الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) [1]

                  قال الرافضي [2] : " وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في [ ص: 486 ] مرض موته ، مرة بعد أخرى ، مكررا لذلك : أنفذوا [3] جيش أسامة ، لعن الله المتخلف عن جيش أسامة ، وكان الثلاثة معه ، ومنع أبو بكر وعمر من ذلك " .

                  والجواب : أن هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة [4] ، ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة ، وإنما روي ذلك في عمر ، وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة ، وقد استخلفه يصلي بالمسلمين مدة مرضه ، وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الاثنين ، اثني عشر يوما ، ولم يقدم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر ، ولم تكن الصلاة التي صلاها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة ولا صلاتين ، ولا صلاة يوم ولا يومين ، حتى يظن ما تدعيه الرافضة من التلبيس ، وأن عائشة قدمته بغير أمره ، بل كان يصلي بهم مدة مرضه ، فإن الناس متفقون [5] على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل بهم في مرض موته إلا أبو بكر ، وعلى أنه صلى بهم عدة [6] أيام . وأقل ما قيل : إنه صلى بهم سبعة عشرة صلاة ، صلى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة ، وخطب بهم يوم الجمعة . [ ص: 487 ] هذا مما تواترت به الأحاديث الصحيحة ، ولم يزل يصلي بهم إلى فجر يوم الاثنين : صلى بهم صلاة الفجر ، وكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - الستارة ، فرآهم يصلون خلف أبي بكر ، فلما رأوه كادوا يفتنون في صلاتهم ، ثم أرخى الستارة . وكان ذلك آخر عهدهم به ، وتوفي يوم الاثنين حين اشتد الضحى قريبا من الزوال .

                  وقد قيل : إنه صلى بهم أكثر من ذلك من [7] الجمعة التي قبل [8] فيكون قد صلى بهم مدة مرضه كلها ، لكن [9] خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة واحدة لما وجد خفة في نفسه ، فتقدم وجعل أبا بكر عن يمينه فكان أبو بكر يأتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - [10] ، والناس يأتمون بأبي بكر ، وقد كشف الستارة يوم الاثنين صلاة الفجر ، وهم يصلون خلف أبي بكر ، ووجهه - صلى الله عليه وسلم - كأنه ورقة مصحف ، فسر بذلك لما رأى اجتماع الناس في الصلاة خلف أبي بكر ، ولم يروه بعدها .

                  وقد قيل : إن آخر صلاة صلاها كانت خلف أبي بكر . وقيل : صلى خلفه غيرها .

                  فكيف يتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس ؟ !

                  [ ص: 488 ] وأيضا فإنه جهز جيش أسامة قبل أن يمرض ، فإنه أمره على جيش عامتهم المهاجرون ، منهم عمر بن الخطاب في آخر عهده - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا [11] ثلاثة آلاف ، وأمره أن يغير على أهل مؤتة ، وعلى جانب فلسطين ، حيث أصيب أبوه ، وجعفر ، وابن رواحة ، فتجهز أسامة بن زيد للغزو ، وخرج في ثقله إلى الجرف ، وأقام بها أياما لشكوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة فقال : " اغد على بركة الله والنصر والعافية . ثم أغر [12] حيث أمرتك أن تغير " قال أسامة : يا رسول الله ، قد أصبحت ضعيفا ، وأرجو أن يكون الله قد عافاك ، فأذن لي فأمكث حتى يشفيك الله ، فإني إن خرجت وأنت على هذه الحالة خرجت وفي نفسي منك قرحة ، وأكره أن أسأل عنك الناس " فسكت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بأيام ، فلما جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش ، غير أنه استأذنه في [13] أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة ; لأنه ذو رأي ناصح للإسلام ، فأذن له ، وسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأصاب في ذلك [14] العدو مصيبة عظيمة ، وغنم هو وأصحابه ، وقتل قاتل أبيه ، وردهم الله سالمين إلى المدينة .

                  [ ص: 489 ] وإنما أنفذ جيش أسامة أبو بكر الصديق بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : لا أحل راية عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأشار عليه غير واحد أن يرد الجيش خوفا عليهم ، فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فامتنع أبو بكر من رد الجيش وأمر بإنفاذه ، فلما رآهم الناس يغزون عقب موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان ذلك مما أيد الله به الدين ، وشد به قلوب المؤمنين ، وأذل به الكفار والمنافقين ، وكان ذلك من كمال معرفة أبي بكر الصديق ، وإيمانه ويقينه وتدبيره [ ورأيه ] [15] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية