الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والجواب من وجوه : أحدها : أن الخليفة إما أن يكون معناه : الذي يخلف غيره وإن كان لم يستخلفه ، كما هو المعروف في اللغة ، وهو قول الجمهور . وإما أن يكون معناه : من استخلفه غيره ، كما قاله [1] . طائفة من أهل الظاهر والشيعة [ ونحوهم ] [2] . فإن كان هو [3] الأول ; فأبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه خلفه بعد موته ، ولم يخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد بعد موته إلا أبو بكر ، فكان هو الخليفة دون [ ص: 270 ] غيره ضرورة ، فإن الشيعة وغيرهم لا ينازعون في أنه هو الذي [4] صار ولي الأمر بعده ، وصار خليفة له يصلي بالمسلمين ، ويقيم فيهم الحدود ، ويقسم بينهم [5] الفيء ، ويغزو بهم العدو [6] ويولي عليهم العمال والأمراء ، وغير ذلك من الأمور التي يفعلها ولاة الأمور .

                  فهذه باتفاق الناس [7] إنما باشرها بعد موته أبو بكر ، فكان [8] هو الخليفة للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها قطعا . لكن أهل السنة يقولون : خلفه [9] وكان هو أحق [10] بخلافته ، والشيعة يقولون : علي كان هو الأحق [11] لكن تصح خلافة أبي بكر ، ويقولون : [12] ما كان يحل له أن يصير هو خليفة [13] ، لكن لا ينازعون [ في ] [14] أنه صار خليفة بالفعل ، وهو مستحق لهذا الاسم ، إذ [15] كان الخليفة من خلف غيره على كل تقدير .

                  وأما إن قيل : إن الخليفة من استخلفه غيره ، كما قاله بعض أهل السنة [ ص: 271 ] وبعض الشيعة ، فمن قال هذا من أهل [16] السنة فإنه [17] يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا بكر إما بالنص الجلي ، كما قاله بعضهم ، وإما بالنص الخفي . كما أن الشيعة القائلين بالنص على علي منهم من يقول بالنص الجلي ، كما تقوله الإمامية ، ومنهم من يقول بالنص الخفي ، كما تقوله الجارودية من الزيدية [18] ودعوى أولئك للنص الجلي أو الخفي على أبي بكر أقوى وأظهر بكثير من دعوى هؤلاء للنص على علي ، لكثرة النصوص الدالة على [ ثبوت ] خلافة [19] أبي بكر ، وأن عليا لم يدل على خلافته إلا ما يعلم أنه كذب ، أو يعلم أنه لا دلالة فيه .

                  وعلى هذا التقدير فلم يستخلف بعد موته أحدا إلا أبا بكر ، فلهذا كان هو الخليفة ; فإن الخليفة المطلق هو من خلفه بعد موته ، أو استخلفه بعد موته . وهذان الوصفان لم يثبتا إلا لأبي بكر ; [ فلهذا كان هو الخليفة ] . [20] .

                  وأما استخلافه لعلي على المدينة ، فذلك ليس من خصائصه ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلا من أصحابه ، كما استخلف ابن أم مكتوم تارة ، وعثمان بن عفان تارة .

                  [ ص: 272 ] [ واستخلف ابن أم مكتوم في غزوة بدر وغيرها ، وعثمان في غزوة ذات الرقاع وغطفان التي يقال لها غزوة أنمار ، واستخلف في بدر الوعيد بن رواحة وزيد بن حارثة في المريسيع ، واستخلف أبا لبابة في غزوة بني قينقاع وغزوة السويق ، وفي غزوة الأبواء سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ في غزوة بواط ، وفي غزوة العشيرة أبا سلمة ] [21]

                  واستخلاف علي لم يكن على أكثر ولا أفضل ممن استخلف عليهم غيره ، بل [ كان ] يكون في المدينة في كل غزوة [ من الغزوات ] من المهاجرين [22] والأنصار أكثر وأفضل ممن تخلف في غزوة تبوك ; فإن غزوة تبوك لم يأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد بالتخلف فيها ، فلم يتخلف فيها إلا منافق أو معذور أو الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، وإنما كان عظم [23] من تخلف فيها النساء والصبيان . ولهذا لما استخلف عليا فيها خرج إليه باكيا ، وقال : أتدعني مع النساء والصبيان ( 4 - 4 ) : [24] ؟ [ وروي أن بعض المنافقين طعنوا في علي ، وقالوا : إنما استخلفه لأنه يبغضه ] [25] وإذا كان قد استخلف غير علي على أكثر وأفضل مما استخلف عليه عليا ، وكان [26] ذلك استخلافا مقيدا على طائفة معينة [ في مغيبه ] [27] ، ليس هو استخلافا [ ص: 273 ] مطلقا بعد موته على أمته ، لم يطلق [28] على أحد من هؤلاء أنه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مع التقييد . وإذا سمي [29] علي بذلك فغيره من الصحابة المستخلفين أولى بهذا الاسم ، فلم يكن هذا من خصائصه .

                  وأيضا فالذي يخلف المطاع بعد موته لا يكون إلا أفضل الناس . وأما الذي يخلفه في حال غزوه لعدوه ، فلا [ يجب أن ] يكون [30] أفضل الناس ، بل العادة جارية بأنه [31] يستصحب في خروجه لحاجته إليه [32] في المغازي من يكون عنده أفضل ممن يستخلفه [33] ، على عياله ; لأن الذي ينفع في الجهاد هو شريكه فيما يفعله ، فهو أعظم ممن يخلفه على العيال ( 7 - 7 ) : [34] ، فإن نفع ذاك ليس كنفع المشارك له [35] في الجهاد .

                  والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما [36] شبه عليا بهارون في أصل الاستخلاف لا في كماله ، ولعلي شركاء في هذا الاستخلاف . يبين ذلك أن موسى لما ذهب إلى ميقات ربه لم يكن معه أحد يشاركه في ذلك ، [ ص: 274 ] فاستخلف هارون على جميع قومه . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذهب إلى غزوة تبوك أخذ معه جميع المسلمين إلا المعذور [37] ، ولم يستخلف عليا إلا على العيال وقليل من الرجال [38] ، فلم يكن استخلافه كاستخلاف موسى لهارون ، بل ائتمنه في حال مغيبه ، كما ائتمن موسى هارون [39] في حال مغيبه ، فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الاستخلاف ليس لنقص مرتبة المستخلف ، بل قد يكون لأمانته كما استخلف موسى هارون على قومه ، وكان علي خرج إليه يبكي وقال أتذرني مع النساء والصبيان ؟ كأنه كره أن يتخلف عنه .

                  وقد قيل : إن بعض المنافقين طعن فيه ، فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه المنزلة ليست لنقص المستخلف ; إذ لو كان كذلك ما استخلف موسى هارون [40] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية