كما قال تعالى : ( ولفظ البغي إذا أطلق فهو الظلم ، [1] ) سورة الحجرات وقال : ( [2] ) سورة البقرة .
[ ص: 419 ] وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذا لما كانوا ينقلون اللبن لبناء المسجد ، وكانوا ينقلون لبنة لبنة ، وكان ينقل لبنتين لبنتين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " عمار ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ويح عمار تقتله الفئة الباغية " [3] .
. وهذا ليس فيه ذم ، بل مدح له . ولو كان القاتلون له مصيبين في قتله لم يكن مدحا له ، وليس في كونهم يطلبون دم لعمار ما يوجب مدحه . عثمان
وكذلك من تأول قاتله [4] .
بأنهم الطائفة التي قاتل معها ، فتأويله ظاهر الفساد ، ويلزمهم ما ألزمهم إياه ، وهو أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد قتلوا كل من قتل معهم في الغزو ، علي وغيره . وقد يقال : فلان قتل فلانا ، إذا أمره بأمر كان فيه حتفه ، ولكن هذا مع القرينة ، لا يقال عند الإطلاق ، بل القاتل عند الإطلاق الذي قتله دون الذي أمره . كحمزة
ثم هذا يقال لمن أمر غيره ، لم يأمره أحد بقتال أصحاب وعمار ، بل [ هو ] كان من معاوية [5] أحرص الناس على قتالهم ، وأشدهم رغبة في ذلك ، وكان حرصه على ذلك أعظم من حرص غيره ، وكان هو يحض وغيره على قتالهم . عليا
ولهذا لم يذهب أحد من أهل العلم الذين تذكر مقالاتهم إلى هذا التأويل ، بل أهل العلم في هذا الحديث على ثلاثة أقوال : فطائفة ضعفته لما روي عندها بأسانيد ليست ثابتة عندهم ، ولكن رواه أهل [ ص: 420 ] الصحيح : رواه البخاري كما تقدم من حديث : ورواه أبي سعيد من غير وجه من حديث مسلم عن أمه عن الحسن [ - رضي الله عنها - ، ومن حديث ] أم سلمة أبي سعيد [6] . .
عن أبي قتادة وغيره .
ومنهم من قال : هذا دليل على أن وأصحابه بغاة ، وأن قتال معاوية لهم قتال أهل العدل لأهل البغي ، لكنهم بغاة متأولون لا يكفرون ولا يفسقون . علي
ولكن يقال : ليس في مجرد كونهم بغاة ما يوجب الأمر بقتالهم ; فإن الله لم يأمر بقتال كل باغ ، بل ولا أمر بقتال البغاة ابتداء ، ولكن قال : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) سورة الحجرات ، فلم يأمر بقتال البغاة ابتداء ، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يصلح بينهما . وهذا يتناول ما إذا كانتا باغيتين أو إحداهما باغية .
ثم قال : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) وقوله : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ) قد يقال : المراد به البغي بعد الإصلاح ، ولكن هذا خلاف ظاهر القرآن ; فإن قوله : ( بغت إحداهما على الأخرى ) يتناول الطائفتين المقتتلتين ، سواء أصلح بينهما أو لم يصلح . كما أن الأمر [ ص: 421 ] بالإصلاح يتناول المقتتلتين [7] .
مطلقا ; فليس في القرآن أمر بقتال الباغي [8] .
ابتداء ، لكن أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما ، وأنه إن بغت إحداهما على الأخرى بعد القتال أن تقاتل حتى تفيء . وهذا يكون إذا لم تجب إلى الإصلاح بينهما ، وإلا فإذا [9] .
أجابت إلى الإصلاح بينهما لم تقاتل ، فلو قوتلت ثم فاءت إلى الإصلاح لم تقاتل ، لقوله تعالى : ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) فأمر بعد القتال إلى أن تفيء أن يصلح بينهما بالعدل وأن يقسط .
وقتال الفتنة لا يقع فيه هذا ، وذلك قد يكون لأن الله لم يأمر بالقتال ابتداء ، ولكن أمر * إذا اقتتلوا وبغت إحداهما على الأخرى بقتال الفئة الباغية . وقد تكون الآية أمرا * [10] . بالإصلاح [11] .
وقتال الباغية جميعا لم يأمر بأحدهما ، وقد تكون الطائفة باغية ابتداء ، لكن لما بغت أمر بقتالها ، وحينئذ لم يكن المقاتل لها قادرا لعدم الأعوان أو لغير ذلك ، وقد يكون عاجزا ابتداء عن قتال الفئة الباغية ، أو عاجزا عن قتال تفيء فيه إلى أمر الله ، فليس كل من كان قادرا على القتال كان قادرا على قتال يفئ فيه إلى أمر الله ، وإذا كان عاجزا عن قتالها حتى تفيء إلى أمر الله ، لم يكن مأمورا بقتالها : لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب ، ولكن قد يظن أنه قادر [ ص: 422 ] على ذلك ، فتبين [12] .
له في آخر الأمر أنه لم يكن قادرا . فهذا من الاجتهاد الذي يثاب صاحبه على حسن القصد وفعل ما أمر ، وإن أخطأ فيكون له فيه أجر ، ليس من الاجتهاد الذي يكون له فيه أجران ; فإن هذا إنما يكون إذا وافق حكم الله في الباطن .
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر " [13] .
. ومن الاجتهاد أن يكون ولي الأمر - أو نائبه - مخيرا بين أمرين فأكثر [14] . ، تخيير تحر للإصلاح ، لا تخيير شهوة ، كما يخير الإمام في الأسرى بين القتل والاسترقاق [15] .
والمن والفداء عند أكثر العلماء .
فإن قوله تعالى : ( فإما منا بعد وإما فداء ) ليس بمنسوخ . وكذلك تخيير من نزل العدو على حكمه ، كما نزل بنو قريظة على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله حلفاؤهم من الأوس أن يمن عليهم كما من على بني النضير حلفاء الخزرج ، فقال النبي - [ ص: 423 ] صلى الله عليه وسلم - : " [16] .
سيد سعد بن معاذ الأوس ؟ " فرضيت الأوس بذلك ، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف ، فجاء وهو راكب ، وكان متمرضا من أثر جرح به في المسجد ، سعد بن معاذ وبنو قريظة شرقي المدينة بينهم نصف نهار [17] .
أو نحو ذلك ، فلما أقبل سعد - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قوموا إلى سيدكم " [ فقاموا ] [18] .
وأقاربه في الطريق يسألونه أن يمن عليهم ، ويذكرونه بمعاونتهم [19] .
ونصرهم له في الجاهلية ، فلما دنا قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم فيهم ، فحكم بأن [20] .
تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " . والحديث ثابت في الصحيحين ألا ترضون أن أحكم فيهم [21] .
.
وفي الحديث الذي رواه في صحيحه عن مسلم بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " [22] .
على حكم الله فلا تنزلهم [23] .
على حكم الله ; فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ، [ ص: 424 ] ولكن أنزلهم [24] .
على حكمك وحكم أصحابك " إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم [25]
.
فدل هذان الحديثان [ الصحيحان ] على أن لله حكما معينا فيما يكون ولي الأمر مخيرا فيه تخيير مصلحة ، وإن كان لو حكم بغير ذلك نفذ حكمه [ في الظاهر ] [26] .
، فما كان من باب القتال فهو [27] .
أولى أن يكون أحد الأمرين أحب إلى الله ورسوله : إما فعله وإما تركه ، ويتبين [28] .
ذلك بالمصلحة [ والمفسدة ] [29] .
; فما كان وجوده خيرا من عدمه لما حصل فيه من المصلحة الراجحة في الدين ، فهذا مما يأمر الله به أمر إيجاب أو استحباب ، وما كان عدمه خيرا من وجوده ، فليس بواجب ولا مستحب ، وإن كان فاعله مجتهدا مأجورا على اجتهاده .
والقتال إنما يكون لطائفة ممتنعة ، فلو بغت ثم أجابت إلى الصلح [ ص: 425 ] بالعدل لم تكن ممتنعة ، فلم يجز قتالها . ولو كانت باغية ، وقد أمر بقتال الباغية إلى أن تفيء إلى أمر الله ، أي ترجع ، ثم قال : ( فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ) فأمر بالإصلاح بعد قتال الفئة [ الباغية ] [30] .
، كما أمر بالإصلاح إذا اقتتلتا ابتداء ، وقد قالت - رضي الله عنها - لما وقعت الفتنة : " ترك الناس العمل بهذه الآية " . وهو كما قالت ; فإنهما لما اقتتلتا لم يصلح بينهما ، ولو قدر أنه قوتلت الباغية ، فلم تقاتل حتى تفيء إلى أمر الله ، ثم أصلح بينهما بالعدل - والله تعالى أمر بالقتال إلى الفيء ، ثم الإصلاح ، لم يأمر بقتال مجرد ، بل قال : ( عائشة فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) - وما حصل قتال حتى تفيء إلى أمر الله ، فإن كان ذلك مقدورا فما وقع ، وإن كان معجوزا عنه لم يكن مأمورا به [31] .
.
وعجز المسلمين يوم أحد عن القتال الذي يقتضي انتصارهم كان بترك طاعة الرسول وذنوبهم ، وكذلك التولي يوم حنين كان من الذنوب . يبين ذلك أنه لو قدر أن ، لم يجز القتال ، فلو اندفع البغي طائفة بغت على طائفة ، وأمكن دفع البغي بلا قتال [32] .
بوعظ أو فتيا [33] .
أو أمر بمعروف لم يجز [ ص: 426 ] القتال ، ولو اندفع البغي بقتل واحد مقدور عليه ، أو إقامة حد أو تعزيز ، مثل قطع سارق وقتل محارب وحد قاذف لم يجز القتال . وكثيرا ما تثور الفتنة إذا ظلم بعض طائفة [34] .
لطائفة أخرى ، فإذا أمكن استيفاء حق المظلوم بلا قتال لم يجز القتال .
وليس في الآية أن كل من امتنع من مبايعة إمام عادل [35] .
يجب قتاله بمجرد ذلك ، وإن سمي باغيا لترك طاعة الإمام ، فليس كل من ترك طاعة [ الإمام ] [36] .
يقاتل .
والصديق قاتل مانعي الزكاة لكونهم امتنعوا عن أدائها بالكلية ، فقوتلوا بالكتاب والسنة ، وإلا فلو أقروا بأدائها ، وقالوا : لا نؤديها إليك ، لم يجز قتالهم عند أكثر العلماء .
وأولئك لم يكونوا كذلك . ولهذا كان القول الثالث في هذا الحديث - حديث - إن قاتل عمار طائفة باغية ، ليس لهم أن يقاتلوا عمار ، ولا يمتنعوا عن مبايعته وطاعته ، وإن لم يكن علي مأمورا بقتالهم ، ولا كان فرضا عليه قتالهم لمجرد امتناعهم عن طاعته ، مع كونهم ملتزمين شرائع عليا [37] .
الإسلام ، وإن كان كل من المقتتلتين متأولين مسلمين مؤمنين ، [ وكلهم ] [38] .
يستغفر لهم ويترحم عليهم ، عملا بقوله تعالى : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) سورة الحشر