الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل [1] .

                  قال الرافضي [2] : " وقد روي عن الجماعة [3] كلهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حق أبي ذر : " ما أقلت الغبراء ، ولا [4] أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر " ، ولم يسموه صديقا ، وسموا أبا بكر [ بذلك ] [5] مع أنه لم يرد مثل ذلك في حقه " .

                  فيقال هذا الحديث : لم يروه الجماعة كلهم ، ولا هو في [ ص: 265 ] الصحيحين ، ولا [ هو ] [6] في السنن ، بل هو مروي في الجملة [7] . وبتقدير صحته وثبوته ، فمن المعلوم أن هذا الحديث لم يرد به أن أبا ذر أصدق من جميع الخلق ، فإن هذا يلزم منه أن يكون أصدق من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن سائر النبيين ، ومن علي [ بن أبي طالب ] [8] . وهذا خلاف إجماع المسلمين [ كلهم ] [9] من السنة [10] والشيعة ، فعلم أن هذه الكلمة معناها أن أبا ذر صادق ، ليس غيره أكثر تحريا للصدق منه . ولا يلزم إذا كان بمنزلة غيره في تحري الصدق ، أن يكون بمنزلته في كثرة الصدق والتصديق بالحق ، وفي عظم الحق الذي صدق فيه وصدق به . وذلك أنه يقال : فلان صادق اللهجة إذا تحرى الصدق ، وإن كان قليل العلم بما جاءت به [11] الأنبياء . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل : ما أقلت الغبراء أعظم تصديقا من أبي ذر . بل قال : أصدق لهجة ، [ ص: 266 ] والمدح للصديق [12] ( * الذي صدق الأنبياء ، ليس بمجرد كونه صادقا ، بل في كونه مصدقا للأنبياء . وتصديقه ) * [13] للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو صدق خاص ، فالمدح بهذا التصديق - الذي هو صدق خاص - نوع ، والمدح بنفس كونه صادقا نوع آخر . فكل صديق صادق ، وليس كل صادق صديقا .

                  ففي الصحيحين [ عن ابن مسعود ] [14] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة . ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا . وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار . ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا [15] " . فالصديق قد يراد به الكامل في الصدق ، وقد يراد به الكامل في التصديق . والصديق ليست فضيلته في مجرد تحري [16] [ ص: 267 ] الصدق ، بل في أنه علم ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة وتفصيلا ، وصدق ذلك تصديقا كاملا في العلم والقصد والقول والعمل . وهذا القدر لم يحصل لأبي ذر ولا لغيره ، فإن أبا ذر لم يعلم ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - كما علمه أبو بكر ، ولا حصل له من التصديق المفصل كما حصل لأبي بكر [17] . ( * ولا حصل عنده من كمال التصديق معرفة وحالا [18] . كما حصل لأبي بكر ) * [19] ; فإن أبا بكر أعرف منه ، وأعظم حبا لله ورسوله منه ، وأعظم نصرا لله ورسوله منه ، وأعظم جهادا بنفسه وماله منه ، إلى غير ذلك من الصفات التي هي كمال الصديقية .

                  وفي الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا ، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ، [ فرجف بهم ] [20] ، فقال : " اسكن أحد " وضربه برجله ، وقال [21] : " ليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان [22]

                  [ ص: 268 ] وفي الترمذي وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة : أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف ؟ قال : " لا يابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق [23] ويخاف أن لا يقبل منه " [24] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية