الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والجواب من طريقين : أحدهما : أن هذا الذي ذكره هو بالرافضة ألصق .

                  والثاني : أن أئمة السنة برآء من هذا .

                  أما الطريق الأول فيقال : لا نعلم طائفة أعظم تعصبا في الباطل من الرافضة ، حتى أنهم دون سائر الطوائف عرف منهم شهادة الزور لموافقهم [ ص: 138 ] على مخالفهم ، وليس في التعصب أعظم من الكذب ، وحتى أنهم في التعصب جعلوا للبنت جميع الميراث ، ليقولوا : إن فاطمة - رضي الله عنها - ورثت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون عمه العباس [ - رضي الله عنه - ] [1] ، وحتى أن فيهم من حرم لحم الجمل [2] ؛ لأن عائشة قاتلت على جمل ، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة والقرابة لأمر لا يناسب ذلك [3] ، فإن ذلك الجمل الذي ركبته عائشة [ رضي الله عنها ] [4] مات ، ولو فرض أنه حي فركوب الكفار على الجمال لا يوجب تحريمها ، وما زال الكفار يركبون جمالا [5] ويغنمها المسلمون منهم ، ولحمها حلال لهم ، فأي شيء في ركوب عائشة للجمل مما [6] يوجب تحريم لحمه ؟ .

                  وغاية ما يفرضون أن بعض من يجعلونه كافرا ركب جملا [7] ، مع أنهم كاذبون مفترون فيما يرمون به أم المؤمنين - رضي الله عنها - .

                  ومن تعصبهم أنهم لا يذكرون اسم [8] " العشرة " بل يقولون : تسعة وواحد . وإذا بنوا أعمدة أو غيرها لا يجعلونها عشرة ، وهم يتحرون ذلك في كثير من أمورهم .

                  [ ص: 139 ] مع أن الكتاب العزيز قد جاء بذكر " العشرة " و " العشر " [9] في غير موضع ، كما في قوله تعالى : ( فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ) [ سورة البقرة : 196 ] ، وقال : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ سورة البقرة : 234 ] ، وقال تعالى : ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ) [ سورة الأعراف : 142 ] ، وقال تعالى : ( والفجر وليال عشر ) [ سورة الفجر : 1 ، 2 ] .

                  فذكر سبحانه وتعالى اسم " العشرة " في مواضع محمودة . وذكر اسم " التسعة " في موضع مذموم كقوله تعالى : ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) [ سورة النمل : 48 ] .

                  وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " [10] . وكان يعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله تعالى . وقال : " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشرة " [11] فإذا كان الله ورسوله قد تكلم باسم " العشرة " وعلق بهذا [ ص: 140 ] [ العدد ] [12] أحكاما شرعية محمودة ، كان نفورهم عن التكلم بذلك لكونه قد تسمى به [13] عشرة من الناس يبغضونهم غاية الجهل والتعصب .

                  ثم قولهم : تسعة وواحدة ، هو معنى العشرة مع طول العبارة . وإذا [14] كان اسم العشرة أو التسعة أو السبعة يقع على كل معدود بهذا العدد ، سواء كان من الناس أو الدواب أو الثياب أو الدراهم ، وبعض المعدودات يكون محمودا ، وبعضها يكون مذموما ، فنفور هؤلاء الجهال عن التكلم بهذه الأعداد في غاية الجهل [15] ، وإنما هو كنفورهم عن التكلم بأسماء قوم يبغضونهم ، كما ينفرون عمن اسمه أبو بكر وعمر [ وعثمان ] [16] لبغضهم لشخص كان اسمه هذا الاسم .

                  وقد كان من [17] الصحابة - رضي الله عنهم - من هو مسمى بأسماء تسمى بها [18] بعض الكفار كالوليد بن الوليد . وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى [ ص: 141 ] الله عليه وسلم - كان يقول في قنوته [ إذا قنت ] [19] : اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وأنج سلمة [20] بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين " [21] .

                  وهذا الوليد مؤمن تقي ، وأبوه الوليد كافر شقي ، وكذلك عقبة بن أبي معيط من كفار قريش . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت كأني في دار عقبة بن رافع وأتينا برطب ابن طاب [22] ، فأولت الرفعة لنا [23] في الدنيا ، والعاقبة لنا في الآخرة ، وأن ديننا قد طاب [24] " .

                  وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو علي بن أبي طالب وفي الكفار علي بن أمية بن خلف قتل هو وأبوه يوم بدر كافرين . وفي الصحابة [ ص: 142 ] كعب بن مالك شاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره ، وكان كعب بن [25] الأشرف قد آذى الله ورسوله [26] حتى ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتله محمد بن مسلمة وأصحابه [27] . وفي الصحابة أبي بن كعب [28] الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله أمرني أن أقرأ عليك : ( لم يكن الذين كفروا ) [ سورة البينة : 1 ] [29] يعني قراءة [30] تبليغ لا قراءة تعلم [31] . وفي المشركين أبي بن خلف قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده يوم أحد ، ولم يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده [ أحدا ] [32] غيره ، وقال : " إن [33] من أشد [ ص: 143 ] الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي " [34] . وهذا باب واسع .

                  [ وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنه إبراهيم ] [35] ، وقد سمى علي - رضي الله عنه - ابنيه أبا بكر وعمر [36] .

                  ففي الجملة أسماء الأعلام يشترك فيها المسلم والكافر ، كما تسمي اليهود والنصارى إبراهيم وموسى وإسحاق ويعقوب ، والمسلمون يسمون بذلك أيضا ، فليس في تسمية الكافر باسم ما يوجب هجران ذلك الاسم [37] ، [ فلو فرض - والعياذ بالله - أن هؤلاء كفار ، كما يقول المفترون - لعنهم الله [38] - لم يكن في ذلك ما يوجب هجران هذه الأسماء ] [39] ، وإنما ذلك مبالغة في التعصب والجهل .

                  فإن قيل : إنما يكرهون هذا الاسم لأن المسمى به يكون سنيا .

                  [ ص: 144 ] قيل : فهم قد يعرفون [40] مذهب الرجل ولا يخاطبونه بهذا الاسم ، بل بغيره من الأسماء ، مبالغة في هجران هذا الاسم . ومن تعصبهم أنهم إذا وجدوا مسمى بعلي أو جعفر أو الحسن أو الحسين بادروا إلى إكرامه [41] ، مع أنه قد يكون فاسقا ، وقد يكون في الباطن سنيا ، فإن أهل السنة يسمون بهذه الأسماء . كل هذا من التعصب والجهل ، ومن تعصبهم وجهلهم أنهم يبغضون بني أمية كلهم لكون بعضهم كان ممن يبغض عليا .

                  وقد كان في بني أمية قوم صالحون ماتوا قبل الفتنة ، وكان بنو أمية أكثر القبائل عمالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه لما فتح مكة استعمل عليها عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية [42] ، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص [43] بن أمية ، وأخويه [44] أبان بن سعيد [45] وسعيد بن سعيد على أعمال أخر [46] ، واستعمل أبا سفيان بن [ ص: 145 ] حرب بن أمية على نجران أو ابنه [47] يزيد ، ومات وهو عليها [48] ، وصاهر [ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ] [49] ببناته الثلاثة لبني أمية ، فزوج أكبر بناته زينب بأبي العاص بن الربيع بن أمية بن عبد شمس [50] ، وحمد صهره لما أراد علي أن يتزوج ببنت [51] أبي جهل ، فذكر صهرا له من بني [ أمية ] [52] بن عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته ، وقال : " حدثني فصدقني [53] ، ووعدني فوفى لي " [54] .

                  [ ص: 146 ] وزوج ابنتيه لعثمان بن عفان ، واحدة بعد واحدة ، وقال : " لو كانت عندنا ثالثة لزوجناها عثمان " [55] .

                  وكذلك من جهلهم وتعصبهم أنهم [56] يبغضون أهل الشام ؛ لكونهم [57] كان فيهم أولا من يبغض عليا . ومعلوم أن مكة كان فيها كفار ومؤمنون ، وكذلك المدنية كان فيها مؤمنون ومنافقون [58] ، والشام في هذه الأعصار لم يبق فيه [59] من يتظاهر ببغض علي ، ولكن لفرط جهلهم يسحبون ذيل البغض . وكذلك من جهلهم أنهم يذمون من ينتفع بشيء من آثار بني أمية ، كالشرب من نهر يزيد ، ويزيد لم يحفره [ ولكن وسعه ] [60] ، [ ص: 147 ] وكالصلاة في جامع بناه بنو أمية . ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إلى الكعبة التي بناها المشركون ، وكان يسكن في المساكن التي بنوها ، وكان يشرب من [ ماء ] [61] الآبار التي حفروها ، ويلبس [ من ] [62] الثياب التي نسجوها ، ويعامل بالدراهم التي ضربوها . فإذا كان ينتفع بمساكنهم وملابسهم ، والمياه التي أنبطوها [63] ، والمساجد التي بنوها ، فكيف بأهل القبلة ؟ ! .

                  فلو فرض أن يزيد كان كافرا وحفر نهرا ، لم يكره الشرب منه [64] بإجماع المسلمين ، ولكن لفرط تعصبهم كرهوا ما يضاف إلى من يبغضونه .

                  ولقد حدثني ثقة أنه كان لرجل [65] منهم كلب فدعاه آخر منهم : بكير [ ص: 148 ] بكير [66] فقال صاحب الكلب : أتسمي كلبي بأسماء أصحاب النار [67] ؟ ! فاقتتلا على ذلك حتى جرى بينهما دم . فهل يكون أجهل من هؤلاء ؟ ! .

                  والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمي أصحابه بأسماء قد تسمى بها قوم من أهل النار الذين ذكرهم [ الله ] [68] في القرآن ، كالوحيد الذي ذكره الله [ في القرآن ] [69] في قوله : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) [ سورة المدثر : 11 ] واسمه الوليد بن المغيرة ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو لابن هذا ، واسمه أيضا الوليد ، ويسمي الابن والأب في الصلاة ، ويقول : " اللهم انج الوليد بن الوليد " كما ثبت ذلك في الصحيح [70] .

                  ومن فرط جهلهم وتعصبهم [71] أنهم يعمدون إلى يوم أحب الله صيامه فيرون فطره ، كيوم عاشوراء . وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى قال : دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة [72] وإذا ناس من اليهود يعظمون عاشوراء ويصومونه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بصومه " وأمر بصومه ، أخرجه البخاري [73]

                  [ ص: 149 ] ومن فرط جهلهم وتعصبهم أنهم يعمدون إلى دابة عجماء فيؤذونها بغير حق ، إذ جعلوها بمنزلة من يبغضونه [74] ، كما يعمدون إلى نعجة حمراء يسمونها عائشة وينتفون شعرها ، ويعمدون إلى دواب لهم فيسمون بعضها أبا بكر وبعضها عمر ويضربونها بغير حق ، ويصورون صورة إنسان من حيس [75] يجعلونه عمر ويبعجون بطنه ، ويزعمون أنهم يأكلون لحمه ويشربون دمه [76] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية