الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الثاني [1] وهذا هو الوجه الثاني من وجوه الجواب ، وبدأ الأول في الصفحة السابقة .

                  : أن هؤلاء الرافضة في غاية التناقض والكذب ; فإنه من المعلوم [2]

                  1 أن الناس أجمعوا على بيعة عثمان ما لم يجمعوا [3] .

                  على قتله
                  ; فإنهم كلهم بايعوه في جميع الأرض . فإن جاز الاحتجاج بالإجماع الظاهر ، فيجب [4]

                  أن تكون بيعته حقا لحصول الإجماع عليها . وإن لم [ ص: 324 ] يجز الاحتجاج به ، بطلت حجتهم بالإجماع على قتله . لا سيما ومن المعلوم أنه لم يباشر قتله إلا طائفة قليلة . ثم إنهم ينكرون الإجماع على بيعته ، ويقولون : إنما بايع أهل الحق منهم خوفا وكرها [5]

                  . ومعلوم أنهم لو اتفقوا كلهم على قتله [6]

                  ، وقال قائل : كان أهل الحق كارهين [ لقتله [7]

                  لكن سكتوا خوفا وتقية

                  [8] على أنفسهم ، لكان [9]

                  هذا أقرب إلى الحق ، ] [10]

                  لأن العادة قد جرت بأن من يريد قتل الأئمة يخيف من ينازعه ، بخلاف من يريد مبايعة الأئمة [11]

                  ، فإنه لا يخيف المخالف ، كما يخيف [12]

                  من يريد قتله ، فإن المريدين [13]

                  للقتل أسرع إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعة .

                  فهذا لو قدر أن جميع الناس ظهر منهم الأمر بقتله ، فكيف وجمهورهم أنكروا [14]

                  قتله ، ودافع عنه من دافع في بيته ، كالحسن بن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهما ؟ .

                  وأيضا فإجماع الناس على بيعة أبي بكر أعظم من إجماعهم على بيعة [ ص: 325 ] علي وعلى قتل عثمان وعلى غير ذلك [15]

                  ، فإنه لم يتخلف عنها إلا نفر يسير كسعد بن عبادة [16] .

                  ، وسعد قد علم سبب تخلفه ، والله يغفر له ويرضى عنه . وكان رجلا صالحا من السابقين الأولين من الأنصار من أهل الجنة ، كما قالت عائشة - رضي الله عنها - في قصة الإفك لما أخذ يدافع عن عبد الله بن أبي رأس المنافقين ، [ قالت ] [17]

                  : " وكان قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكن احتملته [18]

                  الحمية "

                  [19] .

                  وقد قلنا غير مرة : إن الرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها ، أو تمحوها حسناته ، أو تكفر عنه بالمصائب ، أو بغير ذلك

                  [20] ; فإن المؤمن [21]

                  ، إذا أذنب كان لدفع عقوبة [ النار ] عنه [22]

                  عشرة أسباب
                  : ثلاثة منه ، وثلاثة من الناس ، وأربعة يبتديها الله [23]

                  : التوبة ، والاستغفار ، والحسنات الماحية ، ودعاء المؤمنين له

                  [24] ، وإهداؤهم العمل الصالح له ، وشفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - والمصائب [ ص: 326 ] المكفرة في الدنيا ، وفي البرزخ ، وفي عرصات القيامة ، ومغفرة الله له بفضل رحمته .

                  والمقصود هنا أن هذا الإجماع ظاهر معلوم ، فكيف يدعي الإجماع على مثل قتل عثمان من ينكر مثل [25]

                  هذا الإجماع ؟ بل من المعلوم أن الذين تخلفوا عن القتال مع علي من المسلمين أضعاف الذين أجمعوا

                  [26] على قتل عثمان ; فإن الناس كانوا في زمن علي على ثلاثة أصناف : صنف قاتلوا معه ، وصنف قاتلوه ، وصنف لا قاتلوه ولا قاتلوا معه . وأكثر السابقين الأولين كانوا من هذا الصنف ، ولو لم يكن تخلف عنه إلا من قاتل مع معاوية - رضي الله عنه - فإن معاوية ومن معه لم يبايعوه ، وهم أضعاف الذين قتلوا [27]

                  عثمان أضعافا مضاعفة ، والذين أنكروا قتل عثمان أضعاف الذين قاتلوا مع علي . فإن كان قول القائل : إن الناس أجمعوا [28]

                  على قتال علي باطلا ، فقوله : إنهم أجمعوا [29] على قتل عثمان أبطل وأبطل .

                  وإن جاز أن يقال : إنهم أجمعوا على قتل عثمان ، لكون ذلك وقع في العالم ولم يدفع . فقول القائل : إنهم أجمعوا على قتال علي [ أيضا ] [30]

                  والتخلف عن بيعته أجوز وأجوز ; فإن هذا وقع [31]

                  في العالم ولم يدفع [ أيضا ] [32]

                  .

                  [ ص: 327 ] وإن قيل : إن [33]

                  الذين كانوا مع علي لم يمكنهم إلزام الناس بالبيعة له ، وجمعهم [34]

                  عليه ، ولا دفعهم عن قتاله ، فعجزوا عن ذلك .

                  قيل : والذين كانوا مع عثمان لما حصر لم يمكنهم أيضا [35]

                  دفع القتال عنه .

                  وإن قيل : بل أصحاب علي فرطوا وتخاذلوا ، حتى عجزوا [36]

                  عن دفع القتال ، أو قهر الذين قاتلوه ص : قتلوه .

                  أو جمع الناس عليه .

                  قيل : والذين كانوا مع عثمان [ فرطوا وتخاذلوا

                  [37] حتى تمكن منه أولئك . ثم دعوى المدعي الإجماع على قتل عثمان ]

                  [38] مع ظهور الإنكار [ من ] جماهير الإنكار

                  [39] الأمة له وقيامهم [40]

                  في الانتصار له والانتقام ممن قتله - أظهر كذبا من دعوى المدعي إجماع الأئمة على قتل الحسين - رضي الله عنه - .

                  فلو قال قائل : إن الحسين قتل بإجماع الناس ، لأن الذين قاتلوه وقتلوه لم يدفعهم أحد من ذلك ، لم يكن كذبه بأظهر من كذب المدعي للإجماع [41]

                  على قتل عثمان ; فإن الحسين - رضي الله عنه - لم يعظم إنكار [ ص: 328 ] الأمة لقتله ، كما عظم إنكارهم لقتل عثمان ، ولا انتصر له جيوش كالجيوش الذين انتصرت

                  [42] لعثمان ، ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه ، ولا حصل بقتله من الفتنة والشر والفساد ما حصل بقتل عثمان ، ولا كان قتله أعظم إنكارا عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان ; فإن عثمان من أعيان السابقين الأولين من المهاجرين من طبقة علي وطلحة والزبير ، وهو خليفة للمسلمين أجمعوا على بيعته ، بل لم يشهر في الأمة سيفا ولا قتل على ولايته أحدا [43]

                  ، وكان يغزو بالمسلمين الكفار بالسيف ، وكان السيف في خلافته كما كان في خلافة أبي بكر وعمر مسلولا على الكفار ، مكفوفا عن أهل القبلة ، ثم إنه طلب قتله وهو خليفة فصبر ولم يقاتل دفعا عن نفسه حتى قتل ، ولا ريب أن هذا أعظم أجرا ، وقتله [44]

                  أعظم إثما ، ممن لم يكن متوليا فخرج يطلب الولاية ، ولم يتمكن من ذلك

                  [45]

                  أعوان الذين طلب أخذ الأمر منهم ، فقاتل عن نفسه حتى قتل .

                  ولا ريب أن قتال الدافع عن نفسه وولايته أقرب من قتال الطالب لأن يأخذ الأمر من غيره ، وعثمان ترك القتال دفعا عن ولايته ، فكان حاله أفضل من حال الحسين ، وقتله أشنع من قتل الحسين . كما أن الحسن - رضي الله عنه - لما لم يقاتل على الأمر ، بل أصلح بين الأمة بتركه القتال [46]

                  ، [ ص: 329 ] مدحه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فقال : " إن ابني هذا سيد ، [47]

                  وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين
                  " [48]

                  .

                  والمنتصرون لعثمان معاوية وأهل الشام ، والمنتصرون من قتلة الحسين المختار بن أبي عبيد [ الثقفي ] [49]

                  وأعوانه . ولا يشك عاقل أن معاوية - رضي الله عنه - خير من المختار ; فإن المختار كذاب ادعى النبوة . وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يكون في ثقيف كذاب ومبير " [50]

                  فالكذاب هو المختار ، والمبير هو الحجاج بن يوسف . وهذا المختار كان أبوه رجلا صالحا ، وهو أبو عبيد الثقفي الذي قتل شهيدا في حرب المجوس ، وأخته صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر امرأة صالحة ، وكان المختار رجل سوء .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية