الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 448 ] وما يثبتونه من المجردات المفارقات لا يحصل معهم منه غير النفس الناطقة ; فإنها تفارق بدنها . وما سوى ذلك فلا يثبت معهم على طريقهم إلا المجردات المعقولة في الأذهان ، وهي الكليات المعقولة ، ولكنهم يظنون ثبوت ذلك في الخارج ، كما يظن شيعة أفلاطون [1] ثبوت المثل الأفلاطونية في الخارج ، فتثبت [2] كليات قديمة أزلية أبدية مفارقة [3] كإنسان كلي .

                  وهذا هو غلطهم [4] ، حيث ظنوا ما هو في الأذهان موجودا في الأعيان ، وكذلك ما يثبتونه من الجواهر العقلية ، وهي أربعة : العقل ، والنفس ، والمادة ، والصورة ، وطائفة منهم كشيعة أفلاطون [5] تثبت جوهرا عقليا هو الدهر ، وجوهرا عقليا هو الخير ، وتثبت جوهرا عقليا هو المادة الأولى المعارضة للصورة .

                  وكل هذه العقليات التي يثبتونها إذا حققت غاية التحقيق تبين أنها أمور معقولة في النفس ، فيتصورها في نفسه ، فهي معقولات في قلبه ، وهي مجردة عن جزئياتها الموجودة في الخارج ; فإن العقل دائما ينتزع من الأعيان المعينة المشهودة كليات مشتركة عقلية ، كما يتصور زيدا وعمرا وبكرا ، ثم يتصور إنسانا مشتركا كليا ينطبق على زيد وعمرو وبكر ، [ ص: 449 ] ولكن هذا المشترك إنما هو في قلبه وذهنه ، يعقله بقلبه ، ليس في الخارج إنسان مشترك كلي يشترك [6] فيه هذا وهذا ، بل كل إنسان يختص بذاته وصفاته ، لا يشاركه غيره في شيء مما قام به قط .

                  وإذا قيل : الإنسانية مشتركة أو الحيوانية ، فالمراد أن في هذا حيوانية وإنسانية تشابه ما في هذا من الحيوانية والإنسانية ، ويشتركان في مسمى الإنسانية والحيوانية ، وذلك المسمى إذا أخذ مشتركا كليا لم يكن إلا في الذهن . وهو تارة يوجد [7] مطلقا بشرط الإطلاق ، فلا يكون إلا في الذهن عند عامة العقلاء ، إلا من أثبت المثل الأفلاطونية في الخارج . وتارة يوجد [8] مطلقا لا بشرط الإطلاق بحيث يتناول المعينات ، وهذا قد يقال : إنه موجود في الخارج ، وهو موجود في الخارج معينا مقيدا مخصوصا . فيقال : هذا الإنسان ، وهذا الحيوان ، وهذا الفرس ، وأما وجوده في الخارج [ مع ] [9] كونه مشتركا في الخارج فهذا باطل .

                  ولهذا كان من المعروف عندهم أن الكليات ثابتة في الأذهان لا في الأعيان ، ومن قال : إن الكلي الطبيعي موجود في الخارج فمعناه الصحيح أن ما هو كلي إذا كان في الذهن يوجد في الخارج ، لكن لا يوجد في الخارج كليا ، وهذا كما يقال [10] : ما يتصوره الذهن قد يوجد في [ ص: 450 ] الخارج وقد لا يوجد ، ولا يراد بذلك أن [11] نفس الصورة الذهنية تكون بعينها في الخارج ، ولكن يراد به أن ما يتصور في الذهن قد يوجد في الخارج ، كما يوجد أمثاله في الخارج .

                  كما يتصور الإنسان [12] دارا يبنيها وعملا يعمله ، ويقول الرجل لغيره : جئت بما كان في نفسي ، وفعلت هذا كما كان في نفسي ، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " زورت في نفسي مقالة ، فجاء أبو بكر في بديهته بأحسن منها " . وهذا كله معروف عند الناس ; فإن الشيء له وجود في نفسه ، وله مثال مطابق [ له ] [13] في العلم ، ولفظ يدل على ذلك المثال العلمي ، وخط يطابق ذلك اللفظ . ويقال : له وجود في الأعيان ، ووجود في الأذهان ، ووجود في اللسان ، ووجود في البنان [14] ، ووجود عيني ، وعلمي ، ولفظي ، ورسمي ، كالشمس الموجودة ، والكعبة الموجودة ، ثم إذا رأى الإنسان الشمس يمثلها في نفسه ، ثم يقول بلسانه : شمس ، وكعبة ، ثم يكتب بخطه : شمس ، وكعبة ، فإذا كتب وقيل : هذه الشمس التي في السماء ، وهذه الكعبة التي يصلي إليها المسلمون ، لم يرد بذلك أن الخط هو الشمس والكعبة ، ولكن المعنى معروف .

                  كما إذا قال [15] : يا زيد ، فالمنادي لا ينادي الصوت ، وإذا قال : ضربت [ ص: 451 ] زيدا ، لم يرد أنه ضرب الحروف ، لكن قد عرف أنه إذا أطلق الأسماء فالمراد مسمياتها التي جعلت الأسماء دالة عليها ، وإذا كتبت الأسماء فالمراد بالخط ما يراد باللفظ . فإذا قيل : لما في الورقة هذه الكعبة من الحجاز ، فالمراد المسمى [16] بالاسم اللفظي الذي طابقه الخط .

                  ومثل هذا كثير يعرفه كل أحد . فإذا قيل لما في النفس : ليس بعينه هو الموجود في الخارج ، فهو بهذا الاعتبار ، أي : ما تصورته [ في ] [17] النفس موجود في الخارج ، لكن يطابقه مطابقة المعلوم للعلم .

                  فإذا قيل : الكلي الطبيعي في الخارج ، فهو بهذا الاعتبار أي : يوجد في الخارج ما يطابقه الكلي [18] الطبيعي ، فإنه المطلق لا بشرط ، فيطابق المعينات بخلاف المطلق بشرط الإطلاق ، فإن هذا لا يطابق المعينات .

                  وأما أن يقال : [ إن ] [19] في الخارج أمرا كليا مشتركا فيه بعينه ، هو في هذا المعين وهذا المعين ، فهذا [20] باطل قطعا ، وإن كان قد قاله طائفة ، وأثبتوا ماهيات مجردة في الخارج عن المعينات ، وقالوا : إن تلك الماهية غشيتها غواش غريبة ، وإن أسباب الماهية غير أسباب الوجود ، وهذا قد بسط الكلام عليه في الكلام على المنطق وعلى " الإشارات " وغير ذلك ، وبين أن الذي لا ريب فيه أن ما يتصور في الأذهان ليس هو الموجود في [ ص: 452 ] الأعيان ، فمن عنى بالماهية ما في الذهن ، وبالوجود ما في الخارج ، فهو مصيب في قوله : الوجود مغاير للماهية ، وأما إذا عنى بالماهية ما في الخارج ، وبالوجود ما في الخارج ، وبالماهية ما في الذهن ، وبالوجود ما في الذهن ، وادعى أن في الذهن شيئين ، وأن في الخارج شيئين : وجود وماهية ، فهذا يتخيل [21] خيالا لا حقيقة له . وبهذا التفصيل يزول الاشتباه الحاصل في هذا الموضع .

                  ولفظ " الماهية " مأخوذ من قول السائل : ما هو ؟ وما هو سؤال عما يتصوره المسئول ليجيب عنه ، وتلك هي الماهية للشيء في نفسه ، والمعنى المدلول عليه باللفظ لا بد أن يكون مطابقا للفظ ; فتكون دلالة اللفظ عليه بالمطابقة ، ودلالة اللفظ على بعض ذلك المعنى بالتضمن ، ودلالته على لازم ذلك المعنى بالالتزام [22] .

                  وليست دلالة المطابقة دلالة اللفظ على ما وضع له ، كما يظنه بعض الناس ، ولا دلالة [23] التضمن استعمال اللفظ في جزء معناه ، ولا دلالة [24] الالتزام استعمال اللفظ في لازم معناه .

                  بل يجب الفرق بين ما وضع له اللفظ وبين ما عناه المتكلم باللفظ ، وبين ما يحمل المستمع عليه اللفظ ، فالمتكلم إذا استعمل اللفظ في [ ص: 453 ] معنى فذلك المعنى هو الذي عناه باللفظ ، وسمي " معنى " [25] لأنه عنى به [26] أي قصد وأريد بذلك ، فهو مراد المتكلم ومقصوده بلفظه .

                  ثم قد يكون اللفظ مستعملا [ فيما وضع له ، وهو الحقيقة ، وقد يكون مستعملا ] [27] في غير ما وضع له ، وهو المجاز ، وقد يكون المجاز من باب استعمال لفظ الجميع في البعض ، ومن باب استعمال الملزوم في اللازم ، وقد يكون في غير ذلك .

                  وذلك كله دلالة اللفظ على مجموع المعنى ، وهي دلالة المطابقة ، سواء كانت الدلالة حقيقة أو مجازية [28] ، أو غير ذلك . ثم ذلك المعنى المدلول عليه اللفظ : إذا كان له جزء فدلالة اللفظ عليه تضمن ; لأن اللفظ تضمن [29] ذلك الجزء ، ودلالته على لازم ذلك المعنى هي دلالة الملزوم ، وكل لفظ استعمل في معنى فدلالته عليه مطابقة ; لأن اللفظ طابق المعنى بأي لغة كان ، سواء سمي ذلك حقيقة أو مجازا .

                  فالماهية التي يعنيها المتكلم بلفظه دلالة لفظه عليها [ دلالة ] [30] مطابقة ، ودلالته على ما دخل فيها دلالة تضمن ، ودلالته على ما يلزمها وهو خارج عنها دلالة الالتزام .

                  [ ص: 454 ] فإذا قيل : الصفات الذاتية الداخلة في الماهية والخارجة عن الماهية ، وعني بالداخل ما دل عليه اللفظ بالتضمن ، وبالخارج ما دل عليه بالالتزام [31] ، فهذا صحيح .

                  وهذا الدخول والخروج هو بحسب ما تصوره المتكلم ، فمن تصور حيوانا ناطقا فقال : إنسان ، كانت دلالته على المجموع مطابقة ، وعلى أحدهما تضمن ، وعلى اللازم - مثل كونه ضاحكا - التزام ، وإذا تصور إنسانا ضاحكا كانت دلالة إنسان على المجموع مطابقة ، وعلى أحدهما تضمن ، وعلى اللازم مثل كونه [32] ناطقا التزام .

                  وأما أن تكون الصفات اللازمة للموصوف في الخارج : بعضها داخل في حقيقته وماهيته ، [ وبعضها خارج عن حقيقته وماهيته ] [33] ، والداخل هو الذاتي ، والخارج ينقسم إلى لازم للماهية [34] والوجود ، وإلى لازم للوجود دون الماهية ; فهذا كله مما قد بسط الكلام عليه [ في مواضع ] [35] ، وبينا ما في المنطق اليوناني من الأغاليط ، التي بعضها من معلمهم الأول ، وبعضها من تغيير المتأخرين .

                  وتكلمنا على ما ذكره أئمتهم في ذلك [ واحدا واحدا ] [36] كابن سينا [ ص: 455 ] وأبي البركات وغيرهما ، وأنه [37] يوجد من كلامهم أنفسهم [38] ، ومن رد بعضهم على بعض ، ما يبين أن ما ذكروه من تقسيم الصفات اللازمة للموصوف إلى هذه الأقسام الثلاثة تقسيم باطل ، إلا إذا جعل ذلك باعتبار ما في الذهن من الماهية ، لا باعتبار ماهية موجودة في الخارج .

                  وكذلك ما فرعوه على هذا من أن الإنسان مركب من الجنس والفصل ، فإن هذا التركيب [39] ذهني لا حقيقة له في الخارج ، وتركبه من الحيوان والناطق من جنس تركبه من الحيوان والضاحك ، إذا جعل كل من الصفتين [40] لازما ملزوما ، وأريد الضاحك بالقوة والناطق بالقوة [41] .

                  وأما إذا قيل : [ في الخارج ] [42] الإنسان مركب من هذا وهذا . فإن أريد به أن الإنسان موصوف بهذا وهذا ، فهذا [43] صحيح ، وكذلك [44] إذا فرق بين الصفات اللازمة للإنسان ، التي لا يكون إنسانا إلا بها ، كالحيوانية والناطقية ، والضاحكية ، وبين ما يعرض لبعض الناس ، كالسواد والبياض ، والعربية والعجمية ، فهذا صحيح .

                  أما إذا قيل : هو مركب من صفاته اللازمة له ، وهي أجزاء له ، وهي [ ص: 456 ] متقدمة عليه تقدما ذاتيا - فإن الجزء قبل الكل ، والمفرد قبل المركب - ، وأريد بذلك التركيب في الخارج ، فهذا كله تخليط . فإن الصفة تابعة للموصوف ، فكيف تكون متقدمة عليه بوجه من الوجوه ؟

                  وإذا قيل : هو مركب من الحيوانية والناطقية ، أو من الحيوان والناطق ، فإن أريد أنه مركب من جوهرين قائمين بأنفسهما ، لزم أن يكون في كل موصوف جواهر كثيرة بعدد صفاته ، فيكون في الإنسان جوهر هو جسم ، وجوهر هو حساس ، وجوهر هو نام ، وجوهر هو متحرك بالإرادة ، وجوهر هو ناطق .

                  ومعلوم أن هذا خطأ ، بل الإنسان جوهر قائم بنفسه موصوف بهذه الصفات ، فيقال : جسم حساس [45] نام متحرك بالإرادة ناطق .

                  وإن أريد [ به ] [46] أنه مركب من عرضين ، فالإنسان جوهر ، والجوهر لا يتركب من أعراض لاحقة له ، فضلا عن أن تكون سابقة له متقدمة عليه .

                  وهذا كله قد بسطناه في مواضع ، وإنما كان المقصود هنا أن هؤلاء الفلاسفة كثيرا ما يغلطون في جعل الأمور الذهنية المعقولة في النفس ، فيجعلون ذلك بعينه أمورا موجودة في الخارج ، فأصحاب فيثاغورس القائلون بالأعداد المجردة في الخارج من هنا كان غلطهم [47] ، [ ص: 457 ] وأصحاب أفلاطون الذين أثبتوا المثل الأفلاطونية من \ هنا كان غلطهم [48] ، وأصحاب صاحبه أرسطو الذين أثبتوا جواهر معقولة مجردة في الخارج مقارنة للجواهر الموجودة المحسوسة ، كالمادة والصورة والماهية الزائدة على الوجود في الخارج ، من هنا كان غلطهم [49] .

                  وهم إذا أثبتوا هذه الماهية ، قيل لهم : أهي في الذهن أم في الخارج ؟ ففي أيهما أثبتوها ظهر غلطهم ، وإذا قالوا : نثبتها مطلقة ، مع قطع النظر [ ص: 458 ] عن هذا ، وهذا أو أعم [50] من هذا وهذا ، قيل : عدم نظر الناظر لا يغير الحقائق عما هي عليه في نفس الأمر : إما في الذهن ، وإما في الخارج .

                  وما كان أعم منها فهو أيضا في الذهن ; فإنك إذا قدرت ماهية لا في الذهن ، ولا في الخارج لم تكن مقدرا [51] إلا في الذهن . ومعنى ذلك أن هذا التقدير في الذهن ، لا أن الماهية التي قيل : عنها ليست في الذهن - هي في الذهن ، بل الماهية التي تصورها الإنسان في ذهنه يمكنه تقديرها ليست في ذهنه ، مع أن تقديرها ليست في ذهنه هو في ذهنه ، وإن كان تقديرا ممتنعا .

                  بل يجب الفرق بين الماهية المقيدة بكونها في الذهن ، وبين الماهية المطلقة التي لا تتقدر بذهن ولا خارج ، مع العلم بأن هذه الماهية المطلقة لا تكون أيضا إلا في الذهن ، وإن أعرض الذهن عن كونها في الذهن . فكونها في الذهن شيء ، والعلم بكونها في الذهن شيء آخر .

                  وهؤلاء يتصورون [52] أشياء ويقدرونها ، وذلك لا يكون إلا في الذهن ، لكن حال ما يتصور الإنسان [ شيئا ] [53] في ذهنه ويقدره ، قد لا يشعر بكونه في الذهن ، كمن رأى الشيء في الخارج ، فاشتغل بالمرئي عن كونه رائيا له . وهذا يشبه ما يسميه بعضهم الفناء ، الذي يفنى بمذكوره عن ذكره ، [ ص: 459 ] وبمحبوبه عن محبته ، وبمعبوده عن عبادته ، ونحو ذلك ، كما يقدر الشيء بخلاف ما هو عليه ، كما إذا قدر أن الجبل من ياقوت ، والبحر من زئبق ، فتقدير الأمور على خلاف ما هي عليه هو تقدير اعتقادات باطلة .

                  والاعتقادات الباطلة لا [54] تكون إلا في الأذهان ، فمن قدر ماهية لا في الذهن ولا في الخارج ، فهو مثل من قدر موجودا لا واجبا ولا ممكنا ، ولا قديما ولا محدثا ، ولا قائما بنفسه ولا قائما بغيره ، وهذا التقدير في الذهن .

                  وقد بسطنا الكلام على ذلك لما بينا فساد احتجاج كثير من أهل النظر بالتقديرات الذهنية على الإمكانات الخارجية ، كما يقوله الرازي وغيره : إنا يمكننا أن نقول : الموجود إما داخل العالم ، وإما خارج العالم ، وإما لا داخل العالم ولا خارجه ، وكل [55] موجود إما مباين لغيره وإما محايث له ، وإما لا مباين ومحايث ; فهذا يدل على إمكان القسم الثالث .

                  وكذلك إذا قلنا : الموجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز ، وإما لا متحيز ، ولا قائم بالمتحيز . وهذا يدل على إمكان القسم [ الثالث ] [56] وهذا غلط ; فإن هذا كقول القائل : الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره ، وإما لا قائم بنفسه ولا بغيره ، فدل على إمكان القسم الثالث ، فإن هذا غلط .

                  [ ص: 460 ] وكذلك إذا قيل : إما قديم وإما محدث ، وإما لا قديم ولا محدث ، وإما واجب وإما ممكن ، وإما لا واجب ولا ممكن ، وكذلك ما أشبه هذا .

                  ودخل الغلط على هؤلاء حيث ظنوا أن مجرد تقدير الذهن وفرضه يقتضي إمكان ذلك في الخارج ، وليس كذلك ، بل الذهن يفرض أمورا ممتنعة ، لا يجوز وجودها في الخارج ، ولا تكون تلك التقديرات إلا في الذهن لا في الخارج .

                  وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر ، ولكن المقصود هنا ذكر ما اختلف فيه الناس من جهة الذم والعقاب ، وبينا أن الحال يرجع إلى أصلين : أحدهما : أن كل ما تنازع فيه الناس : هل يمكن [ كل ] [57] أحد اجتهاد يعرف به الحق ؟ أم [58] الناس ينقسمون إلى قادر على ذلك وغير قادر ؟ .

                  والأصل الثاني : المجتهد العاجز عن معرفة الصواب : هل يعاقبه الله أم لا يعاقب من اتقى الله ما استطاع وعجز عن معرفة بعض الصواب ؟

                  وإذا عرف هذان الأصلان ، فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ جميع ] [59] ما يطعن به فيهم أكثره كذب ، والصدق منه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ ، والخطأ مغفور ، والذنب له أسباب متعددة توجب المغفرة ، ولا يمكن أحد [60] أن يقطع بأن واحدا منهم فعل من الذنوب ما يوجب النار [ ص: 461 ] لا محالة . وكثير مما يطعن به على أحدهم يكون من محاسنه وفضائله ، فهذا [61] جواب مجمل [62] .

                  ثم نحن نتكلم على ما ذكرته الرافضة من المطاعن على وجه التفصيل ، كما ذكره أفضل الرافضة في زمنه [63] صاحب هذا الكتاب ، لما ذكر أن الكلبي صنف كتابا في " المثالب " [64] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية