الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 182 ] وبالجملة فما اختص به كل إمام من المحاسن والفضائل كثير ليس هذا موضع استقصائه ; فإن المقصود أن الحق دائما مع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثاره الصحيحة ، وإن كان كل [1] طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة ، لم يكن القول الذي انفردوا به [2] إلا خطأ ، بخلاف المضافين إليه أهل السنة والحديث ; فإن الصواب معهم دائما ، ومن وافقهم كان الصواب معه دائما لموافقته إياهم ، ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين ; فإن الحق مع الرسول ، فمن كان أعلم بسنته وأتبع لها كان الصواب معه .

                  وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله ، ولا يضافون إلا إليه ، وهم أعلم الناس بسنته وأتبع لها . وأكثر سلف الأمة كذلك ، لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين . والذين رفع الله قدرهم في الأمة هو بما أحيوه من سنته ونصرته . وهكذا سائر طوائف الأمة ، ، بل سائر طوائف الخلق ، كل حير معهم فيما جاءت به الرسل عن الله ، وما كان معهم من خطأ أو ذنب فليس من جهة الرسل .

                  ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا في مسألة باجتهادهم ، قال أحدهم : أقول فيها برأيي ; فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه . كما قال أبو بكر رضي الله عنه في الكلالة ، وكما قال ابن مسعود في المفوضة إذا مات عنها زوجها ، وكلاهما [3] أصاب فيما قاله برأيه ، لكن قال الحق ; فإن القول إذا كان [ ص: 183 ] صوابا فهو مما جاء به الرسول عن الله ، فهو من الله ، وإن كان خطأ فالله لم يبعث الرسول بخطأ ، فهو من نفسه ومن الشيطان ، لا من الله ورسوله .

                  والمقصود بالإضافة إليه [4] الإضافة إليه من جهة إلاهيته ، من جهة الأمر والشرع والدين ، وأنه يحبه ويرضاه ، ويثيب فاعله عليه . وأما من جهة الخلق ، فكل الأشياء منه . والناس لم يسألوا الصحابة عما من الله خلقا وتقديرا ، فقد علموا أن كل ما وقع فمنه . والعرب كانت في جاهليتها تقر بالقضاء والقدر . قال ابن قتيبة وغيره : ما زالت العرب في جاهليتها وإسلامها مقرة بالقدر [5] . وقد [6] قال عنترة :


                  يا عبل أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها

                  وإنما كان سؤال الناس عما من الله من جهة أمره ودينه وشرعه الذي يرضاه ويحبه ويثيب أهله .

                  وقد علم الصحابة أن ما خالف الشرع والدين فإنه يكون من النفس والشيطان ، وإن كان بقضاء الله وقدره ، وإن كان يعفي عن صاحبه ، كما يعفي عن النسيان والخطأ .

                  ونسيان الخير يكون من الشيطان كما قال تعالى : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ سورة الأنعام : 68 ] .

                  وقال فتى موسى - صلى الله عليه وسلم : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [ سورة الكهف : 63 ] وقال : فأنساه الشيطان ذكر ربه [ سورة يوسف : 42 ] .

                  [ ص: 184 ] ولما نام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الوادي عن الصلاة قال : " هذا واد حضرنا فيه الشيطان " [7] . وقال : " إن الشيطان أتى بلالا فجعل يهديه [8] كما يهدى الصبي حتى نام " [9] فإنه كان وكل بلالا أن يكلأ لهم الصبح [10] ، مع قوله : " ليس في النوم تفريط " [11] وقال : " إن الله قبض [ ص: 185 ] أرواحنا " [12] . [ وقال له بلال : " أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك " ] [13] وقال : " من نام عن صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " .

                  ومع قوله تعالى عن المؤمنين : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ سورة البقرة : 286 ] قال تعالى " قد فعلت " [14] .

                  وكذلك الخطأ في الاجتهاد من النفس والشيطان وإن كان مغفورا لصاحبه . وكذلك الاحتلام في المنام من الشيطان . وفي الصحيحين عنه أنه قال : " الرؤيا ثلاثة : رؤيا من الله ، ورؤيا من الشيطان ، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام " [15] . فالنائم يرى في منامه ما يكون من الشيطان ، وهو كما قال - صلى الله عليه وسلم : " رفع [ ص: 186 ] القلم عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يحتلم " [16] . وأعذرهم النائم ، ولهذا لم يكن لشيء من أقواله التي تسمع منه [17] في المنام حكم باتفاق العلماء ، فلو طلق أو أعتق أو تبرع أو غير ذلك في منامه كان لغوا ، بخلاف الصبي المميز ، فإن أقواله قد تعتبر ، إما بإذن الولي ، وإما بغير إذنه ، في مواضع بالنص ، وفي مواضع بالإجماع .

                  وكذلك الوسواس في النفس يكون من الشيطان تارة ومن النفس تارة . قال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه [ سورة ق : 16 ] . وقال : فوسوس إليه الشيطان [ سورة طه : 120 ] [18] ، وقال : فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما [ سورة الأعراف : 20 ] .

                  والوسوسة من جنس الوشوشة بالشين المعجمة [19] ، ومنه وسوسة [20] الحلى ، وهو الكلام الخفي والصوت الخفي .

                  [ ص: 187 ] وقد قال تعالى : قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس [ سورة الناس : 1 - 6 ] . وقد قيل إن المعنى : من الذي يوسوس في صدور الناس : من الجنة ومن الناس ، وأنه جعل الناس أولا تتناول الجنة والناس ، فسماهم ناسا ، كما سماهم رجالا . قاله الفراء .

                  وقيل : المعنى : من شر الموسوس في صدور الناس من الجن ، ومن شر الناس مطلقا . قاله الزجاج . ومن المفسرين كأبي الفرج بن الجوزي من لم يذكر غيرهما ، وكلاهما ضعيف . والصحيح أن المراد القول الثالث ، وهو أن [21] الاستعاذة من شر الموسوس من الجنة ومن الناس في صدور الناس ، فأمر بالاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن [22] .

                  كما قال تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون [ سورة الأنعام : 112 ] .

                  وفي حديث أبي ذر الطويل الذي رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه [ ص: 188 ] بطوله قال : " يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن " . فقال : يا رسول الله ، أو للإنس شياطين ؟ قال : " نعم ، شر من شياطين الجن " [23] .

                  وقد قال تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون [ سورة البقرة : 14 ] . والمنقول عن عامة المفسرين أن المراد شياطين الإنس ، وما علمت أحدا قال : إنهم شياطين الجن [24] . فعن ابن مسعود وابن عباس والحسن والسدي : أنهم رءوسهم [25] في الكفر . وعن أبي العالية ومجاهد : إخوانهم من المشركين . وعن الضحاك وابن السائب : كهنتهم [26] .

                  والآية تتناول هذا كله وغيره ، ولفظها يدل على أن المراد شياطين الإنس ، لأنه قال : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم [ سورة البقرة : 14 ] . ومعلوم أن شيطان [27] الجن معهم لما لقوا الذين آمنوا لا يحتاج أن يخلوا به [28] ، وشيطان الجن هو [ ص: 189 ] الذي أمرهم بالنفاق ولم يكن ظاهرا حتى يخلو [29] معهم ، ويقول : إنا معكم ، لا سيما إذا كانوا يظنون أنهم على حق .

                  كما قال تعالى : وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون [ سورة البقرة : 13 ] ، ولو علموا أن الذي يأمرهم [30] بذلك شيطان لم يرضوه .

                  وقد قال الخليل بن أحمد : كل متمرد عند العرب شيطان . وفي اشتقاقه قولان أصحهما أنه من شطن يشطن إذا بعد عن الخير ، والنون أصلية . قال أمية بن أبي الصلت في صفة سليمان عليه السلام :

                  أيما شاطن [31] عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأغلال [32] عكاه : أوثقه . وقال النابغة :

                  نأت بسعاد عنك نوى شطون     فبانت والفؤاد بها رهين

                  [33] ولهذا قرنت به [34] اللعنة ; فإن اللعنة هي البعد من الخير ، والشيطان بعيد من الخير ، فيكون وزنه : فيعالا ، وفيعال [35] نظير فعال ، وهو من صفات المبالغة ، مثل القيام والقوام ، فالقيام فيعال ، والقوام فعال ، ومثل العياذ والعواذ [36] . وفي قراءة عمر : الحي القيام .

                  [ ص: 190 ] فالشيطان المتصف بصفة ثابتة قوية في كثرة البعد عن الخير ، بخلاف من بعد عنه مرة وقرب منه أخرى ; فإنه لا يكون شيطانا . ومما يدل على ذلك قولهم : تشيطن يتشيطن شيطنة ، ولو كان من شاط يشيط لقيل : تشيط يتشيط . والذي قال : هو من شاط يشيط إذا احترق والتهب ، جعل النون زائدة وقال : وزنه فعلان . كما قال الشاعر :

                  وقد يشيط على أرماحنا البطل

                  [37] .

                  وهذا يصح في الاشتقاق الأكبر الذي يعتبر فيه الاتفاق في جنس الحروف ، كما يروى عن أبي جعفر أنه قال : العامة مشتق من العمى ، ما رضي الله أن يشبههم [38] بالأنعام حتى قال : بل هم أضل سبيلا وهذا كما يقال السرية مأخوذة من السر ، وهو النكاح . ولو جرت على القياس لقيل : سريرة [39] فإنها على وزن فعيلة [40] . ولكن العرب تعاقب بين الحرف المضاعف والمعتل ، كما يقولون : تقضى البازي وتقضض . قال الشاعر :

                  تقضي البازي إذا [41] البازي كسر

                  [42] ومنه قوله تعالى : فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه [ سورة البقرة : 259 ] ، وهذه الهاء تحتمل أن تكون أصلية فجزمت بلم ، ويكون من سانهت ، وتحتمل أن تكون هاء السكت ، كالهاء من كتابيه [ ص: 191 ] و " حسابيه " و " اقتده " و " ماليه " و " سلطانيه " . وأكثر القراء يثبتون الهاء وصلا ووقفا ، وحمزة والكسائي يحذفانها من الوصل هنا ومن " اقتده " فعلى قراءتهما يجب أن تكون هاء السكت ، فإن الأصلية لا تحذف ، فتكون لفظة : " لم يتسن " ، كما تقول : لم يتغن ، وتكون مأخوذة من قولهم : تسنى يتسنى . وعلى الاحتمال الآخر تكون من : تسنه يتسنه ، والمعنى واحد . قال ابن قتيبة : أي لم يتغير بمر السنين عليه . قال : واللفظ مأخوذ من السنه ، يقال [43] : سانهت النخلة إذا حملت عاما . وحالت عاما فذكر ابن قتيبة لغة من جعل الهاء أصلية ، وفيها لغتان : يقال : عاملته مسانهة ومساناة . ومن الشواهد لما ذكره ابن قتيبة قول الشاعر :


                  فليست بسنهاء ولا رجبية [44]     ولكن عرايا [45] في السنين الجوائح

                  [46] يمدح النخلة ، والمقصود مدح صاحبها بالجود ، فقال : إنه [47] يعريها لمن يأكل ثمرها ، لا يرجبها [48] لتخلية [49] ثمرها [50] ولا هي بسنهاء [51] .

                  والمفسرون من أهل اللغة يقولون في الآية : معناه : لم يتغير . وأما لغة من قال : إن أصله سنوة فهي مشهورة ، ولهذا يقال في جمعها : سنوات ، [ ص: 192 ] ويشابهه في الاشتقاق الأكبر الماء الآسن ، وهو المتغير المنتن ، ويشابهه في الاشتقاق الأصغر الحمأ المسنون ، فإنه من سن ، يقال : سننت الحجر على الحجر إذا حككته ، والذي يسيل بينهما [52] سنن [53] ، ولا يكون إلا منتنا [54] . وهذا أصح من قول من يقول : المسنون المصبوب على سنة الوجه ، أو المصبوب [55] المفرغ ، أي أبدع صورة الإنسان ; فإن هذا إنما كان بعد أن خلق من الحمأ [56] المسنون ، ونفس الحمأ لم يكن على صورة الإنسان ولا صورة وجه ، ولكن المراد المنتن .

                  فقوله : لم يتسنه بخلاف قوله : ماء غير آسن [ سورة محمد : 15 ] ، فإنه من قولهم : أسن يأسن ; فهذا من جنس الاشتقاق الأكبر ، لاشتراكهما في السين والنون والنون [57] الأخرى ، والهمزة والهاء متقاربتان فإنهما حرفا حلق ، وهذا باب واسع .

                  والمقصود أن اللفظين إذا اشتركا في أكثر الحروف وتفاوتا في بعضها ، قيل : أحدهما مشتق من الآخر ، وهو الاشتقاق الأكبر ، والأوسط أن يشتركا في الحروف لا في ترتيبها ، كقول الكوفيين : الاسم مشتق من السمة والاشتقاق الأصغر الخاص الاشتراك في الحروف وترتيبها وهو المشهور كقولك : علم يعلم فهو عالم .

                  [ ص: 193 ] وعلى هذا فالشيطان مشتق من شطن ، وعلى الاشتقاق الأكبر هو من باب [58] شاط يشيط ، لأنهما اشتركا في الشين والطاء . والنون والياء متقاربتان .

                  فهو سبحانه [59] أمر في سورة الناس بالاستعاذة من : شر الوسواس من الجنة والناس ، الذي يوسوس في صدور الناس . ويدخل في ذلك وسوسة نفس الإنسان له ، ووسوسة غيره له .

                  والقول في معنى الآية مبسوط في مصنف مفرد [60] .

                  والمقصود هنا أنه قد ثبت [61] في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة وابن عباس : " أن العبد إذا هم بخطيئة لم تكتب عليه ، فإن تركها لله كتبت له حسنة كاملة ، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة ، وأنه إذا [62] هم بحسنة كتبت له حسنة كاملة ، فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة " [63] .

                  [ ص: 194 ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [64] : " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به " [65] .

                  وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين ، فإذا قضي التأذين أقبل ، فإذا ثوب بالصلاة أدبر - يعني الإقامة - فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر [66] بين المرء ونفسه ، يقول : اذكر كذا ، اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر ، حتى يضل [67] الرجل إن يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين " [68] .

                  [ ص: 195 ] فقد أخبر أن هذا التذكير والوسواس من الشيطان ، وأنه ينسيه حتى لا يدري كم صلى ، وأمره بسجدتي السهو ، ولم يؤثمه بذلك . والوسواس الخفيف لا يبطل الصلاة باتفاق العلماء . وأما إذا كان هو الأغلب ، فقيل : عليه الإعادة ، وهو اختيار أبي عبد الله بن حامد . والصحيح الذي عليه الجمهور ، وهو المنصوص عن أحمد وغيره ، أنه لا إعادة عليه . فإن حديث أبي هريرة عام مطلق في كل وسواس ، ولم يأمر [69] بالإعادة ، لكن ينقص أجره بقدر ذلك .

                  قال ابن عباس : ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها . وفي السنن عن عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فخففها ، فقيل له في ذلك ، فقال : هل نقصت منها شيئا ؟ قالوا : لا . قال : فإني بدرت الوسواس ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا عشرها ، إلا تسعها ، إلا ثمنها ، حتى قال : إلا نصفها " [70] .

                  وهذا الحديث حجة على ابن حامد ; فإن أدنى ما ذكر نصفها ، وقد ذكر أنه يكتب له عشرها . وأداء الواجب له مقصودان : أحدهما : براءة الذمة ، بحيث يندفع عنه الذم والعقاب المستحق بالترك ، فهذا لا تجب معه الإعادة ، فإن الإعادة يبقى مقصودها حصول ثواب مجرد ، وهو شأن [ ص: 196 ] التطوعات ، لكن حصول الحسنات الماحية للسيئات [71] لا يكون إلا مع القبول الذي عليه الثواب ، فبقدر ما يكتب له من الثواب يكفر عنه به [72] من السيئات الماضية ، وما لا ثواب فيه لا يكفر وإن برئت به الذمة .

                  كما في الحديث المأثور : " رب صائم ليس حظه من صيامه إلا الجوع والعطش [73] ، ورب قائم حظه من قيامه السهر " [74] يقول : إنه تعب ولم يحصل له منفعة ، لكن برئت ذمته [75] ، فسلم من العقاب فكان على حاله لم يزدد بذلك خيرا .

                  والصوم إنما شرع لتحصيل التقوى ، كما قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات [ سورة البقرة : 183 - 184 ] .

                  وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " الصيام [76] جنة ، فإذا كان أحدكم [ ص: 197 ] صائما فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل : إني صائم " . وفيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره . قيل : يقول [77] في نفسه فلا يرد عليه . وقيل : يقول [78] بلسانه . وقيل : يفرق بين الفرض فيقول [79] بلسانه والنفل يقول في نفسه ; فإن صوم الفرض مشترك ، والنفل يخاف عليه من الرياء . والصحيح أنه يقول [80] بلسانه ، كما دل عليه الحديث ; فإن القول المطلق لا يكون إلا باللسان ، وأما ما [81] في النفس فمقيد ، كقوله : " عما حدثت به أنفسها " ثم قال : " ما لم تتكلم أو تعمل به " فالكلام المطلق إنما هو الكلام المسموع . وإذا قال بلسانه : إني [82] صائم بين عذره في إمساكه عن الرد ، وكان أزجر لمن بدأه بالعدوان .

                  وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " [83] . بين [84] [ ص: 198 ] - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى لم يحرم على الصائم الأكل لحاجته إلى ترك الطعام والشراب ، كما يحرم السيد على عبيده بعض ماله ، بل المقصود محبة الله تعالى ، وهو حصول التقوى ، فإذا لم يأت به فقد أتى بما ليس فيه محبة ورضا ، فلا يثاب عليه ، ولكن لا يعاقب [85] عقوبة التارك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية