الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ونحن نذكر قاعدة جامعة في هذا الباب لهم ولسائر الأمة فنقول : لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ، ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت ، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات [ فيتولد فساد عظيم ] [1] .

                  [ ص: 84 ] فنقول : الناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول . ونحن نذكر أصولا جامعة نافعة .

                  الأصل الأول : أنه هل يمكن كل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع ؟ وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق ، بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر ، ولم يكن هو الحق [2] في نفس الأمر : هل يستحق أن يعاقب أم لا ؟ .

                  هذا أصل هذه المسائل ، وللناس في هذا الأصل ثلاثة أقوال ; كل قول عليه طائفة من النظار .

                  الأول : قول من يقول : إن الله قد نصب على الحق في كل مسألة دليلا يعرف به ، يمكن كل من اجتهد واستفرغ وسعه أن يعرف الحق ، وكل من لم يعرف الحق في مسألة أصولية أو فروعية ، فإنما هو لتفريطه فيما يجب عليه ، لا لعجزه . وهذا القول هو المشهور عن القدرية والمعتزلة : وهو قول [3] طائفة من أهل الكلام غير هؤلاء .

                  ثم قال هؤلاء : أما المسائل العلمية فعليها أدلة قطعية تعرف بها ، فكل من لم يعرفها فإنه لم يستفرغ وسعه في طلب الحق فيأثم .

                  وأما المسائل العملية الشرعية فلهم فيها مذهبان : أحدهما : أنها كالعلمية ، وأنه على كل مسألة دليل قطعي ، من خالفه فهو آثم . وهؤلاء [ ص: 85 ] الذين يقولون : المصيب واحد في كل مسألة أصلية وفرعية ، وكل من سوى المصيب فهو آثم لأنه مخطئ ، والخطأ والإثم عندهم متلازمان . وهذا قول بشر المريسي وكثير من المعتزلة البغداديين .

                  الثاني : أن المسائل العملية [4] إن كان عليها دليل قطعي فإن من خالفه آثم مخطئ كالعلمية ، وإن لم يكن عليها دليل قطعي فليس لله فيها حكم في الباطن ، وحكم الله في حق كل مجتهد ما أداه اجتهاده إليه . وهؤلاء وافقوا الأولين في أن الخطأ والإثم متلازمان [5] ، وأن كل مخطئ آثم ، لكن خالفوهم في المسائل الاجتهادية ، فقالوا : ليس فيها قاطع .

                  والظن ليس عليه دليل عند هؤلاء ، وإنما هو من جنس ميل النفوس إلى شيء دون شيء . فجعلوا الاعتقادات الظنية من جنس الإرادات ، وادعوا أنه ليس في نفس الأمر [ حكم مطلوب بالاجتهاد ، ولا ثم في نفس الأمر ] [6] أمارة أرجح من أمارة .

                  وهذا القول قول أبي الهذيل العلاف ومن اتبعه كالجبائي وابنه ، وهو أحد قولي الأشعري وأشهرهما ، وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني ، وأبي حامد الغزالي ، وأبي بكر بن العربي ، ومن اتبعهم ، وقد بسطنا القول في ذلك بسطا كثيرا [ في غير هذا الموضع ] [7] .

                  [ ص: 86 ] والمخالفون لهم كأبي إسحاق الإسفراييني وغيره من الأشعرية ، وغيرهم ، يقولون : هذا القول أوله سفسطة وآخره زندقة . وهذا قول من يقول : إن كل مجتهد في المسائل الشرعية [8] الاجتهادية العملية فهو مصيب باطنا وظاهرا ، ولا يتصور [9] عندهم أن يكون مجتهدا مخطئا إلا بمعنى أنه خفي عليه بعض الأمور ، وذلك الذي خفي عليه ليس هو حكم الله لا في حقه ولا في حق أمثاله . وأما من كان مخطئا وهو المخطئ في المسائل القطعية فهو آثم عندهم .

                  والقول الثاني في أصل المسألة : إن المجتهد المستدل قد يمكنه أن يعرف الحق ، وقد يعجز [10] عن ذلك ، لكن إذا عجز عن ذلك فقد يعاقبه الله تعالى ، وقد لا يعاقبه ، فإن له أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء بلا سبب أصلا ، بل لمحض المشيئة وهذا قول الجهمية والأشعرية ، وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم .

                  ثم قال هؤلاء : قد علم بالسمع أن كل كافر فهو في النار ، فنحن نعلم أن كل كافر فإن الله يعذبه ، سواء كان قد اجتهد وعجز عن معرفة صحة دين الإسلام أو لم يجتهد . وأما المسلمون المختلفون فإن كان اختلافهم في الفروعيات ، فأكثرهم يقول : لا عذاب فيها ، وبعضهم يقول : لأن [11] الشارع عفا عن الخطأ فيها ، وعلم ذلك بإجماع السلف على أنه لا إثم على [ ص: 87 ] المخطئ فيها . وبعضهم يقول : لأن [12] الخطأ في الظنيات ممتنع ، كما تقدم ذكره عن بعض الجهمية والأشعرية . وأما القطعيات فأكثرهم يؤثم المخطئ فيها ، ويقول : إن السمع قد دل على ذلك . ومنهم من لا يؤثمه . والقول المحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري [13] هذا معناه أنه كان لا يؤثم المخطئ من المجتهدين من هذه الأمة : لا في الأصول ولا في الفروع . وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي على عبيد الله هذا القول .

                  وأما غير هؤلاء فيقول : هذا قول السلف وأئمة الفتوى ، كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم ، لا يؤثمون مجتهدا مخطئا لا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية ، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره . ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء ، إلا الخطابية [14] ، ويصححون الصلاة خلفهم . والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ، ولا يصلى خلفه .

                  وقالوا : هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين : إنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين ، لا في مسألة عملية ولا علمية .

                  قالوا : والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع [ ص: 88 ] من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم . وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه . ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره .

                  قالوا : والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة [15] في الإسلام ، لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع ، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة ، فهي باطلة عقلا ; فإن المفرقين [16] بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا [17] بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين ، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة .

                  فمنهم من قال : مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التي يطلب فيها العلم والاعتقاد فقط ، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل .

                  قالوا : وهذا فرق [18] باطل ; فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده ، مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش . وفي المسائل العلمية ما لا يأثم المتنازعون فيه ، كتنازع الصحابة : هل رأى محمد ربه ؟ وكتنازعهم في بعض النصوص هل قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ وما أراد بمعناه ؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات : هل هي من القرآن أم لا ؟ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن [ ص: 89 ] والسنة : هل أراد الله ورسوله كذا وكذا ؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلام : كمسألة الجوهر الفرد ، وتماثل الأجسام ، وبقاء الأعراض ، ونحو ذلك ; فليس في هذا تكفير ولا تفسيق .

                  قالوا : والمسائل العملية فيها علم وعمل ؛ فإذا كان الخطأ مغفورا فيها [19] ، فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورا .

                  ومنهم من قال : المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي ، والفرعية [20] ما ليس عليها دليل قطعي .

                  قال أولئك : وهذا الفرق خطأ أيضا ؛ فإن كثيرا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها ، وغيرهم لم يعرفها ، وفيها ما هو قطعي بالإجماع ، كتحريم المحرمات الظاهرة ، ووجوب الواجبات الظاهرة ، ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتى تقام عليه الحجة ، كما أن جماعة استحلوا شرب [21] الخمر على عهد عمر ، منهم قدامة ، ورأوا أنها حلال لهم ، ولم يكفرهم الصحابة حتى بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا .

                  وقد كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر حتى يتبين [22] لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ولم يؤثمهم [23] النبي - صلى الله عليه وسلم - فضلا عن تكفيرهم ، وخطؤهم قطعي .

                  وكذلك أسامة بن زيد ، وقد قتل الرجل المسلم ، وكان خطؤه قطعيا .

                  [ ص: 90 ] وكذلك الذين وجدوا رجلا في غنم له ، فقال : إني مسلم ، فقتلوه وأخذوا ماله ، كان خطؤهم قطعيا . وكذلك خالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة وأخذ [24] أموالهم كان مخطئا قطعا . وكذلك الذين تيمموا إلى الآباط . وعمار الذي تمعك في التراب للجنابة [ كما تمعك الدابة ، بل والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلوا ] [25] كانوا مخطئين قطعا .

                  وفي زماننا لو أسلم قوم في بعض الأطراف ، ولم يعلموا وجوب الحج ، أو لم يعلموا تحريم الخمر ، لم يحدوا على ذلك . وكذلك لو نشأوا بمكان جهل .

                  وقد زنت على عهد عمر امرأة فلما أقرت به ، قال عثمان [26] : إنها لتستهل به استهلال من لم يعلم [27] أنه حرام . فلما تبين للصحابة أنها لا تعرف التحريم لم يحدوها . واستحلال الزنا خطأ قطعا .

                  والرجل إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه ، فهو مخطئ قطعا ولا إثم عليه بالاتفاق ، وكذلك لا كفارة عليه عند الأكثرين .

                  ومن اعتقد بقاء الفجر فأكل ، فهو مخطئ قطعا إذا تبين له الأكل بعد الفجر ، ولا إثم عليه ، وفي القضاء نزاع . وكذلك من اعتقد غروب الشمس ، فتبين بخلافه ، ومثل هذا كثير .

                  [ ص: 91 ] وقول الله تعالى في القرآن : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ سورة البقرة 286 ] قال الله تعالى : قد فعلت [28] . ولم يفرق بين الخطأ القطعي والظني [29] ، بل لا يجزم بأنه خطأ إلا إذا كان [30] أخطأ قطعا .

                  قالوا : فمن قال : إن المخطئ في مسألة قطعية أو ظنية [31] يأثم ، فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم . قالوا : وأيضا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر[32] إضافي بحسب حال المعتقدين ، ليس هو وصفا للقول في نفسه ; فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنده ، وغيره لا يعرف ذلك لا قطعا ولا ظنا ، وقد يكون الإنسان ذكيا قوي الذهن سريع الإدراك علما وظنا [33] فيعرف من الحق ويقطع به ما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا ؛ فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة ، وبحسب قدرته على الاستدلال .

                  والناس يختلفون في هذا وهذا ، فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه ، حتى يقال : كل من خالفه قد خالف القطعي ، بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد ، وهذا مما يختلف فيه الناس . فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس .

                  ومنهم من فرق بفرق ثالث ، وقال : المسائل الأصولية هي المعلومة [ ص: 92 ] بالعقل ، فكل مسألة علمية [34] استقل العقل بدركها [35] ، فهي من مسائل الأصول التي يكفر أو يفسق مخالفها . والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع . قالوا : فالأول كمسائل الصفات والقدر ، والثاني كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار .

                  فيقال لهم : ما ذكرتموه بالضد أولى ; فإن الكفر والفسق [36] أحكام شرعية ، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل [37] . فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا ، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا ، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما ، والعدل من جعله الله ورسوله عدلا ، والمعصوم الدم من جعله الله ورسوله معصوم الدم ، والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنه سعيد في الآخرة ، والشقي فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنه شقي فيها ، والواجب من الصلاة والصيام والصدقة والحج ما أوجبه الله ورسوله ، والمستحقون لميراث الميت من جعلهم الله ورسوله وارثين ، والذي يقتل حدا أو قصاصا من جعله الله ورسوله [38] مباح الدم بذلك ، [ والمستحق للفيء والخمس من جعله الله ورسوله مستحقا لذلك ] [39] ، والمستحق للموالاة والمعاداة ( * من جعله الله [ ص: 93 ] ورسوله مستحقا للموالاة والمعاداة * ) [40] والحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله ، والدين ما شرعه الله ورسوله . فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية