الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وكذلك جاءت السنة في سائر الأعمال كالصلاة وغيرها ، أنه يثاب على ما فعله [1] منها ويعاقب على الباقي ، حتى إنه [2] إن كان له تطوع جبر ما ترك بالتطوع ، ولو كان ما فعل باطلا وجوده كعدمه لا يثاب عليه لم يجبر بالنوافل شيء . وعلى ذلك دل حديث المسيء الذي في السنن [3] : أنه إذا نقص منها شيئا أثيب على ما فعله .

                  فإن قلت : فالفقهاء يطلقون أنه قد بطلت صلاته وصومه وحجه إذا ترك منه ركنا .

                  قيل : لأن الباطل في عرفهم ضد الصحيح ، والصحيح في عرفهم ما [ ص: 207 ] حصل به مقصوده وترتب عليه حكمه ، وهو براءة الذمة . ولهذا يقولون : الصحيح ما أسقط القضاء . فصار قولهم : بطلت ، بمعنى : وجب القضاء ، لا بمعنى : أنه لا يثاب عليها بشيء في الآخرة .

                  وهكذا جاء النفي في كلام الله ورسوله ، كقوله - صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " [4] ، وقوله : " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له " [5] .

                  وقوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ سورة الأنفال : 2 ] ، وقوله : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [ سورة الحجرات : 15 ] ; فإن نفي الإيمان عمن ترك واجبا منه أو فعل محرما [ ص: 208 ] فيه كنفي غيره ، كقوله : " لا صلاة إلا بأم القرآن " [6] . وقوله للمسيء : " ارجع فصل فإنك لم تصل " [7] . وقوله للمنفرد خلف الصف لما أمره بالإعادة : " لا صلاة لفذ خلف الصف " [8] وقوله : " من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له " [9] .

                  ومن قال من الفقهاء : إن هذا لنفي الكمال .

                  قيل له : إن أردت الكمال المستحب ; فهذا باطل لوجهين : أحدهما : أن هذا لا يوجد قط في لفظ الشارع : أنه ينفي عملا فعله العبد على الوجه الذي وجب عليه ، ثم ينفيه لترك بعض المستحبات . بل الشارع لا ينفي عملا إلا إذا لم يفعله العبد كما وجب عليه .

                  [ ص: 209 ] الثاني : أنه لو نفي بترك مستحب ، لكان عامة الناس لا صلاة لهم ولا صيام . فإن الكمال المستحب متفاوت ، ولا أحد يصلي كصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفكل من لم يكملها كتكميل الرسول يقال : لا صلاة له .

                  فإن قيل : فهؤلاء الذين يتركون فرضا من الصلاة أو غيرها يؤمرون بإعادة الصلاة ، والإيمان إذا ترك بعض فرائضه لا يؤمر بإعادته ؟ .

                  قيل : ليس الأمر بالإعادة مطلقا ، بل يؤمر بالممكن ; فإن أمكن الإعادة أعاد ، وإن لم يمكن أمر أن يفعل حسنات غير ذلك ، كما لو ترك الجمعة ; فإنه وإن أمر بالظهر فلا تسد مسد الجمعة ، بل الإثم الحاصل بترك الجمعة يزول جميعه بالظهر .

                  وكذلك من ترك واجبات الحج عمدا ; فإنه يؤمر بها ما دام يمكن فعلها في الوقت ، فإذا فات الوقت أمر بالدم الجابر ، ولم يكن ذلك مسقطا عنه إثم التفويت ( * مطلقا ، بل هذا الذي يمكنه من البدل ، وعليه أن يتوب توبة تغسل إثم التفويت * ) [10] ، كمن فعل محرما فعليه أن يتوب منه توبة تغسل إثمه ، ومن ذلك أن يأتي بحسنات تمحوه . وكذلك من فوت واجبا لا [11] يمكنه استدراكه ، وأما إذا أمكنه استدراكه فعله بنفسه .

                  وهكذا نقول [12] فيمن ترك بعض واجبات الإيمان ، بل كل مأمور تركه فقد ترك جزءا من إيمانه ، فيستدركه بحسب الإمكان ، فإن فات وقته تاب وفعل حسنات أخر غيره .

                  [ ص: 210 ] ولهذا كان الذي اتفق عليه العلماء أنه يمكن إعادة الصلاة في الوقت الخاص والمشترك [13] ، كما يصلي الظهر بعد دخول العصر ، ويؤخر [14] العصر إلى الاصفرار ; فهذا تصح صلاته وعليه إثم التأخير ، وهو من المذمومين في قوله تعالى : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [ سورة الماعون : 4 - 5 ] وقوله : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات [ سورة مريم : 59 ] ، فإن تأخيرها [15] عن الوقت الذي يجب فعلها فيه هو إضاعة لها وسهو عنها بلا نزاع أعلمه بين العلماء [16] . وقد جاءت الآثار بذلك عن الصحابة والتابعين .

                  وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها : " صلوا الصلاة لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة " [17] . وهم إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر ، والعصر [ ص: 211 ] إلى وقت الاصفرار . وذلك مما هم مذمومون عليه . ولكن ليسوا كمن تركها أو فوتها حتى غابت الشمس ; فإن هؤلاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ، ونهى عن قتال أولئك . فإنه لما ذكر أنه سيكون أمراء ويفعلون ويفعلون . قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : " لا ، ما صلوا " [18] وقد أخبر عن هذه الصلاة التي يؤخرونها وأمر أن تصلى في الوقت ، وتعاد معهم نافلة ; فدل على صحة صلاتهم ، ولو كانوا لم يصلوا لأمر بقتالهم .

                  وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر [19] " مع قوله أيضا في الحديث الصحيح [20] : " تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا " [21] .

                  [ ص: 212 ] وثبت عنه في الصحيحين [22] أنه قال : " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " [23] . وثبت عنه في الصحيحين [24] أنه قال : " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله " [25] . وقال أيضا : " إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها ، فمن حافظ عليها كان له الأجر مرتين " [26] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية