ويقال : رابعا : [ إن ]
[1] هذا من القدح في عائشة عثمان : إن كان صحيحا فإما أن يكون صوابا أو خطأ ، فإن كان صوابا لم يذكر في مساوئ المنقول عن ، وإن كان خطأ لم يذكر في مساوئ عائشة ، والجمع بين نقص عثمان
[2] عائشة باطل قطعا وعثمان
[3] . وأيضا ظهر منها من التألم لقتل فعائشة
[4] ، والذم لقتلته ، وطلب الانتقام منهم ما يقتضي الندم على ما ينافي ذلك ، كما ظهر منها الندم على مسيرها إلى الجمل ; فإن كان ندمها على ذلك يدل على فضيلة علي واعترافها له بالحق ، فكذلك هذا يدل على فضيلة عثمان واعترافها له بالحق ، وإلا فلا . عثمان
[ ص: 336 ] وأيضا وجمهور الصحابة وجمهور المسلمين من الملام عائشة أعظم مما ظهر منهم من الملام لعلي لعثمان ; فإن كان هذا حجة في لوم فما ظهر من فهو حجة في لوم عثمان ، وإن لم يكن حجة في لوم علي ، فليس حجة في لوم علي عثمان [5] . وإن كان المقصود بذلك القدح في لما لامت عائشة
[6] عثمان ، وعليا في ذلك مع جمهور الصحابة ، لكن تختلف درجات الملام . فعائشة
وإن كان المقصود القدح في الجميع : في ، عثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، واللائم والملوم . وعائشة
قيل
[7] : نحن لسنا ندعي لواحد من هؤلاء العصمة من كل ذنب ، بل ندعي أنهم من أولياء الله المتقين ، وحزبه المفلحين ، وعباده الصالحين ، وأنهم من سادات أهل الجنة ، ونقول : [ إن ]
[8] الذنوب جائزة على من هو أفضل منهم من الصديقين ، ومن هو أكبر من الصديقين ، ولكن الذنوب يرفع عقابها بالتوبة
[9] والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ، وغير ذلك ، وهؤلاء لهم من التوبة والاستغفار والحسنات ما ليس لمن هو دونهم ، وابتلوا بمصائب يكفر الله بها خطاياهم ، لم يبتل بها من دونهم ، فلهم من السعي المشكور والعمل المبرور ما ليس لمن بعدهم ، وهم بمغفرة الذنوب أحق من غيرهم ممن بعدهم .
[ ص: 337 ] فإن والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل ، لا بجهل وظلم ، كحال أهل البدع ; الرافضة تعمد
[10] إلى أقوام متقاربين
[11] في الفضيلة ، تريد أن تجعل
[12] أحدهم معصوما من الذنوب والخطايا ، والآخر مأثوما فاسقا أو كافرا ، فيظهر جهلهم وتناقضهم ، موسى أو عيسى ، مع قدحه في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه ، فإنه ما من طريق يثبت بها نبوة كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوة موسى وعيسى إلا وتثبت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بمثلها أو بما هو أقوى منها ، وما من
[13] شبهة تعرض على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا وتعرض في نبوة موسى وعيسى - عليهما السلام - بما
[14] هو مثلها أو أقوى منها ، وكل من عمد إلى التفريق بين المتماثلين ، أو مدح الشيء وذم ما هو من جنسه ، أو أولى بالمدح منه أو بالعكس ، أصابه مثل هذا التناقض والعجز والجهل . وهكذا أتباع العلماء والمشايخ إذا أراد أحدهم أن يمدح متبوعه ويذم نظيره ، أو يفضل أحدهم على الآخر بمثل هذا الطريق .
فإذا قال العراقي :
[15] أهل المدينة خالفوا السنة في كذا وكذا ، وتركوا الحديث الصحيح في كذا وكذا ، واتبعوا الرأي في كذا وكذا ، مثل أن يقول عمن يقوله من أهل المدينة : إنهم لا يرون التلبية إلى رمي جمرة [ ص: 338 ] العقبة ، ولا الطيب للمحرم قبل الإحرام ولا قبل التحلل الثاني ، ولا السجود في المفصل ، ولا الاستفتاح والتعوذ في الصلاة ، ولا التسليمتين منها ، ولا تحريم كل ذي ناب من السباع ، ولا كل ذي مخلب من الطير ، وأنهم يستحلون الحشوش ونحو ذلك ، مع ما في هذه المسائل من النزاع بينهم . فيقول المدنيون : نحن أتبع للسنة وأبعد عن مخالفتها وعن الرأي الخطأ من أهل العراق ، الذين لا يرون [ أن كل مسكر حرام ، ولا أن مياه الآبار لا تنجس بمجرد وقوع النجاسات ، ولا يرون ]
[16] صلاة الاستسقاء ولا صلاة الكسوف بركوعين
[17] في كل ركعة ، ولا يحرمون حرم المدينة ، ولا يحكمون بشاهد ويمين ، ولا يبدءون
[18] في القسامة بأيمان المدعين ، ولا يجتزءون
[19] بطواف واحد وسعي واحد من القران ، ويوجبون الزكاة في الخضروات ، ولا يجيزون الأحباس
[20] ، ولا يبطلون نكاح الشغار ، [ ولا نكاح ] المحلل
[21] ، ولا يجعلون الحكمين بين الزوجين إلا مجرد وكيلين
[22] ، ولا يجعلون الأعمال في العقود بالنيات ، ويستحلون محارم الله تعالى بأدنى الحيل ، * فيسقطون الحقوق كالشفعة وغيرها بالحيل ، ويحلون
[23] المحرمات كالزنا والميسر والسفاح بالحيل * [24] ، ويسقطون الزكاة [ ص: 339 ] بالحيل ، ولا يعتبرون القصود [25] في العقد ، ويعطلون
[26] الحدود حتى لا يمكن سياسة بلد برأيهم ; فلا يقطعون يد من يسرق الأطعمة والفاكهة وما أصله الإباحة ، ولا يحدون أحدا يشرب
[27] الخمر حتى يقر أو تقوم عليه بينة
[28] ، ولا يحدونه إذا رئي يستقيها أو وجدت
[29] رائحتها منه ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه بخلاف ذلك ، ولا يوجبون القود بالمثقل
[30] ، ولا يفعلون بالقاتل كما فعل بالمقتول ، بل يكون
[31] الظالم قد قطع يدي المظلوم
[32] ورجليه وبقر بطنه ، فيكتفون بضرب
[33] عنقه ، ويقتلون الواحد من خيار المسلمين بقتل واحد كافر ذمي ، ويسوون بين دية المهاجرين والأنصار وديات الكفار
[34] من أهل الذمة ، ويسقطون الحد عمن وطئ ذات محرمه كأمه وابنته عالما بالتحريم لمجرد
[35] صورة العقد ، كما يسقطون بعقد الاستئجار
[36] على المنافع ، ولا يجمعون بين [ ص: 340 ] الصلاتين إلا بعرفة ومزدلفة ، ولا يستحبون التغليس بالفجر ، ولا يستحبون القراءة خلف الإمام في صلاة السر ، ولا يوجبون تبييت نية الصوم
[37] على من علم أن غدا من رمضان ، ولا يجوزون وقف المشاع ولا هبته ولا رهنه ، ويحرمون الضب والضبع وغيرهما مما أحله
[38] الله ورسوله ، ويحللون المسكر
[39] الذي حرمه الله ورسوله ، * ولا يرون أن وقت العصر يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه
[40] ، ويقولون : إن صلاة الفجر تبطل بطلوع الشمس ، ولا يجيزون القرعة ، ولا يأخذون بحديث المصراة ، ولا بحديث المشتري إذا أفلس ، ويقولون : إن الجمعة وغيرها تدرك بأقل من ركعة ، ولا يجيزون القصر في مسيرة [41] يوم أو يومين ، ويجيزون تأخير [ بعض ] الصلوات
[42] عن وقتها * [43] .
وكذلك بعض أتباع فقهاء
[44] الحديث لو قال بعضهم
[45] : إنا نحن أتبع ، إنما نتبع الحديث الصحيح
[46] ، وأنتم تعلمون بالضعيف ، فقال له الآخرون : نحن أعلم بالحديث الصحيح [ منكم ]
[47] وأتبع له [ منكم ] [48] [ ص: 341 ] ممن يروي عن الضعفاء ما يعتقد صحته ، ويظن أنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يثبت عنه ; كما يظن ثبوت كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان
[49] في السفر أحيانا يتم الصلاة ، أو أنه كان
[50] يقنت بعد الركوع في الفجر حتى فارق الدنيا ، أو أنه أحرم بالحج إحراما مطلقا : لم ينو تمتعا ولا إفرادا ولا قرانا ، أو أن مكة فتحت صلحا ، وأن ما فعله عمر وغيرهما من ترك قسمة العقار ينقض ، وينقض حكم الخلفاء الراشدين والصحابة وعثمان كعمر وعثمان وعلي وغيرهم في المفقود وابن عمر
[51] ، ويحتج بحديث غير واحد من الضعفاء .
وأما نحن فقولنا : إن ، كحديث الحديث الضعيف خير من الرأي ، ليس المراد به الضعيف المتروك ، لكن المراد به الحسن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وحديث إبراهيم الهجري ، وأمثالهما ممن
[52] يحسن حديثه أو يصححه . وكان الترمذي
[53] الحديث في اصطلاح ما قبل : إما صحيحا وإما ضعيفا ، والضعيف نوعان : ضعيف متروك ، وضعيف ليس بمتروك الترمذي
[54] ، فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح ، فجاء من لم يعرف إلا اصطلاح
[55] ; فسمع قول بعض الأئمة الترمذي
[56] [ ص: 342 ] : الحديث الضعيف أحب إلي من القياس ، فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل ، وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه أتبع الترمذي
[57] للحديث الصحيح ، وهو في ذلك من المتناقضين الذين
[58] يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه .
وكذلك شيوخ الزهد إذا أراد الرجل أن يقدح في بعض الشيوخ ويعظم آخر ، وأولئك
[59] أولى بالتعظيم وأبعد عن القدح ; كمن يفضل أبا يزيد وغيرهما ، ممن يحكى عنه نوع من الشطح ، على مثل والشبلي الجنيد وغيرهما ممن هو أولى بالاستقامة وأعظم قدرا . وسهل بن عبد الله التستري
وذلك لأن هؤلاء من جهلهم يجعلون مجرد الدعوى العظيمة موجبة لتفضيل المدعي ، ولا يعلمون أن تلك غايتها أن تكون من الخطأ المغفور ، لا من السعي المشكور . وكل من لم يسلك سبيل العلم والعدل أصابه مثل هذا التناقض ، ولكن الإنسان كما قال الله تعالى : ( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ) [ سورة الأحزاب : 72 ، 73 ] فهو ظالم جاهل إلا من تاب الله عليه .