فصل [1] .
قال الرافضي [2] : " وقد روي عن الجماعة [3] كلهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حق أبي ذر : " ما أقلت الغبراء ، ولا [4] أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر " ، ولم يسموه صديقا ، وسموا أبا بكر [ بذلك ] [5] مع أنه لم يرد مثل ذلك في حقه " .
فيقال هذا الحديث : لم يروه الجماعة كلهم ، ولا هو في [ ص: 265 ] الصحيحين ، ولا [ هو ] [6] في السنن ، بل هو مروي في الجملة [7] . وبتقدير صحته وثبوته ، فمن المعلوم أن هذا الحديث لم يرد به أن أبا ذر أصدق من جميع الخلق ، فإن هذا يلزم منه أن يكون أصدق من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن سائر النبيين ، ومن علي [ بن أبي طالب ] [8] . وهذا خلاف إجماع المسلمين [ كلهم ] [9] من السنة [10] والشيعة ، فعلم أن هذه الكلمة معناها أن أبا ذر صادق ، ليس غيره أكثر تحريا للصدق منه . ولا يلزم إذا كان بمنزلة غيره في تحري الصدق ، أن يكون بمنزلته في كثرة الصدق والتصديق بالحق ، وفي عظم الحق الذي صدق فيه وصدق به . وذلك أنه يقال : فلان صادق اللهجة إذا تحرى الصدق ، وإن كان قليل العلم بما جاءت به [11] الأنبياء . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل : ما أقلت الغبراء أعظم تصديقا من أبي ذر . بل قال : أصدق لهجة ، [ ص: 266 ] والمدح للصديق [12] ( * الذي صدق الأنبياء ، ليس بمجرد كونه صادقا ، بل في كونه مصدقا للأنبياء . وتصديقه ) * [13] للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو صدق خاص ، فالمدح بهذا التصديق - الذي هو صدق خاص - نوع ، والمدح بنفس كونه صادقا نوع آخر . فكل صديق صادق ، وليس كل صادق صديقا .
ففي الصحيحين [ عن ابن مسعود ] [14] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة . ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا . وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار . ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا [15] " . فالصديق قد يراد به الكامل في الصدق ، وقد يراد به الكامل في التصديق . والصديق ليست فضيلته في مجرد تحري [16] [ ص: 267 ] الصدق ، بل في أنه علم ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة وتفصيلا ، وصدق ذلك تصديقا كاملا في العلم والقصد والقول والعمل . وهذا القدر لم يحصل لأبي ذر ولا لغيره ، فإن أبا ذر لم يعلم ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - كما علمه أبو بكر ، ولا حصل له من التصديق المفصل كما حصل لأبي بكر [17] . ( * ولا حصل عنده من كمال التصديق معرفة وحالا [18] . كما حصل لأبي بكر ) * [19] ; فإن أبا بكر أعرف منه ، وأعظم حبا لله ورسوله منه ، وأعظم نصرا لله ورسوله منه ، وأعظم جهادا بنفسه وماله منه ، إلى غير ذلك من الصفات التي هي كمال الصديقية .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا ، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ، [ فرجف بهم ] [20] ، فقال : " اسكن أحد " وضربه برجله ، وقال [21] : " ليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان [22]
[ ص: 268 ] وفي الترمذي وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة : أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف ؟ قال : " لا يابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق [23] ويخاف أن لا يقبل منه " [24] .


