الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والحسنات المقبولة تكفر السيئات ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح [1] : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " [2] ولو كفر الجميع بالخمس [3] لم يحتج إلى الجمعة ، لكن التكفير بالحسنات المقبولة . وغالب الناس لا يكتب له من الصلاة إلا بعضها ، فيكفر ذلك بقدره ، والباقي يحتاج إلى تكفير .

                  ولهذا جاء من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله الصلاة ; فإن أكملت وإلا قيل : انظروا هل له من تطوع ؟ فإن كان له تطوع أكملت به [4] الفريضة ، ثم يصنع في سائر الأعمال [5] كذلك " [6] .

                  [ ص: 199 ] وتكميل الفرائض [7] بالتطوع مطلق ، فإنه يكون يوم القيامة يوم الجزاء ، فإنه إذا ترك بعض الواجبات استحق العقوبة ، فإذا كان له من جنسه [8] تطوع سد مسده فلا يعاقب ، وإن [9] كان ثوابه ناقصا وله تطوع سد مسده فكمل ثوابه . وهو في الدنيا يؤمر بأن يعيد حيث تمكن إعادة ما فعله [10] ناقصا من الواجبات [11] ، أو يجبره بما ينجبر به ، كسجدتي السهو في الصلاة ، وكالدم الجابر لما تركه من واجبات الحج ، ومثل صدقة الفطر التي فرضت طهرة للصائم من اللغو والرفث . وذلك لأنه إذا أمكنه [12] أن يأتي بالواجب كان ذلك عليه ، ولم يكن قد برئ من عهدته ، بل هو مطلوب به [13] . كما لو لم يفعله ، بخلاف ما إذا تعذر فعله يوم [14] الجزاء ; فإنه لم يبق هناك إلا الحسنات .

                  ولهذا كان جمهور العلماء على أن من ترك واجبا من واجبات الصلاة [ ص: 200 ] عمدا فعليه إعادة الصلاة ما دام يمكن فعلها ، وهو إعادتها في الوقت . هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد ، لكن مالك وأحمد يقولان : قد يجب فيها ما يسقط بالسهو ، ويكون سجود السهو عوضا عنه ، وسجود السهو واجب عندهما . وأما الشافعي فيقول : كل ما وجب بطلت الصلاة بتركه عمدا أو سهوا . وسجود السهو عنده [15] ليس بواجب ; فإن ما صحت الصلاة مع السهو عنه [16] لم يكن واجبا ولا مبطلا . والأكثرون يوجبون سجود السهو ، كمالك وأبي حنيفة وأحمد ، ويقولون : قد أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر يقتضي الإيجاب ، ويقولون : الزيادة في الصلاة لو فعلها عمدا بطلت الصلاة بالاتفاق ، مثل أن يزيد ركعة خامسة عمدا ، أو يسلم عمدا قبل إكمال الصلاة ، ثم إذا فعله سهوا سجد للسهو بالسنة والإجماع .

                  فهذا سجود لما تصح الصلاة مع سهوة دون عمده . وكذلك ما نقصه منها ; فإن السجود يكون للزيادة تارة وللنقص أخرى ، كسجود النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ترك التشهد الأول ، ولو فعل ذلك أحد عمدا بطلت صلاته عند مالك وأحمد . وأما أبو حنيفة فيوجب ( * في الصلاة ما لا تبطل بتركه [17] لا [18] عمدا ولا سهوا ، ويقول : هو مسيء بتركه ، كالطمأنينة وقراءة الفاتحة .

                  [ ص: 201 ] وهذا مما نازعه فيه الأكثرون ، وقالوا : من ترك الواجب عمدا فعليه الإعادة الممكنة ، لأنه لم يفعل ما أمر به ، وهو قادر على فعله ، فلا يسقط عنه .

                  وقد أخرجا [19] في الصحيحين حديث المسيء في صلاته ، لما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم * ) [20] : " ارجع فصل ; فإنك لم تصل " وأمره بالصلاة التي فيها طمأنينة [21] ، فدل هذا الحديث الصحيح على أن من ترك الواجب لم يكن ما فعله صلاة ، بل يؤمر بالصلاة . والشارع - صلى الله عليه وسلم - [22] لا ينفي الاسم إلا لانتفاء بعض واجباته ، فقوله : " فإنك [23] لم تصل " لأنه ترك بعض واجباتها ولم تكن صلاته تامة مقامة الإقامة المأمور بها في قوله تعالى : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ سورة النساء : 103 ] فقد أمر بإتمامها .

                  ولهذا لما أمر بإتمام الحج والعمرة بقوله : وأتموا الحج والعمرة لله [ ص: 202 ] [ سورة البقرة : 196 ] ألزم [24] الشارع فيهما فعل جميع الواجبات ، فإذا [25] ترك بعضها فلا بد من الجبران . فعلم أنه إن لم يأت [26] بالمأمور به تاما التمام الواجب [27] وإلا فعليه ما يمكن من إعادة أو جبران .

                  وكذلك أمر الذي رآه يصلي خلف الصف وحده أن يعيد . وقال : " لا صلاة لفذ خلف الصف " [28] . وقد صححه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن حزم وغيرهم من علماء الحديث .

                  فإن قيل : ففي حديث المسيء الذي رواه أهل السنن من حديث [ ص: 203 ] رفاعة بن رافع أنه جعل ما تركه [29] من ذلك يؤاخذ بتركه [30] فقط ، ويحسب له ما فعل ، ولا يكون كمن لم يصل .

                  قيل : وكذلك نقول [31] : من فعلها وترك بعض واجباتها لم يكن بمنزلة من لم يأت بشيء منها ، بل يثاب على ما فعل ، ويعاقب على ما ترك ، وإنما يؤمر بالإعادة لدفع عقوبة ما ترك ، وترك الواجب سبب للعقاب ، فإذا [32] كان يعاقب على ترك البعض لزمه أن يفعلها ، فإن كان له جبران أو أمكن فعله وحده ، وإلا فعله مع غيره ، فإنه لا يمكن فعله مفردا .

                  فإن قيل : فإذا [33] لم يكن فعله مفردا طاعة لم يثب عليه أولا .

                  قيل : هو أولا فعله ولم يكن يعلم أنه لا يجوز ، أو كان ساهيا ، كالذي يصلي بلا وضوء ، أو يسهو عن القراءة والسجود المفروض ، فيثاب على ما فعل ، ولا يعاقب بنسيانه وخطئه ، لكن يؤمر بالإعادة ، لأنه لم يفعل ما أمر به أولا ، كالنائم إذا استيقظ في الوقت ، فإنه يؤمر بالصلاة لأنها واجبة عليه في وقتها إذا أمكن ، وإلا صلاها أي وقت ( * استيقظ ; فإنه حينئذ يؤمر بها . وأما إذا أمر بالإعادة ، فقد علم أنه لا يجوز فعل ذلك * ) [34] مفردا [35] ، فلا يؤمر به مفردا [36] .

                  [ ص: 204 ] فإن قيل : فلو تعمد أن يفعلها مع ترك الواجبات التي يعلم وجوبها .

                  قيل : هذا مستحق للعقاب ; فإنه عاص بهذا الفعل ، وهذا قد يكون إثمه كإثم التارك . وإن قدر أن هذا قد [37] يثاب ، فإنه لا يثاب عليه [38] ثواب من فعله مع غيره كما أمر به ، بل أكثر ما يقال : إن له عليه ثوابا بحسبه [39] ، لكن الذي يعرف أنه إذا لم يكن يعرف أن هذا واجب أو منهي عنه فإنه يثاب على ما فعله . قال الله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ سورة الزلزلة : 7 - 8 ] .

                  والقرآن وذكر الله ودعاؤه خير . وإلا فالمسلم لا يصلي إلى غير قبلة ، أو بغير وضوء أو ركوع أو سجود ، ومن فعل ذلك كان مستحقا للذم والعقاب . ومع هذا فقد يمكن إذا فعل ذلك مع ( * اعترافه بأنه مذنب لا على طريق [40] الاستهانة [41] والاستهزاء والاستخفاف ، بل على طريق الكسل ، أن يثاب على ما فعله ، كمن ترك واجبات الحج المجبورة بدم ، لكن لا يكون ثوابه كما إذا فعل ذلك مع * ) [42] غيره على الوجه المأمور به .

                  وبهذا يتبين الجواب عن شبهة أهل البدع من الخوارج والمرجئة وغيرهم ، ممن يقول : إن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل ولا ينقص . قالوا : لأنه إذا ذهب منه جزء ذهب كله ، لأن الشيء المركب من أجزاء [ ص: 205 ] متى [43] ذهب منه جزء ذهب كله ، كالصلاة إذا ترك منها واجبا بطلت . ومن هذا الأصل تشعبت بهم الطرق [44] .

                  وأما الصحابة وأهل السنة والحديث فقالوا : إنه يزيد وينقص . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة [45] خردل من إيمان [46] .

                  [ ص: 206 ] وعلى هذا فنقول : إذا نقص شيء من واجباته فقد ذهب ذلك الكمال والتمام ، ويجوز نفي الاسم إذا أريد به نفي ذلك الكمال ، وعليه أن يأتي بذلك الجزء : إن كان ترك واجبا فعله ، أو كان ذنبا استغفر منه ، وبذلك يصير من المؤمنين المستحقين لثواب الله المحض الخالص عن العقاب . وأما إذا ترك واجبا منه أو فعل محرما ; فإنه يستحق العقاب على ذلك ، ويستحق الثواب على ما فعل . والمنفي إنما هو المجموع لا كل جزء من أجزائه ، كما إذا ذهب واحد من العشرة ، لم تبق العشرة عشرة ، لكن بقي أكثر أجزائها .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية