[ ص: 439 ] ، كما كان يظهر لكل من رأى والله سبحانه إذا اتخذ رسولا فضله بصفات أخرى لم تكن موجودة فيه قبل إرساله موسى وعيسى ومحمدا من أحوالهم وصفاتهم بعد النبوة . وتلك الصفات غير الوحي الذي ينزل عليهم ، فلا يقال : إن النبوة مجرد صفة إضافية كأحكام الأفعال كما تقوله الجهمية .
ولهذا [ لما ] [1] صار كثير من أهل النظر - كالرازي وأمثاله - ليس عندهم إلا قول الجهمية والقدرية والفلاسفة ، تجدهم في تفسير القرآن ، وفي سائر كتبهم ، يذكرون أقوالا كثيرة متعددة كلها باطلة ، لا يذكرون الحق ، مثل تفسيره للهلال [2] ، وقد قال تعالى : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) [ سورة البقرة : 189 ] فذكر قول أهل الحساب فيه ، وجعله من أقوال الفلاسفة ، وذكر قول الجهمية الذين يقولون : إن القادر المختار يحدث فيه الضوء بلا سبب أصلا ولا لحكمة [3] .
وكذلك إذا تكلم في المطر يذكر قول أولئك الذين يجعلونه حاصلا عن مجرد البخار المتصاعد والمنعقد في الجو ، وقول من يقول : إنه أحدثه الفاعل المختار بلا سبب ، ويذكر قول من يقول : إنه نزل من [ ص: 440 ] الأفلاك . وقد يرجح [4] هذا القول في تفسيره [5] ، ويجزم بفساده في موضع آخر .
وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ، ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا أئمة المسلمين ، [ بل سائر أهل العلم من المسلمين ] [6] من السلف والخلف ، يقولون : إن المطر نزل من السحاب .
ولفظ " السماء " في اللغة والقرآن اسم لكل ما علا ، فهو اسم جنس للعالي ، لا يتعين في شيء إلا بما يضاف إلى ذلك .
وقد قال : ( فليمدد بسبب إلى السماء ) [ سورة الحج : 15 ] ، وقال : ( الذي أنزل من السماء ماء ) [ سورة الأنعام : 99 ] ، وقال : ( أأمنتم من في السماء ) [ سورة تبارك : 16 ] ، والمراد بالجميع العلو ، ثم يتعين هنا بالسقف ونحوه ، وهنا [7] بالسحاب ، وهناك بما فوق العالم كله .
فقوله : ( أنزل من السماء ماء ) [ سورة الأنعام : 99 ] أي من العلو ، مع قطع النظر عن جسم معين . لكن قد صرح في موضع آخر بنزوله من السحاب ، كما في قوله : ( أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ) [ سورة الواقعة : 68 - 69 ] والمزن : السحاب . [ ص: 441 ] وقوله : ( ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله ) [ سورة النور : 43 ] ، والودق : المطر ، وقال تعالى : ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ) [ سورة الروم : 48 ] ، فأخبر سبحانه أنه يبسط السحاب في السماء .
وهذا مما يبين أنه لم يرد بالسماء هنا الأفلاك ; فإن السحاب لا يبسط في الأفلاك ، بل الناس يشاهدون السحاب يبسط في الجو ، وقد يكون الرجل في موضع عال : إما على جبل أو على غيره ، والسحاب يبسط أسفل منه ، وينزل منه المطر ، والشمس فوقه .
والرازي [8] لا يثبت على قول [ واحد ] [9] ، بل هو دائما ينصر هنا قولا ، وهناك ما يناقضه لأسباب تقتضي ذلك .
وكثير من الناس يفهمون من القرآن ما لا يدل عليه ، وهو معنى فاسد ، ويجعلون ذلك يعارض العقل . وقد بينا في مصنف مفرد " درء تعارض [10] العقل والنقل " وذكرنا فيه عامة ما يذكرون من العقليات في ، وبينا أن التعارض لا يقع إلا إذا كان ما سمى معقولا فاسدا ، وهذا هو الغالب على كلام أهل البدع ، أو أن يكون معارضة الكتاب والسنة [11] ما أضيف [ ص: 442 ] إلى الشرع ليس منه : إما حديث موضوع ، وإما فهم فاسد من نص لا يدل عليه ، وإما نقل إجماع باطل .
ومن هذا كثير من الناس ذم الأحكام النجومية ، ولا ريب أنها مذمومة بالشرع مع العقل ، وأن الخطأ فيها أضعاف الصواب ، وأن من اعتمد عليها في تصرفاته ، وأعرض عما أمر الله به ورسوله ، خسر الدنيا والآخرة .
لكن قد [12] يردونها على طريقة الجهمية ونحوهم بأن يدعوا أنه لا أثر لشيء من العلويات في السفليات أصلا : إما على طريقة [13] الجهمية ، لكن تلك لا تنفي العادات الاقترانية ، وإن لم تثبت سببا ومسببا وحكمة ، وإما بناء على نفي العادة [14] في ذلك .
ثم قد ينازعون [15] في استدارة الأفلاك ، ويدعون شكلا آخر . وقد بينا في جواب المسائل التي سئلت عنها في ذلك أن الأفلاك مستديرة عند علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، كما ثبت ذلك عنهم بالأسانيد المذكورة في موضعها ، بل قد نقل إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من علماء المسلمين [16] ، الذين هم من أخبر الناس بالمنقولات ، كأبي الحسين بن المنادي ، أحد أكابر الطبقة الثانية من [ ص: 443 ] أصحاب ، وله نحو أربعمائة مصنف الإمام أحمد [17] ، وأبي محمد بن حزم الأندلسي ، . وأبي الفرج بن الجوزي
وقد دل ذلك على الكتاب والسنة ، كما قد بسط في " الإحاطة " [18] وغيرها .
وكذلك من الهواء ومن البخار المتصاعد ، لكن خلقه للمطر من هذا ، كخلق الإنسان من نطفة ، وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى ، فهذا معرفة المطر معروف عند السلف والخلف بأن الله تعالى يخلقه [19] بالمادة التي خلق منها ، ونفس المادة لا توجب ما خلق منها باتفاق العقلاء ، بل لا بد مما به يخلق تلك الصورة [20] على ذلك الوجه ، وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم ، الذي يخلق المطر على قدر معلوم وقت الحاجة إليه ، والبلد الجرز [21] يسوق إليه [22] الماء من حيث أمطر ، كما قال : [ ص: 444 ] ( يسمعون أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ) [ سورة السجدة : 27 ] ، فالأرض الجرز لا [23] تمطر ما يكفيها ، كأرض مصر : لو أمطرت المطر المعتاد لم يكفها ; فإنها أرض إبليز [24] . وإن أمطرت كثيرا مثل مطر شهر خربت [25] المساكن ، فكان من حكمة الباري ورحمته أن أمطر مطرا أرضا بعيدة ، ثم ساق ذلك الماء إلى أرض مصر .
فهذه الآيات [26] يستدل بها على علم الخالق وقدرته ومشيئته وحكمته ، وإثبات المادة التي خلق منها المطر والشجر والإنسان والحيوان مما يدل على حكمته [27] .
ونحن لا نعرف شيئا قط خلق إلا من مادة ، ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق إلا من مادة .
وكذلك كون كسوف الشمس وغيره سببا لبعض الحوادث هو مما دلت عليه النصوص الصحيحة ، ففي الصحاح من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " [28] عباده ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة " إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا [ ص: 445 ] لحياته ، ولكنهما آيتان من آيات الله - عز وجل - يخوف [ الله ] بهما [29] .
وقد ثبت عنه في الصحاح أنه صلى صلاة الكسوف بركوع زائد في كل ركعة ، وأنه طولها تطويلا لم يطوله في شيء من صلوات الجماعات ، وأمر عند الكسوف بالصلاة والذكر والدعاء ، والعتاقة والصدقة ، والاستغفار [30] .
وقوله : " " كقوله تعالى : ( يخوف الله بهما عباده وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ) [ سورة الإسراء : 59 ] ، ولهذا كانت ، مثل تناثر الكواكب والزلزلة وغير ذلك ، والتخويف إنما يكون بما هو سبب للشر المخوف ، كالزلزلة والريح العاصف . وإلا فما وجوده كعدمه لا يحصل به تخويف . الصلوات مشروعة عند الآيات عموما
فعلم أن ، ثم قد يكون الكسوف سبب للشر [31] عنه شر ، ثم القول فيه كالقول في سائر الأسباب : هل هو سبب ؟ كما عليه جمهور الأمة ، أو هو مجرد اقتران عادة كما يقوله الجهمية ؟
وهو - صلى الله عليه وسلم - أخبر عند [32] أسباب الشر بما يدفعها من [ ص: 446 ] العبادات ، التي تقوي ما انعقد [33] سببه من الخير ، وتدفع أو تضعف ما انعقد سببه من الشر . كما قال : " " إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض [34] .
والفلاسفة تعترف [35] بهذا ، لكن هل ذلك بناء [36] على أن الله يدفع ذلك بقدرته وحكمته ، أو بناء على أن القوى النفسانية تؤثر ؟ هذا مبني على أصولهم في هذا الباب .
ويحكى عن بطليموس [37] أنه قال : " ضجيج الأصوات ، في هياكل العبادات ، بفنون اللغات ، تحلل [38] ما عقدته الأفلاك الدائرات " ، وعن [ ص: 447 ] أبقراط [39] أنه قال : " واعلم أن طبنا بالنسبة إلى طب أرباب الهياكل كطب العجائز بالنسبة إلى طبنا " .
فالقوم كانوا معترفين بما وراء القوى الطبيعية والفلكية ، وليس ذلك مجرد القوى النفسانية ، كما يقوله وطائفة ابن سينا [40] ، بل ملائكة ملء [41] العالم العلوي والسفلي ، والجن أيضا لا يحصي عددهم إلا الله ، ، كما دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة ، وكما يستدل على ذلك أيضا بأدلة عقلية . والله قد وكل الملائكة بتدبير هذا العالم بمشيئته وقدرته
، كما يزعمه كثير من المتفلسفة . ولا هي مجرد العقول العشرة والنفوس التسعة ، بل هذه والملائكة أحياء ناطقون ، ليسوا أعراضا قائمة بغيرها [42] باطلة بأدلة كثيرة [43] .