وأما قول الرافضي : " وعطل حدود الله فلم يحد المغيرة بن شعبة " .
فالجواب : أن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة ، وأن البينة إذا لم تكمل حد الشهود ، ومن قال بالقول الآخر لم ينازع في أن هذه مسألة اجتهاد ، وقد تقدم أن ما يرد على علي بتعطيل إقامة [1] القصاص والحدود على قتلة عثمان أعظم ، فإذا كان القادح في علي مبطلا ، فالقادح في عمر أولى بالبطلان .
والذي فعله بالمغيرة كان بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم ، وأقروه على ذلك ، وعلي منهم ، والدليل على إقرار علي [ له ] [2] . أنه لما جلد الثلاثة الحد ، أعاد أبو بكرة القذف ، وقال : والله لقد زنى ، فهم عمر بجلده ثانيا ، فقال له علي : إن كنت جالده فارجم المغيرة ، يعني أن هذا القول إن كان هو الأول [3] . فقد حد عليه ، وإن جعلته [4] بمنزلة قول ثان فقد [ ص: 35 ] تم النصاب [ أربعة ] [5] ، فيجب رجمه [6] . فلم يحده عمر [7] ، وهذا دليل على رضا علي بحدهم أولا [8] . دون الحد الثاني ، وإلا كان أنكر حدهم أولا ، كما أنكر الثاني .
وكان من هو دون علي يراجع عمر ويحتج عليه بالكتاب والسنة ، فيرجع عمر إلى قوله ؛ فإن عمر كان وقافا عند كتاب الله - تعالى - .
روى البخاري عن ابن عباس قال [9] : " قدم عيينة بن حصن على [ ابن ] [10] أخيه الحر بن قيس [11] ، وكان من النفر الذين [12] يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس [13] عمر كهولا [14] كانوا أو شبانا . فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي لك وجه [15] عند هذا الأمير فاستأذن [16] لي عليه . فقال : سأستأذن لك عليه ، قال ابن عباس : فاستأذن الحر لعيينة ، فأذن [ ص: 36 ] له عمر ، فلما دخل عليه قال : هيه يا ابن الخطاب ، فوالله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل ، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به [17] . فقال له الحر : يا أمير المؤمنين إن الله - تعالى - قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) [ سورة الأعراف : 199 ] وإن هذا من الجاهلين ، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان عمر وقافا عند كتاب الله " .
وعمر - رضي الله عنه - من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم ، حتى أنه أقام على ابنه الحد لما شرب [18] بمصر ، بعد أن كان عمرو بن العاص ضربه الحد ، [ لكن ] [19] كان [20] ضربه سرا في البيت ، وكان الناس يضربون علانية ، فبعث عمر إلى عمرو يزجره ويتهدده [21] ، لكونه حابى ابنه ، ثم طلبه فضربه مرة ثانية ، فقال له عبد الرحمن : ما لك هذا ، فزجر عبد الرحمن ، وما روي أنه ضربه بعد الموت فكذب على عمر ، وضرب الميت لا يجوز [22] .
وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود ، وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم ، أكثر من أن تذكر هنا .
[ ص: 37 ] وأي غرض كان لعمر في المغيرة بن شعبة ؟ ! وكان عمر عند المسلمين كالميزان العادل الذي لا يميل إلى ذا الجانب ولا ذا الجانب .


