الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " وظهرت منه معجزات كثيرة " فكأنه يسمي كرامات الأولياء معجزات ، وهذا اصطلاح لكثير [1] من الناس . فيقال : علي أفضل من كثير ممن له كرامات [2] ، والكرامات متواترة عن كثير من عوام [3] أهل السنة الذين يفضلون أبا بكر وعمر على علي [4] ، فكيف لا تكون الكرامات ثابتة لعلي - رضي الله عنه - ؟ وليس في مجرد الكرامات ما يدل على أنه أفضل من غيره .

                  وأما قوله : " حتى ادعى قوم فيه الربوبية وقتلهم " .

                  [ ص: 37 ] فهذه مقالة جاهل في غاية الجهل لوجوه : أحدها : أن معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم بكثير ، وما ادعى فيه أحد من أصحابه [5] الإلهية .

                  والثاني : أن معجزات الخليل وموسى أعظم بكثير [6] وما ادعى أحد فيهما [7] الإلهية .

                  الثالث : أن معجزات نبينا و [ معجزات ] موسى [8] أعظم منه معجزات المسيح ، وما ادعيت فيهما الإلهية كما ادعيت [9] في المسيح .

                  الرابع : أن المسيح ادعيت فيه الإلهية أعظم مما ادعيت في محمد وإبراهيم وموسى ، ولم يدل ذلك لا على أنه أفضل منهم [10] ولا على أن معجزاته أبهر .

                  الخامس : أن دعوى الإلهية فيهما دعوى باطلة تقابلها [11] دعوى باطلة ، وهي دعوى اليهود في المسيح ، و [ دعوى ] الخوارج [12] في علي ، فإن الخوارج كفروا عليا ، فإن جاز أن يقال : إنما ادعيت فيه الإلهية لقوة الشبهة . جاز أن يقال : إنما ادعي فيه الكفر لقوة الشبهة . وجاز أن يقال : صدرت منه ذنوب اقتضت أن يكفره بها الخوارج .

                  [ ص: 38 ] والخوارج أكثر وأعقل وأدين [13] من الذين ادعوا فيه الإلهية ، فإن جاز الاحتجاج بمثل هذا ، وجعلت [14] هذه الدعوى منقبة ، كان دعوى [15] المبغضين له ودعوى الخوارج مثلبة أقوى وأقوى ، وأين الخوارج من الرافضة الغالية ؟ ! .

                  فالخوارج من أعظم الناس صلاة وصياما [ وقراءة للقران ] [16] ، ولهم جيوش وعساكر ، وهم متدينون بدين الإسلام باطنا وظاهرا . والغالية المدعون للإلهية إما أن يكونوا من أجهل الناس وإما أن يكونوا من أكفر الناس [17] ، والغالية كفار بإجماع العلماء ، وأما الخوارج فلا يكفرهم إلا من يكفر الإمامية ، فإنهم خير من الإمامية ، وعلي رضى الله عنه لم يكن يكفرهم ، ولا أمر بقتل الواحد المقدور عليه منهم ، كما أمر بتحريق الغالية ، بل لم يقاتلهم حتى قتلوا عبد الله بن خباب [18] وأغاروا على سرح الناس .

                  فثبت بالإجماع من علي ومن سائر الصحابة والعلماء أن الخوارج خير من الغالية ، فإن جاز لشيعته [19] أن تجعل [20] دعوى الغالية الإلهية فيه حجة [ ص: 39 ] على ( * فضيلته [21] كان لشيعة عثمان أن يجعلوا [22] دعوى الخوارج لكفره حجة * ) [23] على نقيضه [24] بطريق الأولى ، فعلم أن هذه الحجة إنما يحتج بها جاهل ، ثم إنها تعود عليه لا له . ولهذا كان الناس يعلمون أن الرافضة أجهل وأكذب من الناصبة .

                  وأما قوله : " وكان ولداه سبطا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدا شباب أهل الجنة إمامين بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - " .

                  فيقال : الذي ثبت بلا شك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال عن الحسن : إن ابني هذا سيد ، وإن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " [25] ، وثبت عنه في الصحيح أنه كان [26] يقعده وأسامة بن زيد على فخذه ويقول : " اللهم إني أحبهما فأحبهما [27] وأحب من يحبهما [28] .

                  [ ص: 40 ] وهذا يدل على أن ما فعله الحسن من ترك القتال على [ الإمامة ، وقصد الإصلاح بين المسلمين [29] كان محبوبا يحبه الله ورسوله ، ولم يكن ذلك مصيبة ، بل كان ] [30] ذلك أحب إلى الله ورسوله من اقتتال المسلمين ، ولهذا أحبه وأحب أسامة [ بن زيد ] [31] ودعا لهما ، فإن كلاهما كان [32] يكره القتال في الفتنة [33] ، فأما أسامة فلم [34] يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية ، والحسن كان دائما يشير على علي بترك القتال ] [35] وهذا نقيض ما عليه الرافضة من أن ذلك الصلح كان مصيبة وكان ذلا ، ولو كان هناك إمام معصوم يجب على كل أحد طاعته ، ومن تولى غيره كانت ولايته باطلة لا يجوز أن يجاهد معه ولا يصلى خلفه ، لكان ذلك الصلح من أعظم المصائب على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وفيه فساد دينها ، [ فأي فضيلة كانت تكون للحسن بذلك [36] حتى يثنى عليه به ؟ وإنما [37] غايته أن يعذر لضعفه عن القتال الواجب [38] ] [39] والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الحسن في الصلح سيدا [ ص: 41 ] محمودا ، ولم يجعله عاجزا معذورا ، ولم يكن الحسن أعجز عن القتال من الحسين ، [ بل كان أقدر على القتال من الحسين ] [40] ، والحسين قاتل حتى قتل ، فإن كان ما فعله الحسين هو [ الأفضل ] [41] الواجب ، كان ما فعله الحسن تركا للواجب أو عجزا عنه ، وإن كان ما فعله الحسن هو الأفضل الأصلح ، دل على أن ترك القتال هو الأفضل الأصلح ، وأن الذي فعله الحسن أحب إلى الله ورسوله [42] مما فعله غيره ، والله يرفع درجات المؤمنين المتقين [43] بعضهم على بعض ، وكلهم في الجنة ، - رضي الله عنهم - [ أجمعين ] [44] .

                  ثم إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهما إمامين لم يكونا قد استفادا الإمامة بنص علي ، ولاستفادها الحسين بنص الحسن عليه . ولا ريب أن الحسن والحسين ريحانتا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا [45] . وقد ثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] [46] أدخلهما مع أبويهما تحت الكساء ، وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وأنه دعاهما في المباهلة ، وفضائلهما كثيرة وهما من أجلاء سادات المؤمنين وأما كونهما أزهد الناس وأعلمهم في زمانهم فهذا قول بلا دليل .

                  وأما قوله : " وجاهدوا في الله حق جهاده حتى قتلا " .

                  [ ص: 42 ] فهذا كذب عليهما ، فإن الحسن تخلى عن الأمر وسلمه إلى معاوية ومعه جيوش العراق [47] ، وما كان يختار قتال المسلمين قط ، وهذا متواتر من سيرته [48] .

                  وأما موته ، فقد قيل : [49] إنه مات مسموما ، وهذا شهادة [50] [ له ] [51] وكرامة في حقه ، لكن لم يمت مقاتلا .

                  والحسين - رضي الله عنه - ما خرج يريد القتال [52] ، ولكن ظن أن الناس يطيعونه ، فلما رأى انصرافهم عنه ، طلب الرجوع إلى وطنه ، أو الذهاب إلى الثغر ، أو إتيان يزيد ، فلم يمكنه أولئك الظلمة لا من هذا ولا من هذا [ ولا من هذا ] [53] وطلبوا أن يأخذوه أسيرا إلى يزيد ، فامتنع من ذلك وقاتل حتى قتل مظلوما شهيدا ، لم يكن قصده ابتداء أن يقاتل .

                  وأما قوله عن الحسن : إنه لبس الصوف تحت ثيابه [ الفاخرة ] [54] .

                  فهذا من جنس قوله في علي : إنه كان يصلي ألف ركعة ، فإن هذا لا فضيلة فيه ، وهو كذب . وذلك أن لبس الصوف تحت ثياب القطن وغيره لو كان فاضلا لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعه [55] [ لأمته ] [56] ، [ ص: 43 ] إما بقوله أو [57] بفعله ، أو كان يفعله أصحابه على عهده [58] ، فلما لم يفعله هو ولا أحد من أصحابه على عهده ، ولا رغب فيه ، دل على أنه لا فضيلة فيه ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس في السفر جبة من صوف فوق ثيابه [59] . وقصد لبس الصوف ، دون القطن وغيره ، ليس بمستحب في شريعتنا [60] ولا هو من [61] هدي نبينا [ صلى الله عليه وسلم ] [62] .

                  وقد قيل [63] لمحمد بن سيرين : إن قوما يقصدون لبس الصوف ويقولون : إن المسيح كان يلبسه . فقال : هدي نبينا أحب إلينا [64] من هدي غيره .

                  وقد تنازع العلماء [65] هل يكره لبس الصوف في الحضر من غير حاجة أم لا ؟ وأما لبسه في السفر فحسن ، لأنه [66] مظنة الحاجة إليه . ثم بتقدير أن [ ص: 44 ] يكون لبس الصوف طاعة وقربة ، فإظهاره تواضعا أولى من إخفائه تحت الثياب ، فإنه ليس في ذلك إلا تعذيب النفس بلا فائدة . والله تعالى لم يأمر العباد إلا بما هو [ له ] [67] أطوع ولهم أنفع ، لم يأمرهم بتعذيب لا ينفعهم [68] ، بل قال [ النبي - صلى الله عليه وسلم - ] [69] : " إن الله لغني [70] عن تعذيب هذا نفسه " [71] .

                  وأما الحديث الذي رواه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ يوما الحسين على فخذه الأيمن ، وولده إبراهيم على فخذه الأيسر ، فنزل جبريل وقال : إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما [72] فاختر من شئت منهما . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا مات الحسين بكيت أنا وعلي وفاطمة ، وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه " فاختار موت إبراهيم ، فمات بعد ثلاثة أيام . وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول : [ أهلا ] ومرحبا [73] بمن فديته بابني إبراهيم " .

                  [ ص: 45 ] فيقال : هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم ، ولا يعرف له إسناد ، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث [74] . وهذا الناقل لم يذكر له إسنادا [75] ولا عزاه إلى كتاب حديث [76] ، ولكن ذكره على عادته في [77] روايته أحاديث مسيبة [78] بلا زمام ولا خطام .

                  ومن المعلوم أن المنقولات [79] لا يميز بين صدقها وكذبها إلا بالطرق الدالة على ذلك ، وإلا فدعوى النقل المجرد بمنزلة سائر الدعاوى .

                  ثم يقال : هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث [80] ، وهو من أحاديث الجهال ، فإن الله تعالى ليس في جمعه بين إبراهيم والحسين أعظم مما في جمعه بين الحسن والحسين على مقتضى هذا الحديث ، فإن موت الحسن أو الحسين إذا كان أعظم من موت إبراهيم ، فبقاء الحسن أعظم من بقاء إبراهيم ، وقد بقي الحسن مع الحسين .

                  [ ص: 46 ] وأيضا فحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم من حق غيره ، وعلي يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى به من نفسه ، وهو يحب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] [81] أكثر مما يحب نفسه ، فيكون لو مات إبراهيم لكان بكاؤه لأجل النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من بكائه لأجل ابنه ، إلا أن يقال : محبة الابن طبيعية لا يمكن دفعها . فيقال : هذا موجود في حب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي يقول لما مات إبراهيم : " تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " [82] وهكذا ثبت [83] في الحديث الصحيح ، فكيف يكون قد اختار موته وجعله فداء لغيره ؟ .

                  [ ص: 47 ] ثم هل يسوغ مثل هذا أن يجعل شخص معصوم [ الدم ] [84] فداء شخص معصوم [ الدم ] [85] ؟ بل إن كان هذا جائزا كان الأمر بالعكس [ أولى ] [86] ، فإن الرجل لو لم يكن عنده إلا ما ينفق على ابنه أو ابن بنته ، لوجب تقديم النفقة على الابن باتفاق المسلمين ، ولو لم يمكنه [87] دفع الموت أو الضرر [88] إلا عن ابنه أو ابن بنته ، لكان دفعه عن ابنه هو المشروع ، لا سيما وهم يجعلون العمدة في الكرامة هو القرابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويجعلون من أكبر فصائل علي قرابته من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك الحسن والحسين .

                  ومعلوم أن الابن أقرب من الجميع ، فكيف يكون الأبعد مقدما على الأقرب ، ولا مزية إلا القرابة ؟ .

                  وقد قال أنس بن مالك : " لو قضي أن يكون بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبي لعاش إبراهيم " . وغير أنس نازعه في هذا الكلام ، وقال : لا يجب إذا شاء الله نبيا أن يكون ابنه نبيا .

                  ثم لماذا كان إبراهيم فداء الحسين ولم يكن فداء الحسن ؟ والأحاديث الصحيحة تدل على أن الحسن كان أفضلهما ، وهو كذلك باتفاق أهل السنة والشيعة . وقد ثبت في الصحيح أنه كان يقول عن الحسن : " اللهم [ ص: 48 ] إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه " [89] . فلم لا كان إبراهيم فداء هذا الذي دعا . بمحبة الله لمن يحبه [90] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية