[ ص: 239 ] . ثم هؤلاء الشذوذ من المتأخرين الذين زعموا أن قد ذكروا لهم الفعل لا يشترط فيه تقدم العدم [1] حججا ذكرها وغيره من متأخريهم ، واستقصاها ابن سينا الرازي في ( مباحثه المشرقية ) ، وذكر في ذلك ما سماه عشرة [2] براهين ، وكلها باطلة [3] .
قال [4] :
الأول [5] : المحتاج [6] إلى العدم السابق إما أن يكون هو وجود الفعل ، وإما أن يكون [ هو ] [7] تأثير الفاعل فيه ، ومحال أن يكون المفتقر إلى العدم السابق هو وجود الفعل [8] ; لأن الفعل لو افتقر في وجوده إلى العدم لكان ذلك العدم مقارنا له ، والعدم المقارن مناف لذلك الوجود ، ومحال أن يكون المفتقر إليه تأثير الفاعل [9] ; لأن تأثير الفاعل يجب أن يكون مقارنا للأثر ، ووجود الأثر ينافي عدمه ، والمنافي لما يجب أن يكون مقارنا يجب أن يكون منافيا ، والمنافي لا يكون شرطا ، فإذن لا الفعل [ ص: 240 ] في كونه موجودا . ولا [10] حاصلا . ولا الفاعل في كونه مؤثرا يفتقر [11] إلى العدم المنافي [12] ) .
فيقال [ في ] [13] الجواب : إنه ليس المراد بكون المفعول أو فعل الفاعل مفتقرا إلى العدم أن العدم مؤثر فيه حتى يجب أن يكون مقارنا له ، بل المراد أنه لا يكون إلا بعد العدم ، كما قالوا هم : إن العدم من جملة المبادئ سواء جعلوه مبدءا لمطلق الفعل [ أو الحركة ] [14] ، أو الحركة والتغير والاستكمال ، فالمقصود أنهم جعلوا ذلك مفتقرا إلى العدم بمعنى أنه لا يكون إلا بعد عدم شيء لا بمعنى أن العدم مقارن له .
ومعلوم أنه إذا قيل : إن الحركة لا تكون إلا شيئا بعد شيء - أو الصوت - كان الحادث من ذلك موقوفا على وجود ما قبله ، وإن لم يكن مقارنا له .
وأيضا ، فالشيء المعدوم إذا عدم بعد وجوده كان هذا العدم الحادث مفتقرا إلى ذلك الوجود السابق ، ولم يكن مقارنا له .
[ وأيضا ] [15] ، فهذا الذي قاله يلزمه في كل ما يحدث [ فإن كل ما يحدث فإنما يحدث ] [16] بعد عدمه ، فحدوثه متوقف على عدمه السابق لوجوده مع أن ذلك العدم ليس مقارنا [17] له ، فإن طردوا حجتهم لزمهم [ ص: 241 ] أن لا يحدث حادث ، وهذه مكابرة ، وهذا شأنهم في عامة [18] حججهم التي يذكرونها في قدم العالم ، ( 2 فإن مقتضاها أن لا يحدث شيء وحدوث الحوادث في العالم 2 ) [19] مشهود [20] ، فكانت حججهم مما يعلم أنها من جنس شبه السوفسطائية .
وهذا كحجتهم [21] العظمى التي يحتجون بها على أنه مؤثر تام في الأزل ، وأن المؤثر التام يستلزم أثره ، فإن مقتضاها [22] أن لا يحدث شيء ، وهم ضلوا حيث لم يفرقوا بين مطلق المؤثر ، وبين المؤثر في كل ممكن .
فإذا قالوا [23] : كونه مؤثرا إما أن يكون لذاته المخصوصة ، أو لأمر لازم لها ، أو لأمر منفصل عنها ، والثالث ممتنع ; لأن ذلك المنفصل هو من جملة آثاره ، فيمتنع أن يكون مؤثرا فيه لامتناع الدور في العلل ، وعلى الأول والثاني يلزم [ دوام ] [24] كونه مؤثرا .
قيل لهم : كونه مؤثرا يراد به أنه مؤثر في وجود كل ما صدر عنه ، ويراد به أنه مؤثر في شيء معين من العالم ، ويراد به أنه مؤثر في الجملة : مثل [25] أن يكون مؤثرا في شيء [26] بعد شيء .
[ ص: 242 ] . والأول والثاني ممتنعان في الأزل لا سيما الأول [27] ، فإنه لا يقوله عاقل ، والحجة لا تدل على تأثيره في كل شيء في الأزل ، ولا في شيء معين في الأزل .
وأما الثالث فيناقض قولهم لا يوافقه ، بل يقتضي حدوث كل ما سواه ، فإذا [28] كان تأثيره من لوازم ذاته ، والحوادث مشهودة ، بل التأثير لا يعقل إلا مع الإحداث كان الإحداث الثاني مشروطا بسبق الأول وبانقضائه أيضا ، وذلك من لوازم ذاته شيئا بعد شيء .
فلا يكون في الحجة ما يدل على قولهم ، ولا على ما يناقض ما أخبرت به الرسل ، وإن دل على بطلان قول طائفة من أهل الكلام المحدث في دين الإسلام من الجهمية ، والقدرية ، ومن اتبعهم .
وكذلك ما يحتجون به على بطلان الإحداث والتأثير ، ونحو ذلك من الشبه المقتضية [29] نفي التأثير ونفي ترجيح وجود الممكن على عدمه ، ونفي كونه فاعلا لحكمة ، أو لا لحكمة ، وغير ذلك مما يذكر في هذا الباب ، فإن جميعها تقتضي أن لا يحدث في العالم حادث ، وهذا خلاف المشاهدة ، [30] السفسطة . وكل حجة تقتضي خلاف المشهود فهي من جنس [ حجج ]