وقد اتفق العلماء على ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها  " [1]  . فاتفقوا  [ ص: 213 ] على أن النائم يصلي إذا استيقظ  ، والناسي إذا ذكر  ، وعليه قضاء الفائتة  على الفور عند جمهورهم ،  كمالك   وأحمد بن حنبل   وأبي حنيفة  وغيرهم . وأما  الشافعي  فيجعل قضاء النائم والناسي على التراخي ، ومن [2] نسي بعض واجباتها فهو كمن نسيها ، فلو صلى ثم ذكر بعد خروج الوقت أنه كان على غير وضوء أعاد ، كما أعاد  عمر   وعثمان  وغيرهما لما صلوا بالناس ، ثم ذكروا بعد الصلاة أنهم كانوا جنبا فأعادوا ، ولم يأمروا المأمومين بالإعادة . 
وفي حديث  عمر  أنه لم يذكر إلا بعد طلوع الشمس [3]  . 
وكذلك إذا أخرها تأخيرا يرى أنه جائز . كما أخرها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب وصلاها بعد مغيب الشمس  [4] فإن ذلك التأخير إما أن يكون لنسيان منه ، أو لأنه كان جائزا إذا كانوا مشغولين بقتال العدو أن يؤخروا الصلاة . 
 [ ص: 214 ] والعلماء لهم في ذلك ثلاثة أقوال : قيل : يصلي حال القتال ولا يؤخر الصلاة [5] ، وتأخير الخندق منسوخ . وهذا مذهب  مالك   والشافعي   والإمام أحمد  في المشهور عنه . 
وقيل : يخير بين تقديمها وتأخيرها . لأن الصحابة لما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة  ، كانت طائفة منهم أخرت [6] الصلاة فصلوا بعد غروب الشمس ، وكانت منهم طائفة قالوا : لم يرد منا إلا المبادرة إلى العدو لا تفويت [7] الصلاة . فصلوا في الطريق ، فلم يعنف النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا من الطائفتين . 
والحديث في الصحيحين من حديث  ابن عمر  [8]  . وهذا قول طائفة من الشاميين وغيرهم ، وهو إحدى الروايتين عن  أحمد   . 
وقيل : بل يؤخرونها كما فعل يوم الخندق   . وهو مذهب  أبي حنيفة   . ففي الجملة كل من أخرها تأخيرا يعذر به إما لنسيان أو لخطأ في الاجتهاد فإنه يصليها بعد الوقت  ، كمن ظن أن الشمس لم تطلع فأخرها حتى طلعت ، أو ظن أن وقت العصر باق فأخرها حتى غربت فإن هذا يصلي . 
وعلى قول الأكثرين ما بقي تأخيرها جائزا حتى تغرب الشمس ، ومن قال : إنه يجوز التأخير فإنه يصليها ، ولو أخرها باجتهاده فإنه يصليها . 
وإن قيل : إنه أخطأ في اجتهاده [9] ، وليس هذا من أهل الوعيد  [ ص: 215 ] المذكور في قوله : " من ترك صلاة العصر فقد [10] حبط عمله  " [11] فإن هذا مجتهد متأول مخطئ . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان  " [12]  . وهو حديث حسن ، وقد دل عليه القرآن والحديث الصحيح [13]  . 
وأما من فوتها عمدا عالما بوجوبها ، أو فوت بعض واجباتها الذي يعلم وجوبه منها   ; فهذا مما تنازع فيه العلماء . فقيل في الجميع : يصح أن يصليها بعد التفويت ، ويجب ذلك عليه ، ويثاب على ما فعل ، ويعاقب على التفويت ، كمن أخر الظهر إلى وقت العصر ، والمغرب والعشاء إلى آخر الليل من غير عذر . 
وهذا قول  أبي حنيفة   والشافعي   وأحمد  يقولون [14]  : هو [15] في كل صلاة وجب [16] إعادتها في الوقت فيجب إعادتها بعد الوقت ، وأما  مالك  وغيره من أهل المدينة   فيفرقون بين ما يعاد في الوقت وما يعاد بعد خروج الوقت ، فما لم يكن فرضا بل واجبا - وهو الذي يسمونه سنة - أمروا بإعادة الصلاة إذا تركه في الوقت ، كمن صلى بالنجاسة . وأما ما كان فرضا ، كالركوع والسجود والطهارة ، فإنه بمنزلة من لم يصل ، فيعيد بعد الوقت . 
 [ ص: 216 ] وقد أنكر عليهم كثير من الناس التفريق بين الإعادة في الوقت وبعده . وصنف المزني  مصنفا رد فيه على  مالك  ثلاثين مسألة منها هذه . وقد رد على المزني  الشيخ أبو بكر الأبهري  [17] وصاحبه القاضي عبد الوهاب   . وعمدتهم أن الصلاة إن [18] فعلت كما أمر بها العبد فلا إعادة عليه في الوقت ولا بعده ، وإن لم تفعل كما أمر بها العبد فهي في ذمته ، فيعيدها في الوقت وبعده . وأهل المدينة   يقولون : فعلها في الوقت واجب ليس لأحد قط أن يؤخرها عن الوقت ، فإن كان الوقت أوكد مما ترك لم يعد بعد الوقت ، لأنه ما بقي بعد الوقت يمكنه تلافيها ; فإن الصلاة مع النجاسة أو عريانا خير من الصلاة بلا نجاسة بعد الوقت ، فلو أمرناه أن يعيدها بعد الوقت لكنا نأمره بأنقص مما صلى ، وهذا لا يأمر به الشارع ، وهذا بخلاف من ترك ركنا منها ، فذاك بمنزلة من لم يصل فيعيد بعد الوقت . 
وهذا الفرق مبني على أن الصلاة من واجباتها [19] ما هو ركن لا تتم إلا به ، ومنها ما هو واجب تتم بدونه [20] ، إما مع السهو وإما مطلقا . وهذا قول الجمهور ،  وأبو حنيفة  يوجب فيها ما لا يجب بتركه الإعادة بحال . فإذا  [ ص: 217 ] أوجب أهل المدينة   فيها ما يجب بتركه الإعادة في الوقت ، كان أقرب إلى الشرع .  وأحمد  مع  مالك  يوجبان فيها ما يسقط بالسهو ويجبر بالسجود ، ثم ذلك الواجب إذا تركه عمدا أمره  أحمد  في ظاهر مذهبه بالإعادة كما لو ترك فرضا ، وأما  مالك  ففي مذهبه قولان فيمن ترك ما يجب السجود لتركه سهوا ، كترك التشهد الأول ، وترك تكبيرتين فصاعدا ، أو قراءة [21] السورة والجهر والمخافتة في موضعهما . 
وقد اتفق الجميع على أن واجبات الحج منها ما يجبر الحج مع تركه ، ومنها ما يفوت الحج مع تركه فلا يجبر ، كالوقوف بعرفة ، فكذلك [22] الصلاة . 
وقالت طائفة ثالثة : ما أمر الله به في الوقت إذا ترك لغير عذر حتى فات وقته لم يمكن فعله بعد الوقت ، كالجمعة ، والوقوف بعرفة  ، ورمي الجمار ; فإن الفعل بعد الوقت عبادة لا تشرع إلا إذا شرعها الشارع ، فلا تكون مشروعة إلا بشرعه ، ولا واجبة إلا بأمره . وقد اتفق المسلمون على أن من فاته الوقوف بعرفة  لعذر أو لغيره [23] لا يقف بعرفة بعد طلوع الفجر ، وكذلك رمي الجمار لا ترمى بعد أيام منى  ، سواء فاتته [24] لعذر أو لغير عذر [25]  . كذلك الجمعة لا يقضيها الإنسان سواء فاتته بعذر أو بغير  [ ص: 218 ] عذر [26] ، وكذلك لو فوتها [27] أهل المصر كلهم لم يصلوها [28] يوم السبت . 
وأما الصلوات الخمس فقد ثبت أن المعذور يصليها إذا أمكنه ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك  " [29]  . وكذلك صوم رمضان أمر الله المسافر والمريض والحائض أن يصوموا [30] نظيره في أيام أخر . 
والوقت المشترك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء وقت [31] لجواز فعلهما [32] جميعا عند العذر ، وإن فعلتا لغير عذر ففاعلهما آثم ، لكن هذه قد فعلت في وقت هو وقتها في الجملة . 
وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة ، ونهى عن قتالهم ، مع ذمهم وظلمهم . وأولئك كانوا يؤخرون الظهر إلى العصر ، فجاءت طائفة من الشيعة  [33] فصاروا يجمعون بين الصلاتين في وقت الأولى دائما من غير عذر ، فدخل في الوقت المشترك من جواز الجمع للعذر ، من تأويل الولاة وتصحيح الصلاة مع إثم التفويت ، ما لم يدخل في التفويت المطلق ; كمن يفطر شهر رمضان عمدا ويقول : أنا أصوم في شوال ، أو يؤخر الظهر والعصر  [ ص: 219 ] عمدا ، ويقول : أصليهما بعد المغرب ، ويؤخر [34] المغرب والعشاء ويقول : أصليهما بعد الفجر ، أو يؤخر الفجر ويقول : أصليها بعد طلوع الشمس ، فهذا تفويت محض بلا عذر . 
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله  " ، وقال : " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله  " [35] ، فلو كان يمكنه الاستدراك لم يحبط عمله . وقوله : " وتر أهله وماله  " أي صار وترا لا أهل له ولا مال ، ولو كان فعلها ممكنا بالليل لم يكن موتورا . 
وقال : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك  " [36] فلو كان فعلها بعد المغرب صحيحا مطلقا ، لكان مدركا ، سواء أدرك ركعة أو لم يدرك ; فإنه لم يرد أن من أدرك ركعة صحت صلاته بلا إثم ، بل يأثم بتعمد ذلك ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، فإنه أمر بأن تصلى الصلاة لوقتها الذي حده ، وأن لا يؤخر العصر إلى ما بعد الاصفرار ، ففعلها قبل الاصفرار واجب بأمره ، وقوله : " صلوا الصلاة لوقتها  " [37]  . فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم عن غير المعذور ، بل يكون  [ ص: 220 ] قد صلاها مع الإثم ، فلو كانت أيضا تصلى بعد المغرب مع الإثم ، لم يكن فرق بين من يصليها عند الاصفرار أو يصليها بعد الغروب ، إلا أن يقال : ذاك أعظم إثما . ومعلوم أنه كلما أخرها كان أعظم إثما ، فحيث جاز القضاء مع وجوب التقديم كلما أخر القضاء كان أعظم لإثمه . 
ومن نام عن صلاة أو نسيها فعليه أن يصليها إذا ذكرها ; [ فإن ذلك وقتها ] [38]  . وإذا أخرها من غير عذر أثم ، كما يأثم من أخر الواجب على الفور ، ويصح فعلها بعد ذلك ، فلو كانت العصر بعد المغرب بهذه المنزلة ، لم يكن لتحديد وقتها بغروب الشمس ، وقوله : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس  " [39] فائدة ، بل كانت تكون كالواجب على الفور إذا أخره ، أو كانت تكون كالمغرب إذا أخرها إلى وقت العشاء . ومعلوم أن هذا قد يجوز ، بل يسن كما في ليلة المزدلفة  ، كما يسن تقديم العصر إلى وقت الظهر يوم عرفة  بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين . 
 [ ص: 221 ] وأما فعل العصر بعد المغرب [40] ، فلم يؤذن فيه قط لغير المعذور ، كما لم يؤذن في صلاة المغرب قبل غروب الشمس . قال هؤلاء : والصلاة في الوقت واجبة على أي حال بترك جميع الواجبات لأجل الوقت ، فإذا أمكنه أن يصلي في الوقت بالتيمم ، أو بلا قراءة ، أو بلا إتمام ركوع وسجود ، أو إلى غير القبلة ، أو يصلي عريانا ، أو كيفما أمكن وجب ذلك عليه ، ولم يكن له أن يصلي بعد الوقت مع تمام الأفعال . وهذا مما ثبت بالكتاب والسنة وعامته مجمع عليه .
فعلم أن الوقت مقدم على جميع الواجبات . وحينئذ فمن صلى في الوقت بلا قراءة ، أو عريانا متعمدا ، ونحو ذلك ، إذا أمر أن يصلي بعد الوقت بقراءة وسترة ، كان ما أمر به دون ما فعله . ولهذا إذا لم يمكن إلا أحدهما ، وجب أن يصلي في الوقت بلا قراءة ولا سترة ، ولا يؤخرها ويصلي بعد الوقت بقراءة وسترة . 
فعلم أن ذلك التفويت [41] ما بقي استدراكه ممكنا ، وأما المعذور فالله تعالى جعل الوقت في حقه متى أمكنه ، فمن نسي الصلاة أو بعض واجباتها صلاها متى ذكرها [42] ، وكان ذلك هو الوقت في حقه وإذا قيل : صلاته في الوقت كانت أكمل . 
قيل : نعم ، لكن تلك لم تجب عليه لعجزه بالنوم والنسيان ، وإنما وجب عليه أن يصلي إذا استيقظ وذكر ، كما نقول في الحائض إذا طهرت  [ ص: 222 ] في وقت العصر فهي حينئذ مأمورة بالظهر والعصر ، وتكون مصلية للظهر في وقتها أداء ، وكذلك إذا طهرت آخر الليل صلت المغرب والعشاء ، وكانت المغرب في حقها أداء كما أمرها بذلك أصحاب رسول الله [43]  - صلى الله عليه وسلم :  عبد الرحمن بن عوف  ،  وابن عباس  ،  وأبو هريرة  رضي الله عنهم ، ولم ينقل عن صحابي خلافه . 
وهذا يدل على أن هذا من السنة التي كان الصحابة يعرفونها ; فإن مثل هذا يقع على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة ، حيث جعل الله المواقيت ثلاثة في حق المعذور ، وهذه معذورة . وهذا مذهب  مالك   والشافعي   "  وأحمد بن حنبل  [44] ، وهو يدل على أن الوقت مشترك في حق المعذور ، فلا يحتاج أن ينوي الجمع ، كما هو قول الأكثرين :  أبي حنيفة   ومالك   والإمام أحمد  وقدماء أصحابه . 
لكن  الشافعي  ، وطائفة من أصحاب  أحمد  ، كالخرقي  ومن وافقه ، قالوا : تجب النية في القصر والجمع   . وجمهور العلماء على أنه لا تجب النية لا لهذا ولا لهذا . وهذا مذهب  مالك   وأبي حنيفة   وأحمد  وقدماء أصحابه [45] ، وهو الصواب ، كما بسط في غير هذا الموضع [46]  . 
وقضية [47] الحائض مما يبين أن فعل الصلاة في غير وقتها الذي أمر بها  [ ص: 223 ] فيه غير ممكن ; فإن ذلك لو كان ممكنا لكانت الحائض تؤمر بقضاء الصلاة أمر إيجاب أو أمر استحباب [48]  . 
فإذا قيل : يسقط القضاء عنها تخفيفا . 
قيل : فلو أرادت أن تصلي قضاء لتحصل [49] ثواب الصلاة التي فاتتها ، لم يكن هذا مشروعا باتفاق العلماء ، وكان لها أن تصلى من النوافل ما ; شاءت فإن تلك الصلاة لم تكن مأمورة بها في وقتها . والصلاة المكتوبة لا يمكن فعلها إلا في الوقت الذي أمر به العبد ، فلم يجز فعلها بعد ذلك . وكل من كان معذورا من نائم وناس ومخطئ ، فهؤلاء مأمورون بها في الوقت الثاني ، فلم يصلوا إلا في وقت الأمر ، كما أمرت الحائض والمسافر والمريض بقضاء رمضان ، وقيل في المتعمد لفطره : لا يجزيه صيام الدهر ولو صامه . 
قالوا : والناسي إنما أمر بالصلاة إذا ذكرها ، لم يؤمر بها قبل ذلك . وذلك هو الوقت في حقه ، فلم يصل إلا في وقتها ، وكذلك النائم إذا استيقظ إنما صلى في الوقت . 
قالوا : ولم يجوز الله لأحد أن يصلي الصلاة لغير وقتها ، ولا يقبلها منه في غير وقتها ألبتة . وكذلك شهر رمضان . وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر وإن صامه  " [50] قالوا : وإنما يقبل الله صيامه في غير الشهر من المعذور ،  [ ص: 224 ] كالمريض والمسافر والحائض ، ومن اشتبه عليه الشهر فتحرى فصام بعد ذلك ، فإنه يجزيه الصيام ، أما المعتمد للفطر فلا . 
قالوا : ولهذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي جامع أهله في رمضان بصوم ، بل أمره بالكفارة فقط . وقد جاء ذكر أمره بالقضاء في حديث ضعيف ضعفه العلماء :  أحمد بن حنبل  وغيره [51]  . وكذلك جاء في الذي يستقيء عمدا أنه يعيد ، وهذا لم يثبت رفعه ، وإنما ثبت أنه موقوف على  أبي هريرة   . وبتقدير صحته فيكون المراد به المعذور الذي اعتقد أنه يجوز له الاستقاء ، أو المريض الذي احتاج إلى أن يستقيء فاستقاء ; فإن الاستقاءة لا تكون في العادة إلا لعذر ، وإلا فلا يقصد العاقل أن يستقيء بلا حاجة [52] ، فيكون المستقيء متداويا بالاستقاءة ، كما يتداوى  [ ص: 225 ] بالأكل ، وهذا يقبل منه القضاء ويؤمر به . وهذا الحديث ثابت عن  أبي هريرة  ، وإنما اختلف في رفعه ، وبكل حال هذا معناه [53]  . 
فإن  أبا هريرة  هو الذي روى حديث الأعرابي ، وحديث : " من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر  " فتحمل أحاديثه على الاتفاق لا على الاختلاف . وهذا قول طائفة من السلف والخلف ، وهو قول أبي عبد الرحمن  صاحب  الشافعي  ، وهو قول [54] داود بن علي  ،  وابن حزم  [55] ، وغيرهم . 
قالوا : والمنازعون لنا ليس لهم قط حجة يرد إليها عند التنازع ، وأكثرهم يقولون : لا يجب القضاء إلا بأمر ثان ، وليس معهم هنا أمر . 
ونحن لا ننازع في وجوب القضاء فقط ، بل ننازع في قبول القضاء منه وصحة الصلاة في غير وقتها ، فنقول : الصلوات الخمس في غير وقتها المختص والمشترك ، المضيق والموسع ، كالجمعة في غير وقتها ، وكالحج في غير وقته ، وكرمي الجمار في غير وقتها . والوقت صفة للفعل ، وهو من آكد واجباته ، فكيف تقبل العبادة بدون صفاتها [56] الواجبة فيها ؟ . 
 [ ص: 226 ] وهو لو صلى إلى غير القبلة بغير عذر لم تكن صلاته إلا باطلة ، وكذلك إذا صلى قبل الوقت المشترك لغير عذر ، مثل أن يصلي الظهر قبل الزوال ، والمغرب قبل المغيب ، ولو فعل ذلك متأولا ، مثل الأسير إذا ظن دخول شهر رمضان فصام ، ومثل المسافر في يوم الغيم وغيرهما إذا اجتهدوا فصلوا الظهر : قبل الزوال أو المغرب قبل الغروب ; فهؤلاء في وجوب الإعادة عليهم قولان معروفان للعلماء . والنزاع في ذلك في مذهب  مالك   والشافعي   . والمعروف من مذهب  أحمد  أنه لا يجزئهم ، ولو فعلوا ذلك في الوقت المشترك ، كصلاة العصر في وقت الظهر ، والعشاء قبل مغيب الشفق ، فقياس الصحيح من مذهب  أحمد  أن ذلك يجزئ ، فإنه جمع لعذر وهو لا يشترط النية ، وقد نص على أن المسافر إذا صلى العشاء قبل مغيب الشفق أجزأه لجواز الجمع له ، وإن كان لم يصلها مع المغرب ، ولهذا يستحب له مع أمثاله تأخير الظهر وتقديم العصر ، وتأخير المغرب وتقديم العشاء ، كما نقل عن السلف . فدل على أن الثانية إذا فعلت هنا قبل الوقت الخاص أجزأته . 
قالوا : فالنزاع في صحة مثل هذه الصلاة ، كالنزاع في رمي الجمار [ لا يفعل بعد الوقت ] [57]  . 
قال لهم الأولون : ما قستم عليه من الجمعة والحج ورمي الجمار لا يفعل بعد الوقت المحدود في الشرع بحال ، لا لمعذور ولا لغير معذور [58]  . فعلم أن هذه الأفعال مختصة بزمان كما هي مختصة بمكان . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					