وكذلك جاءت السنة في سائر الأعمال كالصلاة وغيرها ، أنه يثاب على ما فعله [1] منها ويعاقب على الباقي ، حتى إنه [2] إن كان له تطوع جبر ما ترك بالتطوع ، ولو كان ما فعل باطلا وجوده كعدمه لا يثاب عليه لم يجبر بالنوافل شيء . وعلى ذلك دل حديث المسيء الذي في السنن [3] : أنه إذا نقص منها شيئا أثيب على ما فعله .
فإن قلت : فالفقهاء يطلقون أنه قد بطلت صلاته وصومه وحجه إذا ترك منه ركنا .
قيل : لأن الباطل في عرفهم ضد الصحيح ، والصحيح في عرفهم ما [ ص: 207 ] حصل به مقصوده وترتب عليه حكمه ، وهو براءة الذمة . ولهذا يقولون : . فصار قولهم : بطلت ، بمعنى : وجب القضاء ، لا بمعنى : أنه لا يثاب عليها بشيء في الآخرة . الصحيح ما أسقط القضاء
وهكذا جاء النفي في كلام الله ورسوله ، كقوله - صلى الله عليه وسلم : " " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن [4] ، وقوله : " " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له [5] .
وقوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ سورة الأنفال : 2 ] ، وقوله : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [ سورة الحجرات : 15 ] ; فإن نفي الإيمان عمن ترك واجبا منه أو فعل محرما [ ص: 208 ] فيه كنفي غيره ، كقوله : " " لا صلاة إلا بأم القرآن [6] . وقوله للمسيء : " " ارجع فصل فإنك لم تصل [7] . وقوله للمنفرد خلف الصف لما أمره بالإعادة : " " لا صلاة لفذ خلف الصف [8] وقوله : " " من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له [9] .
ومن قال من الفقهاء : إن هذا لنفي الكمال .
قيل له : إن أردت الكمال المستحب ; فهذا باطل لوجهين : أحدهما : أن هذا لا يوجد قط في لفظ الشارع : أنه ينفي عملا فعله العبد على الوجه الذي وجب عليه ، ثم ينفيه لترك بعض المستحبات . بل الشارع لا ينفي عملا إلا إذا لم يفعله العبد كما وجب عليه .
[ ص: 209 ] الثاني : أنه لو نفي بترك مستحب ، لكان عامة الناس لا صلاة لهم ولا صيام . فإن الكمال المستحب متفاوت ، ولا أحد يصلي كصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفكل من لم يكملها كتكميل الرسول يقال : لا صلاة له .
فإن قيل : فهؤلاء الذين يتركون فرضا من الصلاة أو غيرها يؤمرون بإعادة الصلاة ، والإيمان إذا ترك بعض فرائضه لا يؤمر بإعادته ؟ .
قيل : ليس الأمر بالإعادة مطلقا ، بل يؤمر بالممكن ; فإن أمكن الإعادة أعاد ، وإن لم يمكن أمر أن يفعل حسنات غير ذلك ، كما لو ترك الجمعة ; فإنه وإن أمر بالظهر فلا تسد مسد الجمعة ، بل الإثم الحاصل بترك الجمعة يزول جميعه بالظهر .
وكذلك ; فإنه يؤمر بها ما دام يمكن فعلها في الوقت ، فإذا فات الوقت أمر بالدم الجابر ، ولم يكن ذلك مسقطا عنه إثم التفويت ( * مطلقا ، بل هذا الذي يمكنه من البدل ، وعليه أن يتوب توبة تغسل إثم التفويت * ) من ترك واجبات الحج عمدا [10] ، كمن فعل محرما فعليه أن يتوب منه توبة تغسل إثمه ، ومن ذلك أن يأتي بحسنات تمحوه . وكذلك من فوت واجبا لا [11] يمكنه استدراكه ، وأما إذا أمكنه استدراكه فعله بنفسه .
وهكذا نقول [12] فيمن ترك بعض واجبات الإيمان ، بل كل مأمور تركه فقد ترك جزءا من إيمانه ، فيستدركه بحسب الإمكان ، فإن فات وقته تاب وفعل حسنات أخر غيره .
[ ص: 210 ] ولهذا كان الذي اتفق عليه العلماء أنه يمكن إعادة الصلاة في الوقت الخاص والمشترك [13] ، كما يصلي الظهر بعد دخول العصر ، ويؤخر [14] العصر إلى الاصفرار ; فهذا تصح صلاته وعليه إثم التأخير ، وهو من المذمومين في قوله تعالى : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [ سورة الماعون : 4 - 5 ] وقوله : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات [ سورة مريم : 59 ] ، فإن تأخيرها [15] عن الوقت الذي يجب فعلها فيه هو إضاعة لها وسهو عنها بلا نزاع أعلمه بين العلماء [16] . وقد جاءت الآثار بذلك عن الصحابة والتابعين .
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها : " " صلوا الصلاة لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة [17] . وهم إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر ، والعصر [ ص: 211 ] إلى وقت الاصفرار . وذلك مما هم مذمومون عليه . ولكن ليسوا كمن تركها أو فوتها حتى غابت الشمس ; فإن هؤلاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ، ونهى عن قتال أولئك . " فإنه لما ذكر أنه سيكون أمراء ويفعلون ويفعلون . قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : " لا ، ما صلوا [18] وقد أخبر عن هذه الصلاة التي يؤخرونها وأمر أن تصلى في الوقت ، وتعاد معهم نافلة ; فدل على صحة صلاتهم ، ولو كانوا لم يصلوا لأمر بقتالهم .
وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : " فقد أدرك العصر من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس [19] " مع قوله أيضا في الحديث الصحيح [20] : " " تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا [21] .
[ ص: 212 ] وثبت عنه في الصحيحين [22] أنه قال : " فكأنما وتر أهله وماله من فاتته صلاة العصر " [23] . وثبت عنه في الصحيحين [24] أنه قال : " " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله [25] . وقال أيضا : " " إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها ، فمن حافظ عليها كان له الأجر مرتين [26] .