد الصادق [74] علمت أنه من سلالة النبيين ، وهو الذي نشر فقه الإمامية ، والمعارف الحقيقة ، والعقائد اليقينية ، وكان لا يخبر بأمر إلا وقع ، وبه سموه الصادق الأمين .

                  وكان عبد الله بن الحسن [75] جمع أكابر العلويين [76] للبيعة لولديه ، فقال الصادق [77] : هذا [78] الأمر لا يتم ، فاغتاظ من ذلك ، فقال : إنه لصاحب القباء الأصفر ، وأشار بذلك إلى المنصور ، فلما سمع المنصور بذلك فرح لعلمه بوقوع ما يخبر به [79] ، وعلم أن الأمر يصل إليه [80] ، ولما هرب كان يقول : أين قول صادقهم ؟ وبعد ذلك انتهى الأمر إليه .

                  وكان ابنه موسى الكاظم [81] يدعى بالعبد الصالح ، وكان أعبد أهل زمانه [82] ، يقوم الليل ويصوم النهار ، وسمي الكاظم لأنه كان [83] إذ بلغه عن [ ص: 13 ] أحد شيء بعث إليه بمال . ونقل فضله الموافق والمخالف . قال ابن الجوزي من الحنابلة : روى [84] عن شقيق البلخي قال : خرجت حاجا سنة تسع [85] وأربعين ومائة ، فنزلت القادسية فإذا شاب حسن الوجه شديد السمرة ، عليه ثوب صوف مشتمل بشملة ، في رجليه نعلان ، وقد جلس منفردا عن الناس ، فقلت في نفسي : هذا الفتى [86] من الصوفية يريد أن يكون كلا على الناس ، والله لأمضين إليه أوبخه [87] ، فدنوت منه [88] فلما رآني مقبلا [89] قال : يا شقيق ، اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم . فقلت في نفسي : هذا [90] عبد صالح قد نطق على ما في خاطري [91] ، لألحقنه ولأسألنه أن يحاللني [92] ، فغاب عن عيني [93] ، فلما نزلنا واقصة إذا به يصلي [94] ، وأعضاؤه تضطرب ، ودموعه تتحادر . فقلت : أمضي إليه وأعتذر ، فأوجز في صلاته ، ثم قال : يا شقيق : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) [ سورة طه : 82 ] فقلت : هذا من الأبدال ، قد تكلم على [ ص: 14 ] سري مرتين ، فلما نزلنا [ زبالة ] [95] إذا به قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقي ماء [96] فسقطت الركوة من يده [97] في البئر فرفع طرفه إلى السماء وقال :

                  أنت ربي [98] إذا ظمئت إلى الماء وقوتي إذا أردت الطعاما .

                  يا سيدي مالي سواها . قال [99] شقيق : فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها ، فأخذ الركوة [100] وملأها توضأ وصلى [101] أربع ركعات ، ثم مال [102] إلى كثيب رمل هناك ، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب [103] . فقلت : أطعمني من فضل ما رزقك الله أو ما أنعم الله عليك [104] . فقال : يا شقيق ، لم تزل نعم الله علينا ظاهرة وباطنة [105] فأحسن ظنك بربك ، ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر ، ما شربت والله ألذ منه ولا أطيب منه ريحا [106] فشبعت ورويت . وأقمت [107] أياما لا أشتهي طعاما [ ص: 15 ] ولا شرابا ، ثم لم أره حتى دخلت [108] مكة ، فرأيته ليلة إلى جانب قبة الميزاب [109] نصف الليل يصلي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما طلع الفجر جلس في مصلاه يسبح ، ثم قام إلى صلاة الفجر ، وطاف بالبيت أسبوعا ، وخرج [110] فتبعته ، فإذا له حاشية وأموال وغلمان [111] ، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس يسلمون عليه ويتبركون به ، فقلت لهم [112] : من هذا ؟ قالوا : موسى [113] بن جعفر [114] ، فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد . هذا رواه الحنبلي .

                  وعلى يده تاب [115] بشر الحافي لأنه عليه السلام [116] اجتاز على داره ببغداد ، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب يخرج من تلك الدار ، فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل [117] ، فرمت بها في الدرب ، فقال لها [118] : يا جارية ، صاحب هذا الدار حر أم عبد ؟ [ ص: 16 ] فقالت : بل حر ، فقال : صدقت لو كان عبدا لخاف من مولاه . فلما دخلت الجارية قال [119] مولاها وهو على مائدة السكر [120] : ما أبطأك علينا [121] ؟ قالت : حدثني رجل بكذا وكذا ، فخرج حافيا حتى لقي مولانا موسى بن جعفر فتاب على يده [122] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية