الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 439 ] والله سبحانه إذا اتخذ رسولا فضله بصفات أخرى لم تكن موجودة فيه قبل إرساله ، كما كان يظهر لكل من رأى موسى وعيسى ومحمدا من أحوالهم وصفاتهم بعد النبوة . وتلك الصفات غير الوحي الذي ينزل عليهم ، فلا يقال : إن النبوة مجرد صفة إضافية كأحكام الأفعال كما تقوله الجهمية .

                  ولهذا [ لما ] [1] صار كثير من أهل النظر - كالرازي وأمثاله - ليس عندهم إلا قول الجهمية والقدرية والفلاسفة ، تجدهم في تفسير القرآن ، وفي سائر كتبهم ، يذكرون أقوالا كثيرة متعددة كلها باطلة ، لا يذكرون الحق ، مثل تفسيره للهلال [2] ، وقد قال تعالى : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) [ سورة البقرة : 189 ] فذكر قول أهل الحساب فيه ، وجعله من أقوال الفلاسفة ، وذكر قول الجهمية الذين يقولون : إن القادر المختار يحدث فيه الضوء بلا سبب أصلا ولا لحكمة [3] .

                  وكذلك إذا تكلم في المطر يذكر قول أولئك الذين يجعلونه حاصلا عن مجرد البخار المتصاعد والمنعقد في الجو ، وقول من يقول : إنه أحدثه الفاعل المختار بلا سبب ، ويذكر قول من يقول : إنه نزل من [ ص: 440 ] الأفلاك . وقد يرجح [4] هذا القول في تفسيره [5] ، ويجزم بفساده في موضع آخر .

                  وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ، ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا أئمة المسلمين ، [ بل سائر أهل العلم من المسلمين ] [6] من السلف والخلف ، يقولون : إن المطر نزل من السحاب .

                  ولفظ " السماء " في اللغة والقرآن اسم لكل ما علا ، فهو اسم جنس للعالي ، لا يتعين في شيء إلا بما يضاف إلى ذلك .

                  وقد قال : ( فليمدد بسبب إلى السماء ) [ سورة الحج : 15 ] ، وقال : ( الذي أنزل من السماء ماء ) [ سورة الأنعام : 99 ] ، وقال : ( أأمنتم من في السماء ) [ سورة تبارك : 16 ] ، والمراد بالجميع العلو ، ثم يتعين هنا بالسقف ونحوه ، وهنا [7] بالسحاب ، وهناك بما فوق العالم كله .

                  فقوله : ( أنزل من السماء ماء ) [ سورة الأنعام : 99 ] أي من العلو ، مع قطع النظر عن جسم معين . لكن قد صرح في موضع آخر بنزوله من السحاب ، كما في قوله : ( أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ) [ سورة الواقعة : 68 - 69 ] والمزن : السحاب . [ ص: 441 ] وقوله : ( ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله ) [ سورة النور : 43 ] ، والودق : المطر ، وقال تعالى : ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ) [ سورة الروم : 48 ] ، فأخبر سبحانه أنه يبسط السحاب في السماء .

                  وهذا مما يبين أنه لم يرد بالسماء هنا الأفلاك ; فإن السحاب لا يبسط في الأفلاك ، بل الناس يشاهدون السحاب يبسط في الجو ، وقد يكون الرجل في موضع عال : إما على جبل أو على غيره ، والسحاب يبسط أسفل منه ، وينزل منه المطر ، والشمس فوقه .

                  والرازي [8] لا يثبت على قول [ واحد ] [9] ، بل هو دائما ينصر هنا قولا ، وهناك ما يناقضه لأسباب تقتضي ذلك .

                  وكثير من الناس يفهمون من القرآن ما لا يدل عليه ، وهو معنى فاسد ، ويجعلون ذلك يعارض العقل . وقد بينا في مصنف مفرد " درء تعارض [10] العقل والنقل " وذكرنا فيه عامة ما يذكرون من العقليات في معارضة الكتاب والسنة ، وبينا أن التعارض لا يقع إلا إذا كان ما سمى معقولا فاسدا ، وهذا هو الغالب على كلام أهل البدع ، أو أن يكون [11] ما أضيف [ ص: 442 ] إلى الشرع ليس منه : إما حديث موضوع ، وإما فهم فاسد من نص لا يدل عليه ، وإما نقل إجماع باطل .

                  ومن هذا كثير من الناس ذم الأحكام النجومية ، ولا ريب أنها مذمومة بالشرع مع العقل ، وأن الخطأ فيها أضعاف الصواب ، وأن من اعتمد عليها في تصرفاته ، وأعرض عما أمر الله به ورسوله ، خسر الدنيا والآخرة .

                  لكن قد [12] يردونها على طريقة الجهمية ونحوهم بأن يدعوا أنه لا أثر لشيء من العلويات في السفليات أصلا : إما على طريقة [13] الجهمية ، لكن تلك لا تنفي العادات الاقترانية ، وإن لم تثبت سببا ومسببا وحكمة ، وإما بناء على نفي العادة [14] في ذلك .

                  ثم قد ينازعون [15] في استدارة الأفلاك ، ويدعون شكلا آخر . وقد بينا في جواب المسائل التي سئلت عنها في ذلك أن الأفلاك مستديرة عند علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، كما ثبت ذلك عنهم بالأسانيد المذكورة في موضعها ، بل قد نقل إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من علماء المسلمين [16] ، الذين هم من أخبر الناس بالمنقولات ، كأبي الحسين بن المنادي ، أحد أكابر الطبقة الثانية من [ ص: 443 ] أصحاب الإمام أحمد ، وله نحو أربعمائة مصنف [17] ، وأبي محمد بن حزم الأندلسي ، وأبي الفرج بن الجوزي .

                  وقد دل ذلك على الكتاب والسنة ، كما قد بسط في " الإحاطة " [18] وغيرها .

                  وكذلك المطر معروف عند السلف والخلف بأن الله تعالى يخلقه من الهواء ومن البخار المتصاعد ، لكن خلقه للمطر من هذا ، كخلق الإنسان من نطفة ، وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى ، فهذا معرفة [19] بالمادة التي خلق منها ، ونفس المادة لا توجب ما خلق منها باتفاق العقلاء ، بل لا بد مما به يخلق تلك الصورة [20] على ذلك الوجه ، وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم ، الذي يخلق المطر على قدر معلوم وقت الحاجة إليه ، والبلد الجرز [21] يسوق إليه [22] الماء من حيث أمطر ، كما قال : [ ص: 444 ] ( يسمعون أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ) [ سورة السجدة : 27 ] ، فالأرض الجرز لا [23] تمطر ما يكفيها ، كأرض مصر : لو أمطرت المطر المعتاد لم يكفها ; فإنها أرض إبليز [24] . وإن أمطرت كثيرا مثل مطر شهر خربت [25] المساكن ، فكان من حكمة الباري ورحمته أن أمطر مطرا أرضا بعيدة ، ثم ساق ذلك الماء إلى أرض مصر .

                  فهذه الآيات [26] يستدل بها على علم الخالق وقدرته ومشيئته وحكمته ، وإثبات المادة التي خلق منها المطر والشجر والإنسان والحيوان مما يدل على حكمته [27] .

                  ونحن لا نعرف شيئا قط خلق إلا من مادة ، ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق إلا من مادة .

                  وكذلك كون كسوف الشمس وغيره سببا لبعض الحوادث هو مما دلت عليه النصوص الصحيحة ، ففي الصحاح من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا [ ص: 445 ] لحياته ، ولكنهما آيتان من آيات الله - عز وجل - يخوف [ الله ] بهما [28] عباده ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة " [29] .

                  وقد ثبت عنه في الصحاح أنه صلى صلاة الكسوف بركوع زائد في كل ركعة ، وأنه طولها تطويلا لم يطوله في شيء من صلوات الجماعات ، وأمر عند الكسوف بالصلاة والذكر والدعاء ، والعتاقة والصدقة ، والاستغفار [30] .

                  وقوله : " يخوف الله بهما عباده " كقوله تعالى : ( وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ) [ سورة الإسراء : 59 ] ، ولهذا كانت الصلوات مشروعة عند الآيات عموما ، مثل تناثر الكواكب والزلزلة وغير ذلك ، والتخويف إنما يكون بما هو سبب للشر المخوف ، كالزلزلة والريح العاصف . وإلا فما وجوده كعدمه لا يحصل به تخويف .

                  فعلم أن الكسوف سبب للشر ، ثم قد يكون [31] عنه شر ، ثم القول فيه كالقول في سائر الأسباب : هل هو سبب ؟ كما عليه جمهور الأمة ، أو هو مجرد اقتران عادة كما يقوله الجهمية ؟

                  وهو - صلى الله عليه وسلم - أخبر عند [32] أسباب الشر بما يدفعها من [ ص: 446 ] العبادات ، التي تقوي ما انعقد [33] سببه من الخير ، وتدفع أو تضعف ما انعقد سببه من الشر . كما قال : " إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض " [34] .

                  والفلاسفة تعترف [35] بهذا ، لكن هل ذلك بناء [36] على أن الله يدفع ذلك بقدرته وحكمته ، أو بناء على أن القوى النفسانية تؤثر ؟ هذا مبني على أصولهم في هذا الباب .

                  ويحكى عن بطليموس [37] أنه قال : " ضجيج الأصوات ، في هياكل العبادات ، بفنون اللغات ، تحلل [38] ما عقدته الأفلاك الدائرات " ، وعن [ ص: 447 ] أبقراط [39] أنه قال : " واعلم أن طبنا بالنسبة إلى طب أرباب الهياكل كطب العجائز بالنسبة إلى طبنا " .

                  فالقوم كانوا معترفين بما وراء القوى الطبيعية والفلكية ، وليس ذلك مجرد القوى النفسانية ، كما يقوله ابن سينا وطائفة [40] ، بل ملائكة ملء [41] العالم العلوي والسفلي ، والجن أيضا لا يحصي عددهم إلا الله ، والله قد وكل الملائكة بتدبير هذا العالم بمشيئته وقدرته ، كما دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة ، وكما يستدل على ذلك أيضا بأدلة عقلية .

                  والملائكة أحياء ناطقون ، ليسوا أعراضا قائمة بغيرها ، كما يزعمه كثير من المتفلسفة . ولا هي مجرد العقول العشرة والنفوس التسعة ، بل هذه [42] باطلة بأدلة كثيرة [43] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية