الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والإنسان قد يكون في قلبه معارف وإرادات ، ولا يدري أنها في قلبه ، فوجود الشيء في القلب شيء ، والدراية به شيء آخر ; ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء يطلب تحصيل ذلك في قلبه ، وهو حاصل في قلبه ، فتراه يتعب تعبا كثيرا لجهله ، وهذا كالموسوس [1] في الصلاة ; فإن كل من فعل فعلا باختياره ، وهو يعلم ما يفعله [2] ، فلا بد أن ينويه ، ووجود ذلك بدون النية - التي هي الإرادة - ممتنع ، فمن كان يعلم أنه يقوم إلى الصلاة فهو يريد الصلاة ، ولا يتصور أن يصلي إلا وهو يريد الصلاة [3] ، [ ص: 399 ] فطلب مثل هذا لتحصيل النية من جهله بحقيقة النية ووجودها في نفسه .

                  وكذلك من كان يعلم أن غدا من رمضان ، وهو مسلم يعتقد وجوب الصوم ، وهو مريد للصوم [4] ، فهذا نية الصوم . وهو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم ، ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد ، وعشاء ليالي شهر رمضان ، فليلة العيد يعلم أنه لا يصوم ، فلا يريد الصوم ولا ينويه ، ولا يتعشى عشاء من يريد الصوم .

                  وهذا مثل الذي يأكل ويشرب ، ويمشي ويركب ، ويلبس ، إذا كان يعلم أنه يفعل هذه الأفعال ، فلا بد أن يريدها ، وهذه نيتها ، فلو قال بلسانه : أريد أن أضع يدي في هذا الإناء لآخذ لقمة آكلها ، كان أحمق عند الناس . فهكذا من يتكلم بمثل هذه الألفاظ في نية الصلاة والطهارة والصيام [5] . ومع هذا فتجد خلقا كثيرا من الموسوسين بعلم وعبادة يجتهد في تحصيل هذه النية أعظم مما يجتهد من يستخرج ما في قعر معدته من القيء ، أو من يبتلع الأدوية الكريهة .

                  وكذلك كثير من المعارف ، قد يكون في نفس الإنسان ضروريا وفطريا ، وهو يطلب الدليل عليه ; لإعراضه عما في نفسه ، وعدم شعوره بشعوره .

                  فهكذا كثير من المؤمنين يكون في قلبه محبة لله ورسوله ، وقد نظر في كلام الجهمية والمعتزلة نفاة المحبة ، واعتقد ذلك قولا صحيحا ; لما ظنه من صحة شبهاتهم ، أو تقليدا لهم ، فصار يقول بموجب ذلك الاعتقاد ، [ ص: 400 ] وينكر ما في نفسه .

                  فإن نافي محبة الله يقول : المحبة لا تكون إلا لما يناسب المحبوب ، ولا مناسبة بين القديم والمحدث ، وبين الواجب والممكن ، وبين الخالق والمخلوق .

                  فيقال : لفظ المناسبة لفظ مجمل ، فإنه يقال : لا مناسبة بين كذا وكذا ، أي أحدهما أعظم من الآخر ، فلا ينسب هذا إلى هذا . كما يقال : لا نسبة لمال فلان إلى مال فلان ، ولا نسبة لعلمه أو جوده أو ملكه [ إلى علم فلان وجود فلان وملك فلان ، ] [6] يراد به أن هذه النسبة حقيرة صغيرة كلا نسبة ، كما يقال : لا نسبة للخردلة إلى الجبل ، ولا نسبة للتراب إلى رب الأرباب .

                  فإذا أريد بأنه لا نسبة للمحدث إلى القديم هذا المعنى ونحوه ، فهو صحيح ، وليست المحبة مستلزمة لهذه النسبة ، وإن أريد أن ليس في القديم معنى يحبه لأجله المحدث ، فهذا رأس المسألة ، فلم قلت : إنه ليس بين المحدث والقديم ما يحب المحدث القديم لأجله ؟ ولم قلت : إن القديم ليس متصفا بمحبة ما يحبه من مخلوقاته ؟

                  والمحبة لا تستلزم نقصا ، بل هي صفة كمال ، بل هي أصل الإرادة . فكل إرادة فلا بد أن تستلزم محبة ؛ فإن الشيء إنما يراد ; لأنه محبوب ، أو لأنه وسيلة إلى المحبوب . ولو قدر عدم المحبة لامتنعت الإرادة ; فإن المحبة لازمة للإرادة ، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ، وكذلك المحبة [ ص: 401 ] مستلزمة للإرادة ، فمن أحب شيئا فلا بد أن يتضمن حبه إياه ، إرادة لبعض متعلقاته .

                  ولهذا كان خلقه تعالى لمخلوقاته لحكمة [7] ، والحكمة مرادة محبوبة . فهو خلق ما خلق لمراد محبوب كما تقدم ، وهو سبحانه يحب عباده المؤمنين ، فيريد الإحسان إليهم ، وهم يحبونه فيريدون عبادته [8] [ وطاعته ] .

                  و [ قد ثبت ] في الصحيحين [9] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " [10] وما من مؤمن إلا وهو يجد في قلبه للرسول من المحبة ما لا يجد [11] لغيره ، حتى أنه إذا سمع محبوبا له - من أقاربه وأصدقائه [12] - يسب الرسول ، هان عليه عداوته ومهاجرته ، بل وقتله لحب الرسول ، وإن لم يفعل ذلك لم يكن مؤمنا .

                  قال تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) [ سورة المجادلة : 22 ] ، [ بل قد ] .

                  [ ص: 402 ] قال تعالى [13] : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) [ سورة التوبة : 24 ] ، فتوعد من كان الأهل والمال أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله .

                  وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ثلاث من كن فيه وجد بهن [14] حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " [15] .

                  فوجود حلاوة الإيمان في القلب لا تكون من محبة العوض الذي لم يحصل بعد ، بل الفاعل الذي لا يعمل إلا للكراء لا يجد حال العمل إلا التعب والمشقة وما يؤلمه ، فلو كان لا معنى لمحبة الله ورسوله إلا محبة [ ص: 403 ] ما سيصير إليه العبد من الأجر ، لم يكن هنا حلاوة إيمان يجدها العبد في قلبه وهو في دار التكليف والامتحان ، وهذا خلاف الشرع وخلاف الفطرة التي فطر الله عليها قلوب عباده .

                  فقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كل مولود يولد على الفطرة " [16] وفي صحيح مسلم عنه أنه قال : " يقول الله تعالى : خلقت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم الشياطين ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا " [17] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية