، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح والحسنات المقبولة تكفر السيئات [1] : " " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر [2] ولو كفر الجميع بالخمس [3] لم يحتج إلى الجمعة ، لكن التكفير بالحسنات المقبولة . وغالب الناس لا يكتب له من الصلاة إلا بعضها ، فيكفر ذلك بقدره ، والباقي يحتاج إلى تكفير .
ولهذا جاء من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " [4] الفريضة ، ثم يصنع في سائر الأعمال [5] كذلك " أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله الصلاة ; فإن أكملت وإلا قيل : انظروا هل له من تطوع ؟ فإن كان له تطوع أكملت به [6] .
[ ص: 199 ] وتكميل الفرائض [7] بالتطوع مطلق ، فإنه يكون يوم القيامة يوم الجزاء ، فإنه إذا ترك بعض الواجبات استحق العقوبة ، فإذا كان له من جنسه [8] تطوع سد مسده فلا يعاقب ، وإن [9] كان ثوابه ناقصا وله تطوع سد مسده فكمل ثوابه . وهو في الدنيا يؤمر بأن يعيد حيث تمكن إعادة ما فعله [10] ناقصا من الواجبات [11] ، أو يجبره بما ينجبر به ، كسجدتي السهو في الصلاة ، وكالدم الجابر لما تركه من واجبات الحج ، ومثل صدقة الفطر التي فرضت طهرة للصائم من اللغو والرفث . وذلك لأنه إذا أمكنه [12] أن يأتي بالواجب كان ذلك عليه ، ولم يكن قد برئ من عهدته ، بل هو مطلوب به [13] . كما لو لم يفعله ، بخلاف ما إذا تعذر فعله يوم [14] الجزاء ; فإنه لم يبق هناك إلا الحسنات .
ولهذا كان جمهور العلماء على أن من ترك واجبا من واجبات الصلاة [ ص: 200 ] عمدا فعليه إعادة الصلاة ما دام يمكن فعلها ، وهو إعادتها في الوقت . هذا مذهب مالك والشافعي ، لكن وأحمد مالك يقولان : قد يجب فيها ما يسقط بالسهو ، ويكون سجود السهو عوضا عنه ، وسجود السهو واجب عندهما . وأما وأحمد فيقول : كل ما وجب بطلت الصلاة بتركه عمدا أو سهوا . وسجود السهو عنده الشافعي [15] ليس بواجب ; فإن ما صحت الصلاة مع السهو عنه [16] لم يكن واجبا ولا مبطلا . والأكثرون يوجبون سجود السهو ، كمالك وأبي حنيفة ، ويقولون : قد أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر يقتضي الإيجاب ، ويقولون : الزيادة في الصلاة لو فعلها عمدا بطلت الصلاة بالاتفاق ، مثل أن يزيد ركعة خامسة عمدا ، أو يسلم عمدا قبل إكمال الصلاة ، ثم إذا فعله سهوا سجد للسهو بالسنة والإجماع . وأحمد
فهذا سجود لما تصح الصلاة مع سهوة دون عمده . وكذلك ما نقصه منها ; فإن ، كسجود النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ترك التشهد الأول ، ولو فعل ذلك أحد عمدا بطلت صلاته عند السجود يكون للزيادة تارة وللنقص أخرى مالك . وأما وأحمد فيوجب ( * في الصلاة ما لا تبطل بتركه أبو حنيفة [17] لا [18] عمدا ولا سهوا ، ويقول : هو مسيء بتركه ، كالطمأنينة وقراءة الفاتحة .
[ ص: 201 ] وهذا مما نازعه فيه الأكثرون ، وقالوا : من ترك الواجب عمدا فعليه الإعادة الممكنة ، لأنه لم يفعل ما أمر به ، وهو قادر على فعله ، فلا يسقط عنه .
وقد أخرجا [19] في الصحيحين حديث المسيء في صلاته ، لما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم * ) [20] : " " وأمره بالصلاة التي فيها طمأنينة ارجع فصل ; فإنك لم تصل [21] ، فدل هذا الحديث الصحيح على أن من ترك الواجب لم يكن ما فعله صلاة ، بل يؤمر بالصلاة . والشارع - صلى الله عليه وسلم - [22] لا ينفي الاسم إلا لانتفاء بعض واجباته ، فقوله : " [23] لم تصل " لأنه ترك بعض واجباتها ولم تكن صلاته تامة مقامة الإقامة المأمور بها في قوله تعالى : فإنك فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ سورة النساء : 103 ] فقد أمر بإتمامها .
ولهذا لما أمر بإتمام الحج والعمرة بقوله : وأتموا الحج والعمرة لله [ ص: 202 ] [ سورة البقرة : 196 ] ألزم [24] الشارع فيهما فعل جميع الواجبات ، فإذا [25] ترك بعضها فلا بد من الجبران . فعلم أنه إن لم يأت [26] بالمأمور به تاما التمام الواجب [27] وإلا فعليه ما يمكن من إعادة أو جبران .
وكذلك أمر الذي رآه يصلي خلف الصف وحده أن يعيد . وقال : " " لا صلاة لفذ خلف الصف [28] . وقد صححه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم من علماء الحديث . وابن حزم
فإن قيل : ففي حديث المسيء الذي رواه أهل السنن من حديث [ ص: 203 ] رفاعة بن رافع أنه جعل ما تركه [29] من ذلك يؤاخذ بتركه [30] فقط ، ويحسب له ما فعل ، ولا يكون كمن لم يصل .
قيل : وكذلك نقول [31] : من فعلها وترك بعض واجباتها لم يكن بمنزلة من لم يأت بشيء منها ، بل يثاب على ما فعل ، ويعاقب على ما ترك ، وإنما يؤمر بالإعادة لدفع عقوبة ما ترك ، ، فإذا وترك الواجب سبب للعقاب [32] كان يعاقب على ترك البعض لزمه أن يفعلها ، فإن كان له جبران أو أمكن فعله وحده ، وإلا فعله مع غيره ، فإنه لا يمكن فعله مفردا .
فإن قيل : فإذا [33] لم يكن فعله مفردا طاعة لم يثب عليه أولا .
قيل : هو أولا فعله ولم يكن يعلم أنه لا يجوز ، أو كان ساهيا ، كالذي يصلي بلا وضوء ، أو يسهو عن القراءة والسجود المفروض ، فيثاب على ما فعل ، ولا يعاقب بنسيانه وخطئه ، لكن يؤمر بالإعادة ، لأنه لم يفعل ما أمر به أولا ، كالنائم إذا استيقظ في الوقت ، فإنه يؤمر بالصلاة لأنها واجبة عليه في وقتها إذا أمكن ، وإلا صلاها أي وقت ( * استيقظ ; فإنه حينئذ يؤمر بها . وأما إذا أمر بالإعادة ، فقد علم أنه لا يجوز فعل ذلك * ) [34] مفردا [35] ، فلا يؤمر به مفردا [36] .
[ ص: 204 ] فإن قيل : فلو تعمد أن يفعلها مع ترك الواجبات التي يعلم وجوبها .
قيل : هذا مستحق للعقاب ; فإنه عاص بهذا الفعل ، وهذا قد يكون إثمه كإثم التارك . وإن قدر أن هذا قد [37] يثاب ، فإنه لا يثاب عليه [38] ثواب من فعله مع غيره كما أمر به ، بل أكثر ما يقال : إن له عليه ثوابا بحسبه [39] ، لكن الذي يعرف أنه إذا لم يكن يعرف أن هذا واجب أو منهي عنه فإنه يثاب على ما فعله . قال الله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ سورة الزلزلة : 7 - 8 ] .
والقرآن وذكر الله ودعاؤه خير . وإلا فالمسلم لا يصلي إلى غير قبلة ، أو بغير وضوء أو ركوع أو سجود ، ومن فعل ذلك كان مستحقا للذم والعقاب . ومع هذا فقد يمكن إذا فعل ذلك مع ( * اعترافه بأنه مذنب لا على طريق [40] الاستهانة [41] والاستهزاء والاستخفاف ، بل على طريق الكسل ، أن يثاب على ما فعله ، كمن ترك واجبات الحج المجبورة بدم ، لكن لا يكون ثوابه كما إذا فعل ذلك مع * ) [42] غيره على الوجه المأمور به .
وبهذا يتبين الجواب عن شبهة أهل البدع من الخوارج والمرجئة وغيرهم ، ممن يقول : إن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل ولا ينقص . قالوا : لأنه إذا ذهب منه جزء ذهب كله ، لأن الشيء المركب من أجزاء [ ص: 205 ] متى [43] ذهب منه جزء ذهب كله ، كالصلاة إذا ترك منها واجبا بطلت . ومن هذا الأصل تشعبت بهم الطرق [44] .
وأما . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " الصحابة وأهل السنة والحديث فقالوا : إنه يزيد وينقص [45] خردل من إيمان يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة [46] .
[ ص: 206 ] وعلى هذا فنقول : إذا نقص شيء من واجباته فقد ذهب ذلك الكمال والتمام ، ويجوز نفي الاسم إذا أريد به نفي ذلك الكمال ، وعليه أن يأتي بذلك الجزء : إن كان ترك واجبا فعله ، أو كان ذنبا استغفر منه ، وبذلك يصير من المؤمنين المستحقين لثواب الله المحض الخالص عن العقاب . وأما إذا ترك واجبا منه أو فعل محرما ; فإنه يستحق العقاب على ذلك ، ويستحق الثواب على ما فعل . والمنفي إنما هو المجموع لا كل جزء من أجزائه ، كما إذا ذهب واحد من العشرة ، لم تبق العشرة عشرة ، لكن بقي أكثر أجزائها .