الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ويقال : رابعا : [ إن ]

                  [1] هذا المنقول عن عائشة من القدح في عثمان : إن كان صحيحا فإما أن يكون صوابا أو خطأ ، فإن كان صوابا لم يذكر في مساوئ عائشة ، وإن كان خطأ لم يذكر في مساوئ عثمان ، والجمع بين نقص

                  [2] عائشة وعثمان باطل قطعا

                  [3] . وأيضا فعائشة ظهر منها من التألم لقتل

                  [4] عثمان ، والذم لقتلته ، وطلب الانتقام منهم ما يقتضي الندم على ما ينافي ذلك ، كما ظهر منها الندم على مسيرها إلى الجمل ; فإن كان ندمها على ذلك يدل على فضيلة علي واعترافها له بالحق ، فكذلك هذا يدل على فضيلة عثمان واعترافها له بالحق ، وإلا فلا .

                  [ ص: 336 ] وأيضا فما ظهر من عائشة وجمهور الصحابة وجمهور المسلمين من الملام لعلي أعظم مما ظهر منهم من الملام لعثمان ; فإن كان هذا حجة في لوم عثمان فهو حجة في لوم علي ، وإن لم يكن حجة في لوم علي ، فليس حجة في لوم عثمان [5] . وإن كان المقصود بذلك القدح في عائشة لما لامت

                  [6] عثمان وعليا ، فعائشة في ذلك مع جمهور الصحابة ، لكن تختلف درجات الملام .

                  وإن كان المقصود القدح في الجميع : في عثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعائشة ، واللائم والملوم .

                  قيل

                  [7] : نحن لسنا ندعي لواحد من هؤلاء العصمة من كل ذنب ، بل ندعي أنهم من أولياء الله المتقين ، وحزبه المفلحين ، وعباده الصالحين ، وأنهم من سادات أهل الجنة ، ونقول : [ إن ]

                  [8] الذنوب جائزة على من هو أفضل منهم من الصديقين ، ومن هو أكبر من الصديقين ، ولكن الذنوب يرفع عقابها بالتوبة

                  [9] والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ، وغير ذلك ، وهؤلاء لهم من التوبة والاستغفار والحسنات ما ليس لمن هو دونهم ، وابتلوا بمصائب يكفر الله بها خطاياهم ، لم يبتل بها من دونهم ، فلهم من السعي المشكور والعمل المبرور ما ليس لمن بعدهم ، وهم بمغفرة الذنوب أحق من غيرهم ممن بعدهم .

                  [ ص: 337 ] والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل ، لا بجهل وظلم ، كحال أهل البدع ; فإن الرافضة تعمد

                  [10] إلى أقوام متقاربين

                  [11] في الفضيلة ، تريد أن تجعل

                  [12] أحدهم معصوما من الذنوب والخطايا ، والآخر مأثوما فاسقا أو كافرا ، فيظهر جهلهم وتناقضهم ، كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوة موسى أو عيسى ، مع قدحه في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه ، فإنه ما من طريق يثبت بها نبوة موسى وعيسى إلا وتثبت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بمثلها أو بما هو أقوى منها ، وما من

                  [13] شبهة تعرض على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا وتعرض في نبوة موسى وعيسى - عليهما السلام - بما

                  [14] هو مثلها أو أقوى منها ، وكل من عمد إلى التفريق بين المتماثلين ، أو مدح الشيء وذم ما هو من جنسه ، أو أولى بالمدح منه أو بالعكس ، أصابه مثل هذا التناقض والعجز والجهل . وهكذا أتباع العلماء والمشايخ إذا أراد أحدهم أن يمدح متبوعه ويذم نظيره ، أو يفضل أحدهم على الآخر بمثل هذا الطريق .

                  فإذا قال العراقي :

                  [15] أهل المدينة خالفوا السنة في كذا وكذا ، وتركوا الحديث الصحيح في كذا وكذا ، واتبعوا الرأي في كذا وكذا ، مثل أن يقول عمن يقوله من أهل المدينة : إنهم لا يرون التلبية إلى رمي جمرة [ ص: 338 ] العقبة ، ولا الطيب للمحرم قبل الإحرام ولا قبل التحلل الثاني ، ولا السجود في المفصل ، ولا الاستفتاح والتعوذ في الصلاة ، ولا التسليمتين منها ، ولا تحريم كل ذي ناب من السباع ، ولا كل ذي مخلب من الطير ، وأنهم يستحلون الحشوش ونحو ذلك ، مع ما في هذه المسائل من النزاع بينهم . فيقول المدنيون : نحن أتبع للسنة وأبعد عن مخالفتها وعن الرأي الخطأ من أهل العراق ، الذين لا يرون [ أن كل مسكر حرام ، ولا أن مياه الآبار لا تنجس بمجرد وقوع النجاسات ، ولا يرون ]

                  [16] صلاة الاستسقاء ولا صلاة الكسوف بركوعين

                  [17] في كل ركعة ، ولا يحرمون حرم المدينة ، ولا يحكمون بشاهد ويمين ، ولا يبدءون

                  [18] في القسامة بأيمان المدعين ، ولا يجتزءون

                  [19] بطواف واحد وسعي واحد من القران ، ويوجبون الزكاة في الخضروات ، ولا يجيزون الأحباس

                  [20] ، ولا يبطلون نكاح الشغار ، [ ولا نكاح ] المحلل

                  [21] ، ولا يجعلون الحكمين بين الزوجين إلا مجرد وكيلين

                  [22] ، ولا يجعلون الأعمال في العقود بالنيات ، ويستحلون محارم الله تعالى بأدنى الحيل ، * فيسقطون الحقوق كالشفعة وغيرها بالحيل ، ويحلون

                  [23] المحرمات كالزنا والميسر والسفاح بالحيل * [24] ، ويسقطون الزكاة [ ص: 339 ] بالحيل ، ولا يعتبرون القصود [25] في العقد ، ويعطلون

                  [26] الحدود حتى لا يمكن سياسة بلد برأيهم ; فلا يقطعون يد من يسرق الأطعمة والفاكهة وما أصله الإباحة ، ولا يحدون أحدا يشرب

                  [27] الخمر حتى يقر أو تقوم عليه بينة

                  [28] ، ولا يحدونه إذا رئي يستقيها أو وجدت

                  [29] رائحتها منه ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه بخلاف ذلك ، ولا يوجبون القود بالمثقل

                  [30] ، ولا يفعلون بالقاتل كما فعل بالمقتول ، بل يكون

                  [31] الظالم قد قطع يدي المظلوم

                  [32] ورجليه وبقر بطنه ، فيكتفون بضرب

                  [33] عنقه ، ويقتلون الواحد من خيار المسلمين بقتل واحد كافر ذمي ، ويسوون بين دية المهاجرين والأنصار وديات الكفار

                  [34] من أهل الذمة ، ويسقطون الحد عمن وطئ ذات محرمه كأمه وابنته عالما بالتحريم لمجرد

                  [35] صورة العقد ، كما يسقطون بعقد الاستئجار

                  [36] على المنافع ، ولا يجمعون بين [ ص: 340 ] الصلاتين إلا بعرفة ومزدلفة ، ولا يستحبون التغليس بالفجر ، ولا يستحبون القراءة خلف الإمام في صلاة السر ، ولا يوجبون تبييت نية الصوم

                  [37] على من علم أن غدا من رمضان ، ولا يجوزون وقف المشاع ولا هبته ولا رهنه ، ويحرمون الضب والضبع وغيرهما مما أحله

                  [38] الله ورسوله ، ويحللون المسكر

                  [39] الذي حرمه الله ورسوله ، * ولا يرون أن وقت العصر يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه

                  [40] ، ويقولون : إن صلاة الفجر تبطل بطلوع الشمس ، ولا يجيزون القرعة ، ولا يأخذون بحديث المصراة ، ولا بحديث المشتري إذا أفلس ، ويقولون : إن الجمعة وغيرها تدرك بأقل من ركعة ، ولا يجيزون القصر في مسيرة [41] يوم أو يومين ، ويجيزون تأخير [ بعض ] الصلوات

                  [42] عن وقتها * [43] .

                  وكذلك بعض أتباع فقهاء

                  [44] الحديث لو قال بعضهم

                  [45] : إنا نحن أتبع ، إنما نتبع الحديث الصحيح

                  [46] ، وأنتم تعلمون بالضعيف ، فقال له الآخرون : نحن أعلم بالحديث الصحيح [ منكم ]

                  [47] وأتبع له [ منكم ] [48] [ ص: 341 ] ممن يروي عن الضعفاء ما يعتقد صحته ، ويظن أنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يثبت عنه ; كما يظن ثبوت كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان

                  [49] في السفر أحيانا يتم الصلاة ، أو أنه كان

                  [50] يقنت بعد الركوع في الفجر حتى فارق الدنيا ، أو أنه أحرم بالحج إحراما مطلقا : لم ينو تمتعا ولا إفرادا ولا قرانا ، أو أن مكة فتحت صلحا ، وأن ما فعله عمر وعثمان وغيرهما من ترك قسمة العقار ينقض ، وينقض حكم الخلفاء الراشدين والصحابة كعمر وعثمان وعلي وابن عمر وغيرهم في المفقود

                  [51] ، ويحتج بحديث غير واحد من الضعفاء .

                  وأما نحن فقولنا : إن الحديث الضعيف خير من الرأي ، ليس المراد به الضعيف المتروك ، لكن المراد به الحسن ، كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وحديث إبراهيم الهجري ، وأمثالهما ممن

                  [52] يحسن الترمذي حديثه أو يصححه . وكان

                  [53] الحديث في اصطلاح ما قبل الترمذي : إما صحيحا وإما ضعيفا ، والضعيف نوعان : ضعيف متروك ، وضعيف ليس بمتروك

                  [54] ، فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح ، فجاء من لم يعرف إلا اصطلاح

                  [55] الترمذي ; فسمع قول بعض الأئمة

                  [56] [ ص: 342 ] : الحديث الضعيف أحب إلي من القياس ، فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي ، وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه أتبع

                  [57] للحديث الصحيح ، وهو في ذلك من المتناقضين الذين

                  [58] يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه .

                  وكذلك شيوخ الزهد إذا أراد الرجل أن يقدح في بعض الشيوخ ويعظم آخر ، وأولئك

                  [59] أولى بالتعظيم وأبعد عن القدح ; كمن يفضل أبا يزيد والشبلي وغيرهما ، ممن يحكى عنه نوع من الشطح ، على مثل الجنيد وسهل بن عبد الله التستري وغيرهما ممن هو أولى بالاستقامة وأعظم قدرا .

                  وذلك لأن هؤلاء من جهلهم يجعلون مجرد الدعوى العظيمة موجبة لتفضيل المدعي ، ولا يعلمون أن تلك غايتها أن تكون من الخطأ المغفور ، لا من السعي المشكور . وكل من لم يسلك سبيل العلم والعدل أصابه مثل هذا التناقض ، ولكن الإنسان كما قال الله تعالى : ( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ) [ سورة الأحزاب : 72 ، 73 ] فهو ظالم جاهل إلا من تاب الله عليه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية