الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 239 ] . ثم هؤلاء الشذوذ من المتأخرين الذين زعموا أن الفعل لا يشترط فيه تقدم العدم قد ذكروا لهم [1] حججا ذكرها ابن سينا وغيره من متأخريهم ، واستقصاها الرازي في ( مباحثه المشرقية ) ، وذكر في ذلك ما سماه عشرة [2] براهين ، وكلها باطلة [3] .

                  قال [4] :

                  الأول [5] : المحتاج [6] إلى العدم السابق إما أن يكون هو وجود الفعل ، وإما أن يكون [ هو ] [7] تأثير الفاعل فيه ، ومحال أن يكون المفتقر إلى العدم السابق هو وجود الفعل [8] ; لأن الفعل لو افتقر في وجوده إلى العدم لكان ذلك العدم مقارنا له ، والعدم المقارن مناف لذلك الوجود ، ومحال أن يكون المفتقر إليه تأثير الفاعل [9] ; لأن تأثير الفاعل يجب أن يكون مقارنا للأثر ، ووجود الأثر ينافي عدمه ، والمنافي لما يجب أن يكون مقارنا يجب أن يكون منافيا ، والمنافي لا يكون شرطا ، فإذن لا الفعل [ ص: 240 ] في كونه موجودا . ولا [10] حاصلا . ولا الفاعل في كونه مؤثرا يفتقر [11] إلى العدم المنافي [12] ) .

                  فيقال [ في ] [13] الجواب : إنه ليس المراد بكون المفعول أو فعل الفاعل مفتقرا إلى العدم أن العدم مؤثر فيه حتى يجب أن يكون مقارنا له ، بل المراد أنه لا يكون إلا بعد العدم ، كما قالوا هم : إن العدم من جملة المبادئ سواء جعلوه مبدءا لمطلق الفعل [ أو الحركة ] [14] ، أو الحركة والتغير والاستكمال ، فالمقصود أنهم جعلوا ذلك مفتقرا إلى العدم بمعنى أنه لا يكون إلا بعد عدم شيء لا بمعنى أن العدم مقارن له .

                  ومعلوم أنه إذا قيل : إن الحركة لا تكون إلا شيئا بعد شيء - أو الصوت - كان الحادث من ذلك موقوفا على وجود ما قبله ، وإن لم يكن مقارنا له .

                  وأيضا ، فالشيء المعدوم إذا عدم بعد وجوده كان هذا العدم الحادث مفتقرا إلى ذلك الوجود السابق ، ولم يكن مقارنا له .

                  [ وأيضا ] [15] ، فهذا الذي قاله يلزمه في كل ما يحدث [ فإن كل ما يحدث فإنما يحدث ] [16] بعد عدمه ، فحدوثه متوقف على عدمه السابق لوجوده مع أن ذلك العدم ليس مقارنا [17] له ، فإن طردوا حجتهم لزمهم [ ص: 241 ] أن لا يحدث حادث ، وهذه مكابرة ، وهذا شأنهم في عامة [18] حججهم التي يذكرونها في قدم العالم ، ( 2 فإن مقتضاها أن لا يحدث شيء وحدوث الحوادث في العالم 2 ) [19] مشهود [20] ، فكانت حججهم مما يعلم أنها من جنس شبه السوفسطائية .

                  وهذا كحجتهم [21] العظمى التي يحتجون بها على أنه مؤثر تام في الأزل ، وأن المؤثر التام يستلزم أثره ، فإن مقتضاها [22] أن لا يحدث شيء ، وهم ضلوا حيث لم يفرقوا بين مطلق المؤثر ، وبين المؤثر في كل ممكن .

                  فإذا قالوا [23] : كونه مؤثرا إما أن يكون لذاته المخصوصة ، أو لأمر لازم لها ، أو لأمر منفصل عنها ، والثالث ممتنع ; لأن ذلك المنفصل هو من جملة آثاره ، فيمتنع أن يكون مؤثرا فيه لامتناع الدور في العلل ، وعلى الأول والثاني يلزم [ دوام ] [24] كونه مؤثرا .

                  قيل لهم : كونه مؤثرا يراد به أنه مؤثر في وجود كل ما صدر عنه ، ويراد به أنه مؤثر في شيء معين من العالم ، ويراد به أنه مؤثر في الجملة : مثل [25] أن يكون مؤثرا في شيء [26] بعد شيء .

                  [ ص: 242 ] . والأول والثاني ممتنعان في الأزل لا سيما الأول [27] ، فإنه لا يقوله عاقل ، والحجة لا تدل على تأثيره في كل شيء في الأزل ، ولا في شيء معين في الأزل .

                  وأما الثالث فيناقض قولهم لا يوافقه ، بل يقتضي حدوث كل ما سواه ، فإذا [28] كان تأثيره من لوازم ذاته ، والحوادث مشهودة ، بل التأثير لا يعقل إلا مع الإحداث كان الإحداث الثاني مشروطا بسبق الأول وبانقضائه أيضا ، وذلك من لوازم ذاته شيئا بعد شيء .

                  فلا يكون في الحجة ما يدل على قولهم ، ولا على ما يناقض ما أخبرت به الرسل ، وإن دل على بطلان قول طائفة من أهل الكلام المحدث في دين الإسلام من الجهمية ، والقدرية ، ومن اتبعهم .

                  وكذلك ما يحتجون به على بطلان الإحداث والتأثير ، ونحو ذلك من الشبه المقتضية [29] نفي التأثير ونفي ترجيح وجود الممكن على عدمه ، ونفي كونه فاعلا لحكمة ، أو لا لحكمة ، وغير ذلك مما يذكر في هذا الباب ، فإن جميعها تقتضي أن لا يحدث في العالم حادث ، وهذا خلاف المشاهدة ، وكل حجة تقتضي خلاف المشهود فهي من جنس [ حجج ] [30] السفسطة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية