الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 343 ] وأما قوله

                  [1] : " إنها سألت : من تولى الخلافة ؟ فقالوا : علي . فخرجت لقتاله على دم عثمان ، فأي [2] ذنب كان لعلي في ذلك ؟ " .


                  فيقال له : أولا : قول القائل [3] : إن عائشة وطلحة والزبير اتهموا عليا بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك - كذب بين

                  [4] ، بل إنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيزوا إلى علي ، وهم يعلمون أن براءة علي من دم عثمان كبراءتهم وأعظم ، لكن القتلة كانوا قد أووا إليه ، فطلبوا قتل القتلة ، ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعلي ، لأن القوم كانت لهم قبائل يذبون عنهم .

                  والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن

                  [5] دفع السفهاء ، فصار الأكابر [ - رضي الله عنهم - ]

                  [6] عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها . وهذا شأن الفتن كما قال تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) [ سورة الأنفال : 25 ] . وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله .

                  وأيضا فقوله : " أي ذنب كان لعلي في قتله ؟

                  [7] " .

                  تناقض منه ; فإنه يزعم أن عليا كان ممن

                  [8] يستحل قتله [ وقتاله ]

                  [9] ، [ ص: 344 ] وممن ألب عليه وقام في ذلك ، فإن عليا - رضي الله عنه - نسبه إلى قتل

                  [10] عثمان كثير من شيعته ومن شيعة

                  [11] عثمان ، هؤلاء لبغضهم لعثمان وهؤلاء لبغضهم لعلي

                  [12] ، وأما جماهير المسلمين

                  [13] فيعلمون كذب الطائفتين على علي .

                  والرافضة تقول : إن عليا كان ممن يستحل قتل عثمان ، بل وقتل أبي بكر وعمر ، وترى أن الإعانة على قتله من الطاعات والقربات . فكيف يقول من هذا اعتقاده : أي ذنب كان لعلي على ذلك ؟ وإنما يليق هذا التنزيه لعلي بأقوال أهل السنة ، لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضا .

                  وأما قوله : " وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك ؟ وبأي وجه يلقون رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ من أن الواحد منا لو تحدث مع [14] امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها

                  [15] كان أشد الناس عداوة له " .

                  فيقال : هذا من تناقض الرافضة وجهلهم ; فإنهم يرمون عائشة [ ص: 345 ] بالعظائم ، ثم منهم من يرميها بالفاحشة التي برأها الله منها ، وأنزل

                  [16] القرآن في ذلك .

                  ثم إنهم لفرط جهلهم يدعون ذلك

                  [17] في غيرها من نساء الأنبياء ، فيزعمون

                  [18] أن امرأة نوح كانت بغيا ، وأن الابن الذي دعاه نوح لم يكن منه وإنما كان منها ، وأن معنى قوله : ( إنه عمل غير صالح ) [ سورة هود : 46 ] أن هذا الولد من عمل غير صالح . ومنهم من يقرأ : ( ونادى نوح ابنه ) [ سورة هود : 42 ] يريدون : ابنها ، ويحتجون بقوله : ( إنه ليس من أهلك ) [ سورة هود : 46 ] ويتأولون قوله تعالى : ( ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما ) [ سورة التحريم : 10 ] على أن امرأة نوح خانته في فراشه

                  [19] ، وأنها كانت قحبة

                  [20] .

                  وضاهوا في ذلك المنافقين والفاسقين أهل الإفك الذين رموا عائشة بالإفك والفاحشة ولم يتوبوا

                  [21] ، وفيهم خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أيها الناس من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ، والله ما علمت عليه إلا خيرا "

                  [22] .

                  ومن المعلوم أنه من أعظم أنواع الأذى للإنسان أن يكذب على امرأته [ ص: 346 ] رجل

                  [23] ويقول إنها بغي ويجعل الزوج زوج قحبة [24] ، فإن هذا

                  [25] من أعظم ما يشتم به الناس بعضهم بعضا ، حتى إنهم

                  [26] يقولون [ في المبالغة ]

                  [27] : شتمه بالزاي والقاف

                  [28] مبالغة في شتمه .

                  والرمي بالفاحشة - دون سائر المعاصي - جعل الله فيه حد القذف ، لأن الأذى الذي يحصل به للمرمي لا يحصل مثله بغيره

                  [29] ، فإنه لو رمي بالكفر أمكنه تكذيب الرامي بما يظهره من الإسلام ، بخلاف الرمي بالفاحشة ; فإنه لا يمكنه تكذيب المفتري بما يضاد ذلك ، فإن الفاحشة تخفى وتكتم مع تظاهر الإنسان بخلاف ذلك ، والله تعالى قد ذم من يحب إشاعتها في المؤمنين

                  [30] ، لما في إشاعتها من أذى الناس وظلمهم ، ولما في ذلك من إغراء النفوس [ بها ] ، لما فيها

                  [31] من التشبه والاقتداء ، فإذا رأى الإنسان أن غيره فعلها تشبه به ، ففي القذف بها من الظلم والفواحش ما ليس في القذف بغيرها ، لأن النفوس تشتهيها ، بخلاف الكفر والقتل ، ولأن إظهار الكفر والقتل فيه التحذير للنفوس من [ ص: 347 ] مضرة ذلك ، فمصلحة إظهار فعل فاعله في الجملة راجحة على مصلحة كتمان ذلك ، ولهذا يقبل فيه شاهدان ، ويقام الحد فيه بإقراره مرة واحدة ، بخلاف الفاحشة ; فإنها لا تثبت إلا بأربعة شهداء بالاتفاق ، ولا تثبت بالإقرار إلا بإقرار

                  [32] أربع مرات عند كثير من العلماء .

                  والرجل يتأذى برمي امرأته بالفاحشة

                  [33] ، كما يتأذى بفعل امرأته للفاحشة ، ولهذا شرع له الشارع اللعان إذا قذف امرأته ، وأن يدفع عنه

                  [34] حد القذف باللعان دون غيره ; فإنه إذا قذف محصنة لم يكن بد من إقامة الشهادة وإما الحد

                  [35] إن طلب ذلك المقذوف ، ولهذا لو قذفت امرأة غير محصنة ولها زوج محصن وجب حد القذف على القاذف في أحد قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد .

                  فهذه الشواهد الشرعية والعرفية مما يبين أن تأذي الإنسان برمي

                  [36] امرأته بالفاحشة أعظم من تأذيه بإخراجها من منزلها

                  [37] لمصلحة عامة يظنها المخرج ، مع أن طلحة والزبير لم يخرجاها من منزلها ، بل لما قتل عثمان - رضي الله عنه - كانت عائشة بمكة [ ولم تكن بالمدينة ]

                  [38] ، ولم تشهد قتله ، فذهب طلحة والزبير فاجتمعا بها في مكة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية