الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ويقال : ثالثا : هب أن واحدا من الصحابة : عائشة أو غيرها قال في ذلك

                  [1] على وجه الغضب ، لإنكاره بعض ما ينكر ، فليس قوله حجة ، ولا يقدح ذلك لا في إيمان

                  [2] القائل ولا المقول له ، بل قد يكون كلاهما وليا لله تعالى من أهل الجنة ، ويظن أحدهما جواز قتل الآخر ، بل يظن كفره ، وهو مخطئ في هذا الظن .

                  كما [ ثبت ]

                  [3] في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، وكان من أهل بدر والحديبية . وقد ثبت في الصحيح أن غلامه قال : يا رسول الله ، والله ليدخلن حاطب النار . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كذبت ، إنه قد

                  [4] شهد بدرا والحديبية "


                  [5] . وفي حديث علي أن حاطبا كتب إلى المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك ، فقال لعلي والزبير : " اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب " . فلما [ ص: 331 ] أتيا بالكتاب ، قال : " ما هذا يا حاطب ؟ " فقال : والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتدادا ولا رضا بالكفر ، ولكن كنت امرأ ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسهم ، وكان من معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي . فقال عمر - رضي الله عنه - : دعني أضرب عنق هذا المنافق . فقال : " إنه شهد بدرا ، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وأنزل الله تعالى أول سورة الممتحنة ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) [ سورة الممتحنة : 1 ] [6] وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها ، وهي متواترة عندهم ، معروفة عند علماء التفسير ، وعلماء الحديث

                  [7] وعلماء المغازي والسير والتواريخ ، وعلماء الفقه ، وغير هؤلاء . وكان علي - رضي الله عنه - يحدث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة ، وروى عنه كاتبه عبد الله بن أبي رافع ليبين [ لهم ]

                  [8] أن السابقين مغفور لهم ، ولو جرى منهم

                  [9] ما جرى .

                  فإن عثمان وعليا وطلحة

                  [10] والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب [ ص: 332 ] بن أبي بلتعة ، وكان حاطب مسيئا إلى مماليكه ، وكان ذنبه في مكاتبة المشركين

                  [11] وإعانتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء ، ومع هذا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتله ، وكذب من قال : إنه يدخل النار ، لأنه شهد بدرا والحديبية ، وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر . ومع هذا فقد قال

                  [12] عمر - رضي الله عنه - : دعني أضرب عنق هذا المنافق . فسماه منافقا ، واستحل قتله ، ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ، ولا في كونه من أهل الجنة .

                  وكذلك في الصحيحين [ وغيرهما ]

                  [13] في حديث الإفك لما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبا على المنبر يعتذر من رأس المنافقين عبد الله بن أبي فقال : " من يعذرني من رجل [ قد ]

                  [14] بلغني أذاه في أهلي . والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا
                  "

                  [15] . فقام سعد بن معاذ سيد الأوس ، وهو الذي اهتز لموته عرش الرحمن ، وهو الذي كان لا تأخذه في الله لومة لائم ، بل حكم في حلفائه من بني قريظة بأن يقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم ، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة "

                  [16] . فقال : يا رسول الله نحن نعذرك منه . إن كان من إخواننا من [ ص: 333 ] الأوس

                  [17] ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج

                  [18] أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام سعد بن عبادة فقال : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله . فقام أسيد بن حضير ، فقال : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين . وكادت تثور فتنة بين الأوس والخزرج ، حتى نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخفضهم


                  [19] .

                  وهؤلاء الثلاثة من خيار السابقين الأولين ، وقد قال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة : " إنك منافق تجادل عن المنافقين " وهذا مؤمن ولي لله من أهل الجنة ، وذاك مؤمن ولي لله

                  [20] من أهل الجنة ; فدل على أن الرجل قد يكفر آخر

                  [21] بالتأويل ، ولا يكون واحد منهما كافرا .

                  [ ص: 334 ] وكذلك في الصحيحين حديث عتبان بن مالك لما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - منزله في نفر من أصحابه ، فقام يصلي وأصحابه يتحدثون بينهم ، ثم أسندوا عظم ذلك إلى مالك بن الدخشم

                  [22] ، وودوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليه فيهلك ، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته

                  [23] وقال : " أليس يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ؟ " قالوا : [ بلى ] وإنه يقول

                  [24] ذلك ، وما هو في قلبه . فقال : " لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه
                  "

                  [25] .

                  وإذا كان ذلك

                  [26] فإذا ثبت أن شخصا من الصحابة : إما عائشة ، وإما [ ص: 335 ] عمار بن ياسر ، وإما غيرهما : كفر آخر من الصحابة : عثمان أو غيره ، * أو أباح قتله على وجه التأويل - كان هذا من باب التأويل المذكور ، ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ، ولا في كونه من أهل الجنة ; فإن عثمان وغيره * [27] أفضل من حاطب بن أبي بلتعة ، وعمر أفضل من عمار وعائشة وغيرهما ، وذنب حاطب أعظم

                  [28] ، فإذا غفر لحاطب ذنبه ، فالمغفرة لعثمان أولى ، وإذا جاز أن يجتهد مثل عمر وأسيد بن حضير في التكفير أو استحلال القتل ، ولا يكون ذلك مطابقا ، فصدور مثل ذلك من عائشة

                  [29] وعمار أولى .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية