الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 331 ] ولهذا كان مشايخ الصوفية العارفون أهل الاستقامة يوصون كثيرا بمتابعة العلم ومتابعة الشرع ; لأن كثيرا منهم سلكوا في العبادة لله مجرد [1] محبة النفس وإراداتها وهواها ، من غير اعتصام بالعلم الذي جاء به الكتاب والسنة ، فضلوا بسبب ذلك ضلالا يشبه ضلال النصارى .

                  ولهذا قال بعض الشيوخ - وهو أبو عمرو بن نجيد [2] - : " كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل " ، وقال سهل [3] : " كل عمل بلا اقتداء فهو عيش النفس ، وكل عمل باقتداء فهو عذاب على النفس " . وقال أبو عثمان النيسابوري [4] : " من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق [ ص: 332 ] بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه [ قولا وفعلا ] [5] نطق بالبدعة ; لأن الله تعالى يقول وإن تطيعوه تهتدوا ) [ سورة النور : 54 ] " . وقال بعضهم : " ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه " .

                  وهو كما قالوا ، فإنه إذا لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول كان يعمل بإرادة نفسه ، فيكون متبعا لهواه بغير هدى من الله ، وهذا عيش النفس ، وهو من الكبر ، فإنه شعبة [6] من قول الذين قالوا : ( لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) [ سورة الأنعام : 124 ] .

                  وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياضته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء، من غير اتباع لطريقهم [7] ، وفيهم طوائف يظنون أنهم صاروا أفضل من الأنبياء ، وأن الولي [8] الذي يظنون هم أنه الولي أفضل من الأنبياء ، وفيهم [9] من يقول : إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء ، ويدعي في نفسه أنه خاتم الأولياء ، ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون : إن هذا [ ص: 333 ] الوجود المشهود واجب بنفسه ، ليس له صانع مباين له . لكن هذا يقول : هو الله [10] ، وفرعون أظهر الإنكار بالكلية ، لكن كان فرعون في الباطن أعرف منهم ، فإن كان مثبتا للصانع . وهؤلاء ظنوا [11] أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق ، كما يقول ذلك ابن عربي وأمثاله من الاتحادية [12] .

                  والمقصود ذكر من عدل عن العبادات التي شرعها الرسول ، إلى عبادات بإرادته وذوقه ووجده ومحبته وهواه ، وأنهم صاروا في أنواع من الضلال ، [ من جنس ضلال ] [13] النصارى . ففيهم من يدعي إسقاط وساطة الأنبياء ، والوصول إلى الله بغير طريقهم ، ويدعي ما هو أفضل من النبوة ، ومنهم من يدعي الاتحاد والحلول الخاص : إما لنفسه ، وإما لشيخه ، وإما لطائفته الواصلين [14] ، إلى حقيقة التوحيد بزعمه [15] .

                  وهذا قول النصارى ، والنصارى موصوفون بالغلو وكذلك هؤلاء [ ص: 334 ] مبتدعة العباد الغلو فيهم وفي الرافضة ، ولهذا يوجد في هذين الصنفين كثير ممن يدعي إما لنفسه وإما لشيخه [ الإلهية ] [16] ، كما يدعيه كثير من الإسماعيلية [17] لأئمتهم بني عبيد ، وكما يدعيه كثير من الغالية : إما للاثنى عشر ، وإما لغيرهم من أهل البيت ومن غير أهل البيت ، كما تدعيه النصيرية وغيرهم .

                  وكذلك في جنس المبتدعة الخارجين عن الكتاب والسنة من أهل التعبد [ والتأله ] [18] والتصوف ، منهم طوائف من الغلاة يدعون الإلهية ، ودعوى ما هو فوق النبوة ، وإن كان متفلسفا يجوز وجود نبي بعد محمد ، كالسهروردي المقتول في الزندقة [19] ، وابن سبعين [20] ، وغيرهما ، صاروا [ ص: 335 ] يطلبون النبوة [21] ، بخلاف من أقر بما جاء به الشرع ، ورأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره ; فإنه يقول : النبوة ختمت ، لكن الولاية لم تختم . ويدعي من [22] الولاية ما هو أعظم من النبوة ، وما يكون للأنبياء والمرسلين ، وأن الأنبياء يستفيدون منها .

                  ومن هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد ، وهم في [23] الحلول والاتحاد نوعان [24] : نوع يقول بالحلول والاتحاد العام المطلق ، كابن عربي وأمثاله ، ويقولون في النبوة : إن الولاية أعظم منها ، كما قال ابن عربي : [ ص: 336 ]

                  مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

                  [25]

                  وقال ابن عربي في " الفصوص " [26] : " وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأنبياء ، وما يراه أحد من الأنبياء إلا من مشكاة خاتم الأنبياء [27] ، وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء [28] ، [ حتى إن الرسل إذا رأوه لا يرونه - [ إذا رأوه ] [29] - إلا من مشكاة خاتم الأولياء ] [30] ، فإن الرسالة والنبوة - أعني رسالة التشريع ونبوته [31] - تنقطعان ، وأما الولاية فلا تنقطع أبدا [32] . فالمرسلون ، من كونهم أولياء ، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء [33] ، فكيف بمن [34] دونهم من الأولياء ؟ وإن كان [ ص: 337 ] خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع ، فذلك لا يقدح في مقامه ، ولا يناقض ما ذهبنا إليه ، فإنه من وجه يكون أنزل ، ومن وجه [35] يكون أعلى " .

                  قال [36] : " ولما مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - [ النبوة ] [37] بالحائط من اللبن ، فرآها قد كملت إلا موضع لبنة [38] ، فكان هو - صلى الله عليه وسلم - موضع اللبنة ، وأما خاتم [39] الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا ، فيرى ما مثله النبي - صلى الله عليه وسلم - [40] ، ويرى نفسه في الحائط موضع لبنتين ، ويرى نفسه [41] تنطبع [ في ] [42] موضع [ تينك ] [43] اللبنتين ، فيكمل الحائط [44] ، والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أن الحائط لبنة من ذهب [ ص: 338 ] ولبنة من فضة ، واللبنة الفضة هي ظاهره [45] وما يتبعه فيه من الأحكام ، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة [46] الظاهرة متبع فيه ; لأنه يرى الأمر على ما هو عليه ، فلا بد أن يراه هكذا ، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن ، فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى [ به ] [47] إلى الرسول " .

                  قال [48] : فإن فهمت ما أشرنا إليه [49] ، فقد حصل لك العلم النافع [50] " .

                  قلت : وقد بسطنا الرد على هؤلاء في مواضع ، وبينا كشف ما هم عليه من الضلال والخيال ، والنفاق والزندقة .

                  وأما الذين يقولون بالاتحاد الخاص ، فهؤلاء منهم من يصرح بذلك .

                  وأما من كان عنده علم بالنصوص [ الظاهرة ] [51] ، ورأى أن هذا يناقض ما عليه المسلمون في الظاهر ، فإنه يجعل هذا مما يشار إليه ويرمز به ، ولا يباح به . ثم إن كان معظما للرسول والقرآن [ ظن أن الرسول ] [52] كان يقول بذلك ، لكنه لم يبح به ; لأنه مما لا يمكن البشر أن يبوحوا به ، وإن كان [ ص: 339 ] غير معظم للرسول ، زعم أنه تعدى حد الرسول ، وهذا الضلال حدث قديما من جهال العباد .

                  ولهذا كان العارفون ، كالجنيد بن محمد : سيد الطائفة [53] - قدس الله روحه - [54] لما سئل عن التوحيد قال : " التوحيد إفراد الحدوث عن القدم " [55] فإنه كان عارفا ، ورأى أقواما ينتهي بهم الأمر إلى الاتحاد ، فلا يميزون بين القديم والمحدث ، وكان أيضا [ طائفة ] [56] من أصحابه وقعوا في الفناء في توحيد الربوبية ، الذي لا يميز فيه بين المأمور والمحظور ، فدعاهم الجنيد إلى الفرق الثاني ، وهو توحيد الإلهية ، الذي يميز فيه بين المأمور والمحظور ، فمنهم من وافقه ، ومنهم من خالفه ، ومنهم لم يفهم كلامه .

                  وقد ذكر بعض ما جرى من ذلك أبو سعيد الأعرابي في " طبقات [ ص: 340 ] النساك " [57] وكان من أصحاب الجنيد ، ومن شيوخ [58] أبي طالب المكي ، [ كان ] [59] من أهل العلم بالحديث وغيره ، ومن أهل المعرفة بأخبار الزهاد وأهل الحقائق .

                  وهذا الذي ذكره الجنيد من الفرق بين القديم والمحدث ، والفرق بين المأمور والمحظور ، بهما يزول ما وقع فيه كثير من الصوفية من هذا الضلال . ولهذا كان الضلال منهم يذمون الجنيد على ذلك ، كابن عربي وأمثاله ، فإن له كتابا سماه " الإسرا إلى المقام الأسرى " [60] مضمونه حديث نفس ووساوس [61] شيطان حصلت في نفسه ، جعل ذلك معراجا كمعراج الأنبياء [62] ، وأخذ يعيب على الجنيد وعلى غيره من الشيوخ ما ذكروه ، وعاب على الجنيد قوله : " التوحيد إفراد الحدوث عن القدم " وقال : قلت له : يا جنيد ، ما يميز بين الشيئين إلا من كان خارجا عنهما ، وأنت إما [ ص: 341 ] قديم أو محدث ، فكيف تميز ؟ " [63] .

                  وهذا جهل منه ، فإن المميز بين الشيئين هو الذي يعرف أن هذا غير هذا ، ليس من شرطه أن يكون ثالثا ، بل كل إنسان يميز بين نفسه وبين غيره وليس هو ثالثا ، والرب سبحانه يميز نفسه وبين غيره ، وليس هناك ثالث .

                  وهذا الذي ذمه الجنيد - رحمه الله - ، وأمثاله من الشيوخ العارفين ، وقع فيه خلق كثير ، حتى من أهل العلم بالقرآن وتفسيره والحديث والآثار ، ومن المعظمين لله ورسوله باطنا وظاهرا ، المحبين لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذابين عنها - وقعوا في هذا غلطا لا تعمدا ، وهم يحسبون أن هذا نهاية التوحيد . كما ذكر ذلك صاحب " منازل السائرين " [ ص: 342 ] مع علمه وسنته ، ومعرفته ودينه [64] .

                  وقد ذكر في كتابه " منازل السائرين " أشياء حسنة نافعة ، وأشياء باطلة . ولكن هو فيه ينتهي إلى الفناء في توحيد الربوبية ، ثم إلى التوحيد الذي هو حقيقة الاتحاد . ولهذا قال [65] : " باب التوحيد : قال الله تعالى : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) [ سورة آل عمران : 18 ] التوحيد : تنزيه الله عن الحدث [66] .

                  قال [67] : وإنما نطق العلماء بما نطقوا به ، وأشار المحققون [68] إلى ما أشاروا إليه [69] في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد ، وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل " .

                  [ ص: 343 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية