وأما قوله : " وظهرت منه معجزات كثيرة " فكأنه يسمي كرامات الأولياء معجزات ، وهذا اصطلاح لكثير [1] من الناس . فيقال : علي أفضل من كثير ممن له كرامات [2] ، والكرامات متواترة عن كثير من عوام [3] أهل السنة الذين يفضلون أبا بكر وعمر على علي [4] ، فكيف لا تكون الكرامات ثابتة لعلي - رضي الله عنه - ؟ وليس في مجرد الكرامات ما يدل على أنه أفضل من غيره .
وأما قوله : " حتى ادعى قوم فيه الربوبية وقتلهم " .
[ ص: 37 ] فهذه مقالة جاهل في غاية الجهل لوجوه : أحدها : أن معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم بكثير ، وما ادعى فيه أحد من أصحابه [5] الإلهية .
والثاني : أن معجزات الخليل وموسى أعظم بكثير [6] وما ادعى أحد فيهما [7] الإلهية .
الثالث : أن معجزات نبينا و [ معجزات ] موسى [8] أعظم منه معجزات المسيح ، وما ادعيت فيهما الإلهية كما ادعيت [9] في المسيح .
الرابع : أن المسيح ادعيت فيه الإلهية أعظم مما ادعيت في محمد وإبراهيم وموسى ، ولم يدل ذلك لا على أنه أفضل منهم [10] ولا على أن معجزاته أبهر .
الخامس : أن دعوى الإلهية فيهما دعوى باطلة تقابلها [11] دعوى باطلة ، وهي دعوى اليهود في المسيح ، و [ دعوى ] الخوارج [12] في علي ، فإن الخوارج كفروا عليا ، فإن جاز أن يقال : إنما ادعيت فيه الإلهية لقوة الشبهة . جاز أن يقال : إنما ادعي فيه الكفر لقوة الشبهة . وجاز أن يقال : صدرت منه ذنوب اقتضت أن يكفره بها الخوارج .
[ ص: 38 ] والخوارج أكثر وأعقل وأدين [13] من الذين ادعوا فيه الإلهية ، فإن جاز الاحتجاج بمثل هذا ، وجعلت [14] هذه الدعوى منقبة ، كان دعوى [15] المبغضين له ودعوى الخوارج مثلبة أقوى وأقوى ، وأين الخوارج من الرافضة الغالية ؟ ! .
فالخوارج من أعظم الناس صلاة وصياما [ وقراءة للقران ] [16] ، ولهم جيوش وعساكر ، وهم متدينون بدين الإسلام باطنا وظاهرا . والغالية المدعون للإلهية إما أن يكونوا من أجهل الناس وإما أن يكونوا من أكفر الناس [17] ، والغالية كفار بإجماع العلماء ، وأما الخوارج فلا يكفرهم إلا من يكفر الإمامية ، فإنهم خير من الإمامية ، وعلي رضى الله عنه لم يكن يكفرهم ، ولا أمر بقتل الواحد المقدور عليه منهم ، كما أمر بتحريق الغالية ، بل لم يقاتلهم حتى قتلوا عبد الله بن خباب [18] وأغاروا على سرح الناس .
فثبت بالإجماع من علي ومن سائر الصحابة والعلماء أن الخوارج خير من الغالية ، فإن جاز لشيعته [19] أن تجعل [20] دعوى الغالية الإلهية فيه حجة [ ص: 39 ] على ( * فضيلته [21] كان لشيعة عثمان أن يجعلوا [22] دعوى الخوارج لكفره حجة * ) [23] على نقيضه [24] بطريق الأولى ، فعلم أن هذه الحجة إنما يحتج بها جاهل ، ثم إنها تعود عليه لا له . ولهذا كان الناس يعلمون أن الرافضة أجهل وأكذب من الناصبة .
وأما قوله : " وكان ولداه سبطا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدا شباب أهل الجنة إمامين بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - " .
فيقال : الذي ثبت بلا شك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال عن الحسن : إن ابني هذا سيد ، وإن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " [25] ، وثبت عنه في الصحيح أنه كان [26] يقعده وأسامة بن زيد على فخذه ويقول : " اللهم إني أحبهما فأحبهما [27] وأحب من يحبهما [28] .
[ ص: 40 ] وهذا يدل على أن ما فعله الحسن من ترك القتال على [ الإمامة ، وقصد الإصلاح بين المسلمين [29] كان محبوبا يحبه الله ورسوله ، ولم يكن ذلك مصيبة ، بل كان ] [30] ذلك أحب إلى الله ورسوله من اقتتال المسلمين ، ولهذا أحبه وأحب أسامة [ بن زيد ] [31] ودعا لهما ، فإن كلاهما كان [32] يكره القتال في الفتنة [33] ، فأما أسامة فلم [34] يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية ، والحسن كان دائما يشير على علي بترك القتال ] [35] وهذا نقيض ما عليه الرافضة من أن ذلك الصلح كان مصيبة وكان ذلا ، ولو كان هناك إمام معصوم يجب على كل أحد طاعته ، ومن تولى غيره كانت ولايته باطلة لا يجوز أن يجاهد معه ولا يصلى خلفه ، لكان ذلك الصلح من أعظم المصائب على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وفيه فساد دينها ، [ فأي فضيلة كانت تكون للحسن بذلك [36] حتى يثنى عليه به ؟ وإنما [37] غايته أن يعذر لضعفه عن القتال الواجب [38] ] [39] والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الحسن في الصلح سيدا [ ص: 41 ] محمودا ، ولم يجعله عاجزا معذورا ، ولم يكن الحسن أعجز عن القتال من الحسين ، [ بل كان أقدر على القتال من الحسين ] [40] ، والحسين قاتل حتى قتل ، فإن كان ما فعله الحسين هو [ الأفضل ] [41] الواجب ، كان ما فعله الحسن تركا للواجب أو عجزا عنه ، وإن كان ما فعله الحسن هو الأفضل الأصلح ، دل على أن ترك القتال هو الأفضل الأصلح ، وأن الذي فعله الحسن أحب إلى الله ورسوله [42] مما فعله غيره ، والله يرفع درجات المؤمنين المتقين [43] بعضهم على بعض ، وكلهم في الجنة ، - رضي الله عنهم - [ أجمعين ] [44] .
ثم إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهما إمامين لم يكونا قد استفادا الإمامة بنص علي ، ولاستفادها الحسين بنص الحسن عليه . ولا ريب أن الحسن والحسين ريحانتا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا [45] . وقد ثبت أنه [ صلى الله عليه وسلم ] [46] أدخلهما مع أبويهما تحت الكساء ، وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وأنه دعاهما في المباهلة ، وفضائلهما كثيرة وهما من أجلاء سادات المؤمنين وأما كونهما أزهد الناس وأعلمهم في زمانهم فهذا قول بلا دليل .
وأما قوله : " وجاهدوا في الله حق جهاده حتى قتلا " .
[ ص: 42 ] فهذا كذب عليهما ، فإن الحسن تخلى عن الأمر وسلمه إلى معاوية ومعه جيوش العراق [47] ، وما كان يختار قتال المسلمين قط ، وهذا متواتر من سيرته [48] .
وأما موته ، فقد قيل : [49] إنه مات مسموما ، وهذا شهادة [50] [ له ] [51] وكرامة في حقه ، لكن لم يمت مقاتلا .
والحسين - رضي الله عنه - ما خرج يريد القتال [52] ، ولكن ظن أن الناس يطيعونه ، فلما رأى انصرافهم عنه ، طلب الرجوع إلى وطنه ، أو الذهاب إلى الثغر ، أو إتيان يزيد ، فلم يمكنه أولئك الظلمة لا من هذا ولا من هذا [ ولا من هذا ] [53] وطلبوا أن يأخذوه أسيرا إلى يزيد ، فامتنع من ذلك وقاتل حتى قتل مظلوما شهيدا ، لم يكن قصده ابتداء أن يقاتل .
وأما قوله عن الحسن : إنه لبس الصوف تحت ثيابه [ الفاخرة ] [54] .
فهذا من جنس قوله في علي : إنه كان يصلي ألف ركعة ، فإن هذا لا فضيلة فيه ، وهو كذب . وذلك أن لبس الصوف تحت ثياب القطن وغيره لو كان فاضلا لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعه [55] [ لأمته ] [56] ، [ ص: 43 ] إما بقوله أو [57] بفعله ، أو كان يفعله أصحابه على عهده [58] ، فلما لم يفعله هو ولا أحد من أصحابه على عهده ، ولا رغب فيه ، دل على أنه لا فضيلة فيه ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس في السفر جبة من صوف فوق ثيابه [59] . وقصد لبس الصوف ، دون القطن وغيره ، ليس بمستحب في شريعتنا [60] ولا هو من [61] هدي نبينا [ صلى الله عليه وسلم ] [62] .
وقد قيل [63] لمحمد بن سيرين : إن قوما يقصدون لبس الصوف ويقولون : إن المسيح كان يلبسه . فقال : هدي نبينا أحب إلينا [64] من هدي غيره .
وقد تنازع العلماء [65] هل يكره لبس الصوف في الحضر من غير حاجة أم لا ؟ وأما لبسه في السفر فحسن ، لأنه [66] مظنة الحاجة إليه . ثم بتقدير أن [ ص: 44 ] يكون لبس الصوف طاعة وقربة ، فإظهاره تواضعا أولى من إخفائه تحت الثياب ، فإنه ليس في ذلك إلا تعذيب النفس بلا فائدة . والله تعالى لم يأمر العباد إلا بما هو [ له ] [67] أطوع ولهم أنفع ، لم يأمرهم بتعذيب لا ينفعهم [68] ، بل قال [ النبي - صلى الله عليه وسلم - ] [69] : " إن الله لغني [70] عن تعذيب هذا نفسه " [71] .
وأما الحديث الذي رواه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ يوما الحسين على فخذه الأيمن ، وولده إبراهيم على فخذه الأيسر ، فنزل جبريل وقال : إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما [72] فاختر من شئت منهما . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا مات الحسين بكيت أنا وعلي وفاطمة ، وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه " فاختار موت إبراهيم ، فمات بعد ثلاثة أيام . وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول : [ أهلا ] ومرحبا [73] بمن فديته بابني إبراهيم " .
[ ص: 45 ] فيقال : هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم ، ولا يعرف له إسناد ، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث [74] . وهذا الناقل لم يذكر له إسنادا [75] ولا عزاه إلى كتاب حديث [76] ، ولكن ذكره على عادته في [77] روايته أحاديث مسيبة [78] بلا زمام ولا خطام .
ومن المعلوم أن المنقولات [79] لا يميز بين صدقها وكذبها إلا بالطرق الدالة على ذلك ، وإلا فدعوى النقل المجرد بمنزلة سائر الدعاوى .
ثم يقال : هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث [80] ، وهو من أحاديث الجهال ، فإن الله تعالى ليس في جمعه بين إبراهيم والحسين أعظم مما في جمعه بين الحسن والحسين على مقتضى هذا الحديث ، فإن موت الحسن أو الحسين إذا كان أعظم من موت إبراهيم ، فبقاء الحسن أعظم من بقاء إبراهيم ، وقد بقي الحسن مع الحسين .
[ ص: 46 ] وأيضا فحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم من حق غيره ، وعلي يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى به من نفسه ، وهو يحب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] [81] أكثر مما يحب نفسه ، فيكون لو مات إبراهيم لكان بكاؤه لأجل النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من بكائه لأجل ابنه ، إلا أن يقال : محبة الابن طبيعية لا يمكن دفعها . فيقال : هذا موجود في حب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي يقول لما مات إبراهيم : " تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " [82] وهكذا ثبت [83] في الحديث الصحيح ، فكيف يكون قد اختار موته وجعله فداء لغيره ؟ .
[ ص: 47 ] ثم هل يسوغ مثل هذا أن يجعل شخص معصوم [ الدم ] [84] فداء شخص معصوم [ الدم ] [85] ؟ بل إن كان هذا جائزا كان الأمر بالعكس [ أولى ] [86] ، فإن الرجل لو لم يكن عنده إلا ما ينفق على ابنه أو ابن بنته ، لوجب تقديم النفقة على الابن باتفاق المسلمين ، ولو لم يمكنه [87] دفع الموت أو الضرر [88] إلا عن ابنه أو ابن بنته ، لكان دفعه عن ابنه هو المشروع ، لا سيما وهم يجعلون العمدة في الكرامة هو القرابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويجعلون من أكبر فصائل علي قرابته من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك الحسن والحسين .
ومعلوم أن الابن أقرب من الجميع ، فكيف يكون الأبعد مقدما على الأقرب ، ولا مزية إلا القرابة ؟ .
وقد قال أنس بن مالك : " لو قضي أن يكون بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبي لعاش إبراهيم " . وغير أنس نازعه في هذا الكلام ، وقال : لا يجب إذا شاء الله نبيا أن يكون ابنه نبيا .
ثم لماذا كان إبراهيم فداء الحسين ولم يكن فداء الحسن ؟ والأحاديث الصحيحة تدل على أن الحسن كان أفضلهما ، وهو كذلك باتفاق أهل السنة والشيعة . وقد ثبت في الصحيح أنه كان يقول عن الحسن : " اللهم [ ص: 48 ] إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه " [89] . فلم لا كان إبراهيم فداء هذا الذي دعا . بمحبة الله لمن يحبه [90] .


