ولهذا قال بعض الشيوخ - وهو أبو عمرو بن نجيد [2] - : " كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل " ، وقال سهل [3] : " كل عمل بلا اقتداء فهو عيش النفس ، وكل عمل باقتداء فهو عذاب على النفس " . وقال أبو عثمان النيسابوري [4] : " من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق [ ص: 332 ] بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه [ قولا وفعلا ] [5] نطق بالبدعة ; لأن الله تعالى يقول وإن تطيعوه تهتدوا ) [ سورة النور : 54 ] " . وقال بعضهم : " " . ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه
وهو كما قالوا ، فإنه إذا لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول كان يعمل بإرادة نفسه ، فيكون متبعا لهواه بغير هدى من الله ، وهذا عيش النفس ، وهو من الكبر ، فإنه شعبة [6] من قول الذين قالوا : ( لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) [ سورة الأنعام : 124 ] .
، من غير اتباع لطريقهم وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياضته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء[7] ، وفيهم طوائف يظنون أنهم صاروا أفضل من الأنبياء ، وأن [8] الذي يظنون هم أنه الولي أفضل من الأنبياء ، وفيهم الولي [9] من يقول : إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء ، ويدعي في نفسه أنه خاتم الأولياء ، ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون : إن هذا [ ص: 333 ] الوجود المشهود واجب بنفسه ، ليس له صانع مباين له . لكن هذا يقول : هو الله [10] ، وفرعون أظهر الإنكار بالكلية ، لكن كان فرعون في الباطن أعرف منهم ، فإن كان مثبتا للصانع . وهؤلاء [11] أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق ، كما يقول ذلك ظنوا وأمثاله من ابن عربي الاتحادية [12] .
والمقصود ذكر من عدل عن العبادات التي شرعها الرسول ، إلى عبادات بإرادته وذوقه ووجده ومحبته وهواه ، وأنهم صاروا في أنواع من الضلال ، [ من جنس ضلال ] [13] النصارى . ففيهم ، ويدعي ما هو أفضل من النبوة ، ومنهم من يدعي إسقاط وساطة الأنبياء ، والوصول إلى الله بغير طريقهم : إما لنفسه ، وإما لشيخه ، وإما لطائفته الواصلين من يدعي الاتحاد والحلول الخاص [14] ، إلى حقيقة التوحيد بزعمه [15] .
وهذا قول النصارى ، والنصارى موصوفون بالغلو وكذلك هؤلاء [ ص: 334 ] مبتدعة العباد الغلو فيهم وفي الرافضة ، ولهذا يوجد في هذين الصنفين كثير ممن يدعي إما لنفسه وإما لشيخه [ الإلهية ] [16] ، كما يدعيه كثير من الإسماعيلية [17] لأئمتهم بني عبيد ، وكما يدعيه كثير من الغالية : إما للاثنى عشر ، وإما لغيرهم من أهل البيت ومن غير أهل البيت ، كما تدعيه النصيرية وغيرهم .
وكذلك في جنس المبتدعة الخارجين عن الكتاب والسنة من أهل التعبد [ والتأله ] [18] والتصوف ، منهم طوائف من الغلاة يدعون الإلهية ، ودعوى ما هو فوق النبوة ، وإن كان متفلسفا يجوز وجود نبي بعد محمد ، المقتول في الزندقة كالسهروردي [19] ، وابن سبعين [20] ، وغيرهما ، صاروا [ ص: 335 ] يطلبون النبوة [21] ، بخلاف من أقر بما جاء به الشرع ، ورأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره ; فإنه يقول : النبوة ختمت ، لكن الولاية لم تختم . ويدعي من [22] الولاية ما هو أعظم من النبوة ، وما يكون للأنبياء والمرسلين ، وأن الأنبياء يستفيدون منها .
ومن هؤلاء من ، وهم في يقول بالحلول والاتحاد [23] الحلول والاتحاد نوعان [24] : نوع يقول بالحلول والاتحاد العام المطلق ، وأمثاله ، كابن عربي ، كما قال ويقولون في النبوة : إن الولاية أعظم منها : [ ص: 336 ] ابن عربي
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
[25]وقال في " الفصوص " ابن عربي [26] : " وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأنبياء ، وما يراه أحد من الأنبياء إلا من مشكاة خاتم الأنبياء [27] ، وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء [28] ، [ حتى إن الرسل إذا رأوه لا يرونه - [ إذا رأوه ] [29] - إلا من مشكاة خاتم الأولياء ] [30] ، فإن الرسالة والنبوة - أعني رسالة التشريع ونبوته [31] - تنقطعان ، وأما الولاية فلا تنقطع أبدا [32] . فالمرسلون ، من كونهم أولياء ، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء [33] ، فكيف بمن [34] دونهم من الأولياء ؟ وإن كان [ ص: 337 ] خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع ، فذلك لا يقدح في مقامه ، ولا يناقض ما ذهبنا إليه ، فإنه من وجه يكون أنزل ، ومن وجه [35] يكون أعلى " .
قال [36] : " ولما مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - [ النبوة ] [37] بالحائط من اللبن ، فرآها قد كملت إلا موضع لبنة [38] ، فكان هو - صلى الله عليه وسلم - موضع اللبنة ، وأما خاتم [39] الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا ، فيرى ما مثله النبي - صلى الله عليه وسلم - [40] ، ويرى نفسه في الحائط موضع لبنتين ، ويرى نفسه [41] تنطبع [ في ] [42] موضع [ تينك ] [43] اللبنتين ، فيكمل الحائط [44] ، والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أن الحائط لبنة من ذهب [ ص: 338 ] ولبنة من فضة ، واللبنة الفضة هي ظاهره [45] وما يتبعه فيه من الأحكام ، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة [46] الظاهرة متبع فيه ; لأنه يرى الأمر على ما هو عليه ، فلا بد أن يراه هكذا ، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن ، فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى [ به ] [47] إلى الرسول " .
قال [48] : فإن فهمت ما أشرنا إليه [49] ، فقد حصل لك العلم النافع [50] " .
قلت : وقد بسطنا الرد على هؤلاء في مواضع ، وبينا كشف ما هم عليه من الضلال والخيال ، والنفاق والزندقة .
وأما ، فهؤلاء منهم من يصرح بذلك . الذين يقولون بالاتحاد الخاص
وأما من كان عنده علم بالنصوص [ الظاهرة ] [51] ، ورأى أن هذا يناقض ما عليه المسلمون في الظاهر ، فإنه يجعل هذا مما يشار إليه ويرمز به ، ولا يباح به . ثم إن كان معظما للرسول والقرآن [ ظن أن الرسول ] [52] كان يقول بذلك ، لكنه لم يبح به ; لأنه مما لا يمكن البشر أن يبوحوا به ، وإن كان [ ص: 339 ] غير معظم للرسول ، زعم أنه تعدى حد الرسول ، وهذا الضلال حدث قديما من جهال العباد .
ولهذا كان العارفون ، كالجنيد بن محمد : سيد الطائفة [53] - قدس الله روحه - [54] لما سئل عن التوحيد قال : " التوحيد إفراد الحدوث عن القدم " [55] فإنه كان عارفا ، ورأى أقواما ينتهي بهم الأمر إلى الاتحاد ، فلا يميزون بين القديم والمحدث ، وكان أيضا [ طائفة ] [56] من أصحابه وقعوا في الفناء في توحيد الربوبية ، الذي لا يميز فيه بين المأمور والمحظور ، فدعاهم إلى الفرق الثاني ، وهو توحيد الإلهية ، الذي يميز فيه بين المأمور والمحظور ، فمنهم من وافقه ، ومنهم من خالفه ، ومنهم لم يفهم كلامه . الجنيد
وقد ذكر بعض ما جرى من ذلك أبو سعيد الأعرابي في " طبقات [ ص: 340 ] النساك " [57] وكان من أصحاب ، ومن شيوخ الجنيد [58] أبي طالب المكي ، [ كان ] [59] من أهل العلم بالحديث وغيره ، ومن أهل المعرفة بأخبار الزهاد وأهل الحقائق .
وهذا الذي ذكره من الفرق بين القديم والمحدث ، والفرق بين المأمور والمحظور ، بهما يزول ما وقع فيه كثير من الجنيد الصوفية من هذا الضلال . ولهذا كان الضلال منهم يذمون على ذلك ، الجنيد وأمثاله ، فإن له كتابا سماه " الإسرا إلى المقام الأسرى " كابن عربي [60] مضمونه حديث نفس ووساوس [61] شيطان حصلت في نفسه ، جعل ذلك معراجا كمعراج الأنبياء [62] ، وأخذ يعيب على وعلى غيره من الشيوخ ما ذكروه ، وعاب على الجنيد قوله : " التوحيد إفراد الحدوث عن القدم " وقال : قلت له : يا الجنيد جنيد ، ما يميز بين الشيئين إلا من كان خارجا عنهما ، وأنت إما [ ص: 341 ] قديم أو محدث ، فكيف تميز ؟ " [63] .
وهذا جهل منه ، فإن المميز بين الشيئين هو الذي يعرف أن هذا غير هذا ، ليس من شرطه أن يكون ثالثا ، بل كل إنسان يميز بين نفسه وبين غيره وليس هو ثالثا ، والرب سبحانه يميز نفسه وبين غيره ، وليس هناك ثالث .
وهذا الذي ذمه - رحمه الله - ، وأمثاله من الشيوخ العارفين ، وقع فيه خلق كثير ، حتى من أهل العلم بالقرآن وتفسيره والحديث والآثار ، ومن المعظمين لله ورسوله باطنا وظاهرا ، المحبين لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذابين عنها - وقعوا في هذا غلطا لا تعمدا ، وهم يحسبون أن هذا نهاية التوحيد . كما ذكر ذلك صاحب " منازل السائرين " [ ص: 342 ] مع علمه وسنته ، ومعرفته ودينه الجنيد [64] .
وقد ذكر في كتابه " منازل السائرين " أشياء حسنة نافعة ، وأشياء باطلة . ولكن هو فيه ينتهي إلى الفناء في توحيد الربوبية ، ثم إلى التوحيد الذي هو حقيقة الاتحاد . ولهذا قال [65] : " باب التوحيد : قال الله تعالى : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) [ سورة آل عمران : 18 ] التوحيد : تنزيه الله عن الحدث [66] .
قال [67] : وإنما نطق العلماء بما نطقوا به ، وأشار المحققون [68] إلى ما أشاروا إليه [69] في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد ، وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل " .
[ ص: 343 ]