وكثير من ، وكثير من أهل النظر يزعمون أنه بمجرد النظر يحصل العلم ، بلا عبادة ولا دين ولا تزكية للنفس أهل الإرادة يزعمون أن طريق الرياضة بمجرده تحصل المعارف [1] ، بلا تعلم ولا نظر ، ولا تدبر للقرآن والحديث .
[ ص: 430 ] وكلا الفريقين غالط ، بل ، لكن مجرد العمل لا يفيد ذلك إلا بنظر وتدبر وفهم لما بعث الله به الرسول . ولو تعبد الإنسان ما عسى أن يتعبد ، لم يعرف ما خص الله به لتزكية النفس والعمل بالعلم وتقوى الله تأثير عظيم في حصول العلم محمدا - صلى الله عليه وسلم - إن لم يعرف ذلك من جهته .
وكذلك لو نظر واستدل ماذا عسى أن ينظر لم يحصل له المطلوب إلا بالتعلم من جهته ، [2] النافع إلا مع العمل به ، وإلا فقد قال الله تعالى : ( ولا يحصل التعلم المطابق فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) [ سورة الصف : 5 ] .
وقال : ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) [ سورة الأنعام : 109 - 110 ] .
وقال تعالى : ( وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم ) [ سورة النساء : 155 ] ، وقال تعالى : ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) [ سورة المطففين : 14 ] .
وقال : ( أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ) [ سورة الأعراف : 100 ] .
وقال : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ) [ سورة النساء : 66 - 68 ] .
[ ص: 431 ] وقال : ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) [ سورة المائدة : 15 - 16 ] .
وقال : ( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) [ سورة آل عمران : 138 ] .
وقال : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) [ سورة البقرة : 2 ] .
وكذلك لو جاع وسهر وخلا وصمت وفعل ماذا عسى أن يفعل لا يكون مهتديا إن لم يتعبد بالعبادات الشرعية ، وإن لم يتلق علم الغيب من جهة الرسول .
قال تعالى لأفضل الخلق الذي كان أزكى الناس نفسا ، وأكملهم عقلا قبل الوحي : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) [ سورة الشورى : 52 ] .
وقال : ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ) [ سورة سبأ : 50 ] .
وقال : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) [ سورة طه : 123 - 126 ] .
وقال تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ) [ ص: 432 ] [ سورة الزخرف : 36 ] أي : عن الذكر الذي أنزلته . قال المفسرون : يعش عنه فلا يلتفت إلى كلامه ولا يخاف عقابه .
ومنه قوله : ( وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) [ سورة الأنبياء : 50 ] ، وقوله : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) [ سورة الأنبياء : 2 ] ، وشاهده في الآية الأخرى : ( ومن أعرض عن ذكري ) [ سورة طه : 124 ] ثم قال : ( كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) [ سورة طه : 126 ] ، ولو تعبد بما تعبد . فكل من عشا عن القرآن فإنه يقيض له شيطان يضله
" ويعش " روي عن : " يعمى " وكذلك قال ابن عباس عطاء وابن زيد بن أسلم ، وكذلك أبو عبيدة قال : " تظلم عينه " [3] واختاره ورجحه على قول من قال : " يعرض " . والعشا ضعف في البصر ، ولهذا قيل : فيه يعش . وقالت طائفة : يعرض ، وهو رواية ابن قتيبة الضحاك عن ، وقاله ابن عباس قتادة ، واختاره الفراء والزجاج [4] ، وهذا صحيح من جهة المعنى ; فإن قوله : " يعش " ضمن معنى " يعرض " ولهذا عدي بحرف الجار [5] " عن " كما يقال : أنت أعمى عن محاسن فلان ، إذا أعرضت فلم تنظر إليها . فقوله : " يعش " أي : يكن [6] أعشى عنها [7] ، وهو دون العمى [8] ، فلم ينظر إليها إلا نظرا ضعيفا .
[ ص: 433 ] وهذا ، فإنهم لا ينظرون فيه كما ينظرون في كلام سلفهم ; لأنهم يحسبون أنه لا يحصل المقصود ، وهم الذين عشوا عنه فقيضت لهم الشياطين ، تقترن بهم وتصدهم عن السبيل ، وهم يحسبون أنهم مهتدون . حال أهل الضلال الذين لم ينتفعوا بالقرآن
ولهذا لا تجد في كلام من لم يتبع الكتاب والسنة بيان الحق علما وعملا أبدا ; لكثرة ما في كلامه من وساوس الشياطين [9] .
وحدثني غير مرة رجل ، وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين ، أنه كان قد قرأ على شخص سماه لي ، وهو من أكابر أهل الكلام والنظر ، دروسا من " المحصل " لابن الخطيب ، وأشياء من " إشارات " . قال : فرأيت حالي قد تغير ، وكان له نور وهدى ، ورؤيت له منامات سيئة ، فرآه صاحب النسخة بحال سيئة ، فقص عليه الرؤيا ، فقال : هي من كتابك . ابن سينا
وإشارات يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادا كثيرا ، بخلاف " المحصل " يظن كثير من الناس أن فيه بحوثا تحصل المقصود . ابن سينا
قال فكتبت عليه : محصل في أصول الدين حاصله من بعد تحصيله أصل بلا دين أصل الضلالات والشك المبين فما فيه فأكثره وحي الشياطين
قلت : وقد سئلت أن أكتب على " المحصل " ما يعرف به الحق فيما [ ص: 434 ] ذكره ، فكتبت من ذلك ما ليس هذا موضعه [10] ، وكذلك تكلمت على ما في الإشارات في مواضع أخر [11] .
والمقصود هنا التنبيه على الجمل ، فما [12] في " المحصل " وسائر كتب الكلام المختلف أهله : كتب [13] الرازي وأمثاله من الكلابية ومن حذا حذوهم ، وكتب المعتزلة والشيعة والفلاسفة ونحو هؤلاء ، لا يوجد فيها ما بعث الله به رسله في أصول الدين ، بل يوجد فيها حق ملبوس بباطل .
ويكفيك نفس لا تجد فيها إلا قول مسألة خلق الرب مخلوقاته القدرية والجهمية والدهرية : إما العلة التي تثبتها الفلاسفة الدهرية ، أو القادر الذي تثبته المعتزلة والجهمية . ثم إن كان من الكلابية أثبت تلك الإرادة الكلابية [14] ، ومن عرف حقائق هذه الأقوال تبين له أنها مع مخالفتها للكتاب والسنة وإجماع السلف مخالفة لصرائح العقول [15] .
وكذلك قولهم في النبوات ، فالمتفلسفة تثبت النبوة على أصلهم [ ص: 435 ] الفاسد : أنها قوة قدسية تختص بها بعض النفوس [16] ; لكونها أقوى نيلا للعلم ، وأقوى تأثيرا في العالم ، وأقوى تخيلا لما تعقله [17] في صور متخيلة وأصوات متخيلة ، وهذه الثلاثة هي عندهم خاصة النبي ، ومن اتصف بها فهو نبي القوة القدسية العلمية ، والتأثير في الهيولي ، وما يتخيله في نفسه من أصوات هي كلام الله ، ومن صور هي عندهم ملائكة [ الله ] [18] .
ومعلوم عند من اعتبر العالم أن هذا القدر يوجد لكثير من آحاد الناس ، وأكثر الناس لهم نصيب من هذه الثلاثة ، ولهذا طمع كثير من هؤلاء في أن يصير نبيا ، ولهذا قال هؤلاء : إن النبوة مكتسبة ، وإنما قالوا هذا ; لأنهم لم يثبتوا لله علما بالجزئيات ، ولا قدرة ، ولا كلاما يتكلم به تنزل به ملائكته [19] .
ثم إن الجهمية والمعتزلة يردون عليهم تارة ردا مقاربا ، وتارة ردا ضعيفا ; لكونهم جعلوا صانع العالم يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح ، وجعلوا القادر المختار يرجح بلا مرجح ، وزعم أكثرهم [20] أنه مع وجود القدرة والداعي التام لا يجب وجود الفعل ، ففزعوا [21] من الموجب بالذات . ولفظ الموجب بالذات مجمل ، فالذي ادعته المتفلسفة باطل ; [ ص: 436 ] فإنهم أثبتوا موجبا بذات مجردة عن الصفات يستلزم مفعولاته ، حتى لا يتأخر عنه شيء ، وأثبتوا له من الوحدة ما يضمنونه نفي صفاته وأفعاله القائمة به ، وقالوا : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ، والواحد الذي ادعوه لا حقيقة له إلا في الأذهان لا في الأعيان .
والكلام على مذاهبهم وإبطالها مبسوط في موضع آخر ، وقد بينا أنهم أكثر الناس تناقضا واضطرابا ، وأن دعواهم أنه علة موجبة للمعلول [22] أزلا وأبدا فاسدة من وجوه كثيرة .
وأما إذا قيل : هو موجب بالذات بمعنى أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما يريد أن يفعله ; فهذا هو الفاعل بقدرته ومشيئته ، فتسمية المسمى له موجبا بذاته نزاع لفظي .
وأكثر الجهمية والقدرية لا يقولون : إنه بقدرته ومشيئته يلزم وجود مقدوره ، بل قد يحصل وقد لا يحصل ، فيرجح [23] إن حصل بلا مرجح .
وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر ، والمقصود هنا أن الجهمية تثبت نبوة لا تستلزم فصل صاحبها ولا كماله ، ولا اختصاصه قط بشيء من صفات الكمال ، بل يجوز أن يجعل من هو من أجهل [24] الناس نبيا .
ثم الجهمية المحضة عندهم يخلق الله كلاما في غيره فينزل به الملك . وأما الكلابية فعندهم النبوة تعلق المعنى القائم بالذات بالنبي ، بمعنى أنت عبدي ورسولي . فيقولون في النبوة من جنس ما قالوه في [ ص: 437 ] أحكام أفعال العباد : إنه ليس للحكم معنى إلا تعلق المعنى القائم بالذات به ، والمعنى القائم بالذات المتعلق به لا يثبتون [25] في الإيمان والتقوى والأعمال الصالحة خاصة تميزت به [26] عن السيئات ، حتى أمر بها لأجلها ، وكذلك في النبوة .
والمعتزلة ومن وافقهم يثبتون لله شريعة بالقياس على عباده ، فيوجبون عليه من جنس ما يجب عليهم ، ويحرمون عليه من جنس ما يحرم [27] عليهم ، ولا يجعلون أمره ونهيه ، وحبه وبغضه ، ورضاه وسخطه - له ثأثير في الأعمال ، بل صفاتها ثابتة بدون الخطاب ، والخطاب مجرد كاشف ، بمنزلة الذي يخبر عن الشمس والقمر والكواكب بما هي متصفة به .
، والاصطفاء افتعال من التصفية ، كما أن الاختيار افتعال من الخيرة ، فيختار من يكون مصطفى . وقد قال : ( والله سبحانه قد أخبر أنه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ سورة الأنعام : 124 ] [28] فهو أعلم بمن يجعله رسولا ممن لم يجعله رسولا ، ولو كان كل الناس يصلح للرسالة [29] لامتنع هذا .
وهو عالم بتعيين الرسول ، وأنه أحق من غيره بالرسالة ، كما دل القرآن على ذلك . وقد قالت - رضي الله عنها - لما فجأ الوحي النبي خديجة [30] [ ص: 438 ] - صلى الله عليه وسلم - وخاف من ذلك فقالت له : " كلا والله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق " [31] ، وكانت - رضي الله عنها - أعقل وأعلم من أم المؤمنين خديجة الجهمية ، حيث رأت أن من جعله الله على هذه الأخلاق الشريفة ، المتضمنة لعدله وإحسانه ، لا يخزيه الله فإن حكمة الرب تأبى ذلك .
وهؤلاء عندهم هذا لا يعلم ، بل قد يخزي من يكون كذلك ، وقد ينبأ شر الناس ، كأبي جهل وغيره ، ولهذا أنكر المازري [32] وغيره على ، كما أنكروا على خديجة هرقل استدلاله بما استدل به في حديث المشهور لما سأل عن صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - أبي سفيان [33] .