ونحن نذكر قاعدة جامعة في هذا الباب لهم ولسائر الأمة فنقول : لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ، ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت ، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات [ فيتولد فساد عظيم ] [1] .
[ ص: 84 ] فنقول : الناس قد تكلموا في . ونحن نذكر أصولا جامعة نافعة . تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول
الأصل الأول : أنه هل يمكن كل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع ؟ وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق ، بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر ، ولم يكن هو الحق [2] في نفس الأمر : هل يستحق أن يعاقب أم لا ؟ .
هذا أصل هذه المسائل ، وللناس في هذا الأصل ثلاثة أقوال ; كل قول عليه طائفة من النظار .
الأول : قول من يقول : إن الله قد نصب على الحق في كل مسألة دليلا يعرف به ، يمكن كل من اجتهد واستفرغ وسعه أن يعرف الحق ، وكل من لم يعرف الحق في مسألة أصولية أو فروعية ، فإنما هو لتفريطه فيما يجب عليه ، لا لعجزه . وهذا القول هو المشهور عن القدرية والمعتزلة : وهو قول [3] طائفة من أهل الكلام غير هؤلاء .
ثم قال هؤلاء : أما المسائل العلمية فعليها أدلة قطعية تعرف بها ، فكل من لم يعرفها فإنه لم يستفرغ وسعه في طلب الحق فيأثم .
وأما المسائل العملية الشرعية فلهم فيها مذهبان : أحدهما : أنها كالعلمية ، وأنه على كل مسألة دليل قطعي ، من خالفه فهو آثم . وهؤلاء [ ص: 85 ] الذين يقولون : المصيب واحد في كل مسألة أصلية وفرعية ، وكل من سوى المصيب فهو آثم لأنه مخطئ ، والخطأ والإثم عندهم متلازمان . وهذا قول وكثير من بشر المريسي المعتزلة البغداديين .
الثاني : أن المسائل العملية [4] إن كان عليها دليل قطعي فإن من خالفه آثم مخطئ كالعلمية ، وإن لم يكن عليها دليل قطعي فليس لله فيها حكم في الباطن ، وحكم الله في حق كل مجتهد ما أداه اجتهاده إليه . وهؤلاء وافقوا الأولين في أن الخطأ والإثم متلازمان [5] ، وأن كل مخطئ آثم ، لكن خالفوهم في المسائل الاجتهادية ، فقالوا : ليس فيها قاطع .
والظن ليس عليه دليل عند هؤلاء ، وإنما هو من جنس ميل النفوس إلى شيء دون شيء . فجعلوا الاعتقادات الظنية من جنس الإرادات ، وادعوا أنه ليس في نفس الأمر [ حكم مطلوب بالاجتهاد ، ولا ثم في نفس الأمر ] [6] أمارة أرجح من أمارة .
وهذا القول قول أبي الهذيل العلاف ومن اتبعه كالجبائي وابنه ، وهو أحد قولي وأشهرهما ، وهو اختيار الأشعري ، القاضي أبي بكر الباقلاني ، وأبي حامد الغزالي ، ومن اتبعهم ، وقد بسطنا القول في ذلك بسطا كثيرا [ في غير هذا الموضع ] وأبي بكر بن العربي [7] .
[ ص: 86 ] والمخالفون لهم وغيره من كأبي إسحاق الإسفراييني الأشعرية ، وغيرهم ، يقولون : هذا القول أوله سفسطة وآخره زندقة . وهذا قول من يقول : إن كل مجتهد في المسائل الشرعية [8] الاجتهادية العملية فهو مصيب باطنا وظاهرا ، ولا يتصور [9] عندهم أن يكون مجتهدا مخطئا إلا بمعنى أنه خفي عليه بعض الأمور ، وذلك الذي خفي عليه ليس هو حكم الله لا في حقه ولا في حق أمثاله . وأما من كان مخطئا وهو المخطئ في المسائل القطعية فهو آثم عندهم .
والقول الثاني في أصل المسألة : إن المجتهد المستدل قد يمكنه أن يعرف الحق ، وقد يعجز [10] عن ذلك ، لكن إذا عجز عن ذلك فقد يعاقبه الله تعالى ، وقد لا يعاقبه ، فإن له أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء بلا سبب أصلا ، بل لمحض المشيئة وهذا قول الجهمية والأشعرية ، وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم .
ثم قال هؤلاء : قد علم بالسمع أن كل كافر فهو في النار ، فنحن نعلم أن كل كافر فإن الله يعذبه ، سواء كان قد اجتهد وعجز عن معرفة صحة دين الإسلام أو لم يجتهد . وأما المسلمون المختلفون فإن كان اختلافهم في الفروعيات ، فأكثرهم يقول : لا عذاب فيها ، وبعضهم يقول : لأن [11] الشارع عفا عن الخطأ فيها ، وعلم ذلك بإجماع السلف على أنه لا إثم على [ ص: 87 ] المخطئ فيها . وبعضهم يقول : لأن [12] الخطأ في الظنيات ممتنع ، كما تقدم ذكره عن بعض الجهمية والأشعرية . وأما القطعيات فأكثرهم يؤثم المخطئ فيها ، ويقول : إن السمع قد دل على ذلك . ومنهم من لا يؤثمه . والقول المحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري [13] هذا معناه أنه كان لا يؤثم : لا في الأصول ولا في الفروع . وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي على المخطئ من المجتهدين من هذه الأمة عبيد الله هذا القول .
وأما غير هؤلاء فيقول : هذا قول السلف وأئمة الفتوى ، كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم ، لا يؤثمون مجتهدا مخطئا لا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية ، كما ذكر ذلك عنهم وغيره . ولهذا كان ابن حزم أبو حنيفة وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء ، إلا والشافعي الخطابية [14] ، ويصححون الصلاة خلفهم . على المسلمين ، ولا يصلى خلفه . والكافر لا تقبل شهادته
وقالوا : هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين : إنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين ، لا في مسألة عملية ولا علمية .
قالوا : والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع [ ص: 88 ] من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم . وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه . ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره .
قالوا : والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة [15] في الإسلام ، لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع ، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة ، فهي باطلة عقلا ; فإن المفرقين [16] بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا [17] بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين ، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة .
فمنهم من قال : مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التي يطلب فيها العلم والاعتقاد فقط ، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل .
قالوا : وهذا فرق [18] باطل ; فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده ، مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش . وفي المسائل العلمية ما لا يأثم المتنازعون فيه ، كتنازع الصحابة : هل رأى محمد ربه ؟ وكتنازعهم في بعض النصوص هل قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ وما أراد بمعناه ؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات : هل هي من القرآن أم لا ؟ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن [ ص: 89 ] والسنة : هل أراد الله ورسوله كذا وكذا ؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلام : كمسألة الجوهر الفرد ، وتماثل الأجسام ، وبقاء الأعراض ، ونحو ذلك ; فليس في هذا تكفير ولا تفسيق .
قالوا : والمسائل العملية فيها علم وعمل ؛ فإذا كان الخطأ مغفورا فيها [19] ، فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورا .
ومنهم من قال : المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي ، والفرعية [20] ما ليس عليها دليل قطعي .
قال أولئك : وهذا الفرق خطأ أيضا ؛ فإن كثيرا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها ، وغيرهم لم يعرفها ، وفيها ما هو قطعي بالإجماع ، كتحريم المحرمات الظاهرة ، ووجوب الواجبات الظاهرة ، ثم لم يكفر حتى تقام عليه الحجة ، كما أن جماعة استحلوا شرب لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل [21] الخمر على عهد ، منهم عمر قدامة ، ورأوا أنها حلال لهم ، ولم يكفرهم الصحابة حتى بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا .
وقد كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر حتى يتبين [22] لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ولم يؤثمهم [23] النبي - صلى الله عليه وسلم - فضلا عن تكفيرهم ، وخطؤهم قطعي .
وكذلك ، وقد قتل الرجل المسلم ، وكان خطؤه قطعيا . أسامة بن زيد
[ ص: 90 ] وكذلك الذين وجدوا رجلا في غنم له ، فقال : إني مسلم ، فقتلوه وأخذوا ماله ، كان خطؤهم قطعيا . وكذلك لما قتل خالد بن الوليد بني جذيمة وأخذ [24] أموالهم كان مخطئا قطعا . وكذلك الذين تيمموا إلى الآباط . الذي تمعك في التراب للجنابة [ كما تمعك الدابة ، بل والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلوا ] وعمار [25] كانوا مخطئين قطعا .
وفي زماننا لو أسلم قوم في بعض الأطراف ، ولم يعلموا وجوب الحج ، أو لم يعلموا تحريم الخمر ، لم يحدوا على ذلك . وكذلك لو نشأوا بمكان جهل .
وقد زنت على عهد امرأة فلما أقرت به ، قال عمر عثمان [26] : إنها لتستهل به استهلال من لم يعلم [27] أنه حرام . فلما تبين للصحابة أنها لا تعرف التحريم لم يحدوها . واستحلال الزنا خطأ قطعا .
والرجل إذا ، فهو مخطئ قطعا ولا إثم عليه بالاتفاق ، وكذلك لا كفارة عليه عند الأكثرين . حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه
ومن اعتقد بقاء الفجر فأكل ، فهو مخطئ قطعا إذا تبين له الأكل بعد الفجر ، ولا إثم عليه ، وفي القضاء نزاع . وكذلك من اعتقد غروب الشمس ، فتبين بخلافه ، ومثل هذا كثير .
[ ص: 91 ] وقول الله تعالى في القرآن : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ سورة البقرة 286 ] قال الله تعالى : قد فعلت [28] . ولم يفرق بين الخطأ القطعي والظني [29] ، بل لا يجزم بأنه خطأ إلا إذا كان [30] أخطأ قطعا .
قالوا : فمن قال : إن المخطئ في مسألة قطعية أو ظنية [31] يأثم ، فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم . قالوا : وأيضا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر[32] إضافي بحسب حال المعتقدين ، ليس هو وصفا للقول في نفسه ; فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنده ، وغيره لا يعرف ذلك لا قطعا ولا ظنا ، وقد يكون الإنسان ذكيا قوي الذهن سريع الإدراك علما وظنا [33] فيعرف من الحق ويقطع به ما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا ؛ فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة ، وبحسب قدرته على الاستدلال .
والناس يختلفون في هذا وهذا ، فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه ، حتى يقال : كل من خالفه قد خالف القطعي ، بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد ، وهذا مما يختلف فيه الناس . فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس .
ومنهم من فرق بفرق ثالث ، وقال : المسائل الأصولية هي المعلومة [ ص: 92 ] بالعقل ، فكل مسألة علمية [34] استقل العقل بدركها [35] ، فهي من مسائل الأصول التي يكفر أو يفسق مخالفها . والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع . قالوا : فالأول كمسائل الصفات والقدر ، والثاني كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار .
فيقال لهم : ما ذكرتموه بالضد أولى ; فإن الكفر والفسق [36] أحكام شرعية ، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل [37] . فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا ، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا ، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما ، والعدل من جعله الله ورسوله عدلا ، والمعصوم الدم من جعله الله ورسوله معصوم الدم ، والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنه سعيد في الآخرة ، والشقي فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنه شقي فيها ، والواجب من الصلاة والصيام والصدقة والحج ما أوجبه ، والمستحقون لميراث الميت من جعلهم الله ورسوله وارثين ، والذي يقتل حدا أو قصاصا من جعله الله ورسوله الله ورسوله [38] مباح الدم بذلك ، [ والمستحق للفيء والخمس من جعله الله ورسوله مستحقا لذلك ] [39] ، والمستحق للموالاة والمعاداة ( * من جعله الله [ ص: 93 ] ورسوله مستحقا للموالاة والمعاداة * ) [40] والحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله ، والدين ما شرعه الله ورسوله . فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع .