والجواب من وجوه : أحدها : أن الخليفة إما أن يكون معناه : الذي يخلف غيره وإن كان لم يستخلفه ، كما هو المعروف في اللغة ، وهو قول الجمهور . وإما أن يكون معناه : من استخلفه غيره ، كما قاله [1] . طائفة من أهل الظاهر والشيعة [ ونحوهم ] [2] . فإن كان هو [3] الأول ; خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه خلفه بعد موته ، فأبو بكر ، فكان هو الخليفة أبو بكر دون [ ص: 270 ] غيره ضرورة ، فإن ولم يخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد بعد موته إلا الشيعة وغيرهم لا ينازعون في أنه هو الذي [4] صار ولي الأمر بعده ، وصار خليفة له يصلي بالمسلمين ، ويقيم فيهم الحدود ، ويقسم بينهم [5] الفيء ، ويغزو بهم العدو [6] ويولي عليهم العمال والأمراء ، وغير ذلك من الأمور التي يفعلها ولاة الأمور .
فهذه باتفاق الناس [7] إنما باشرها بعد موته ، فكان أبو بكر [8] هو الخليفة للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها قطعا . لكن أهل السنة يقولون : خلفه [9] وكان هو أحق [10] بخلافته ، والشيعة يقولون : كان هو الأحق علي [11] لكن تصح خلافة ، ويقولون : أبي بكر [12] ما كان يحل له أن يصير هو خليفة [13] ، لكن لا ينازعون [ في ] [14] أنه صار خليفة بالفعل ، وهو مستحق لهذا الاسم ، إذ [15] كان الخليفة من خلف غيره على كل تقدير .
وأما إن قيل : إن الخليفة من استخلفه غيره ، كما قاله بعض أهل السنة [ ص: 271 ] وبعض الشيعة ، فمن قال هذا من أهل [16] السنة فإنه [17] يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف إما بالنص الجلي ، كما قاله بعضهم ، وإما بالنص الخفي . كما أن أبا بكر الشيعة القائلين بالنص على منهم من يقول بالنص الجلي ، كما تقوله علي الإمامية ، ومنهم من يقول بالنص الخفي ، كما تقوله الجارودية من الزيدية [18] ودعوى أولئك للنص الجلي أو الخفي على أقوى وأظهر بكثير من دعوى هؤلاء للنص على أبي بكر ، لكثرة علي النصوص الدالة على [ ثبوت ] خلافة [19] ، وأن أبي بكر لم يدل على خلافته إلا ما يعلم أنه كذب ، أو يعلم أنه لا دلالة فيه . عليا
وعلى هذا التقدير فلم يستخلف بعد موته أحدا إلا ، فلهذا كان هو الخليفة ; فإن الخليفة المطلق هو من خلفه بعد موته ، أو استخلفه بعد موته . وهذان الوصفان لم يثبتا إلا أبا بكر ; [ فلهذا كان هو الخليفة ] . لأبي بكر [20] .
وأما استخلافه على لعلي المدينة ، فذلك ليس من خصائصه ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلا من أصحابه ، كما استخلف تارة ، ابن أم مكتوم تارة . وعثمان بن عفان
[ ص: 272 ] [ واستخلف في غزوة ابن أم مكتوم بدر وغيرها ، في غزوة ذات الرقاع وعثمان وغطفان التي يقال لها غزوة أنمار ، واستخلف في بدر الوعيد بن رواحة في وزيد بن حارثة المريسيع ، واستخلف أبا لبابة في غزوة بني قينقاع وغزوة السويق ، وفي غزوة الأبواء ، سعد بن عبادة في غزوة بواط ، وفي غزوة العشيرة وسعد بن معاذ أبا سلمة ] [21]
واستخلاف لم يكن على أكثر ولا أفضل ممن استخلف عليهم غيره ، بل [ كان ] يكون في علي المدينة في كل غزوة [ من الغزوات ] من المهاجرين [22] والأنصار أكثر وأفضل ممن تخلف في غزوة تبوك ; فإن غزوة تبوك لم يأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد بالتخلف فيها ، فلم يتخلف فيها إلا منافق أو معذور أو الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، وإنما كان عظم [23] من تخلف فيها النساء والصبيان . ولهذا لما استخلف عليا فيها خرج إليه باكيا ، وقال : أتدعني مع النساء والصبيان ( 4 - 4 ) : [24] ؟ [ وروي أن بعض المنافقين طعنوا في ، وقالوا : إنما استخلفه لأنه يبغضه ] علي [25] وإذا كان قد استخلف غير على أكثر وأفضل مما استخلف عليه علي ، وكان عليا [26] ذلك استخلافا مقيدا على طائفة معينة [ في مغيبه ] [27] ، ليس هو استخلافا [ ص: 273 ] مطلقا بعد موته على أمته ، لم يطلق [28] على أحد من هؤلاء أنه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مع التقييد . وإذا سمي [29] بذلك فغيره من الصحابة المستخلفين أولى بهذا الاسم ، فلم يكن هذا من خصائصه . علي
وأيضا فالذي يخلف المطاع بعد موته لا يكون إلا أفضل الناس . وأما الذي يخلفه في حال غزوه لعدوه ، فلا [ يجب أن ] يكون [30] أفضل الناس ، بل العادة جارية بأنه [31] يستصحب في خروجه لحاجته إليه [32] في المغازي من يكون عنده أفضل ممن يستخلفه [33] ، على عياله ; لأن الذي ينفع في الجهاد هو شريكه فيما يفعله ، فهو أعظم ممن يخلفه على العيال ( 7 - 7 ) : [34] ، فإن نفع ذاك ليس كنفع المشارك له [35] في الجهاد .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما [36] شبه عليا بهارون في أصل الاستخلاف لا في كماله ، شركاء في هذا الاستخلاف . يبين ذلك أن ولعلي موسى لما ذهب إلى ميقات ربه لم يكن معه أحد يشاركه في ذلك ، [ ص: 274 ] فاستخلف هارون على جميع قومه . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذهب إلى غزوة تبوك أخذ معه جميع المسلمين إلا المعذور [37] ، ولم يستخلف إلا على العيال وقليل من الرجال عليا [38] ، فلم يكن استخلافه كاستخلاف موسى لهارون ، بل ائتمنه في حال مغيبه ، كما ائتمن موسى هارون [39] في حال مغيبه ، فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الاستخلاف ليس لنقص مرتبة المستخلف ، بل قد يكون لأمانته كما استخلف موسى هارون على قومه ، وكان خرج إليه يبكي وقال أتذرني مع النساء والصبيان ؟ كأنه كره أن يتخلف عنه . علي
وقد قيل : إن بعض المنافقين طعن فيه ، فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه المنزلة ليست لنقص المستخلف ; إذ لو كان كذلك ما استخلف موسى هارون [40] .