الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل [1]

                  قال الرافضي [2] : " وكان قليل المعرفة بالأحكام : أمر [3] برجم حامل ، فقال له علي [4] : إن كان لك عليها سبيل ، فلا سبيل لك على ما في بطنها ، فأمسك ، وقال : لولا علي لهلك عمر " .

                  والجواب : أن هذه القصة إن كانت صحيحة فلا تخلو من أن [ ص: 42 ] يكون عمر لم يعلم أنها حامل ، فأخبره علي بحملها ، ولا ريب أن الأصل عدم العلم ، والإمام إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل ، فعرفه بعض الناس بحالها ، كان هذا من جملة إخباره بأحوال الناس المغيبات ، ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود ، وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم ، وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية .

                  وإما أن يكون عمر قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم ، فلما ذكره علي ذكر ذلك ، ولهذا أمسك ، ولو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها ، ولم يرجع إلى رأي غيره ، وقد مضت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغامدية ، لما قالت : إني حبلى من الزنا ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اذهبي حتى تضعيه " [5] . ولو قدر أنه خفي عليه علم هذه المسألة حتى عرفه ، لم يقدح ذلك فيه ؛ لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمة ، يعطي الحقوق ، ويقيم الحدود ، ويحكم بين الناس كلهم ، وفي زمنه انتشر الإسلام ، وظهر ظهورا لم يكن قبله مثله ، وهو دائما يقضي ويفتي ، ولولا كثرة علمه لم يطق ذلك ، فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها [6] ، أو كان نسيها فذكرها ، فأي عيب في ذلك ؟ !

                  [ ص: 43 ] وعلي - رضي الله عنه - قد خفي عليه من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضعاف ذلك ، ومنها ما مات ولم يعرفه .

                  ثم يقال : عمر - رضي الله عنه - قد بلغ من علمه وعدله ورحمته بالذرية أنه [7] كان لا يفرض للصغير [8] حتى يفطم [9] ، ويقول : يكفيه اللبن ، فسمع امرأة تكره ابنها على الفطام ليفرض له ، فأصبح فنادى في الناس : أن أمير المؤمنين يفرض للفطيم والرضيع [10] . وتضرر الرضيع كان بإكراه أمه لا بفعله هو ، لكن رأى أن يفرض للرضعاء ليمتنع الناس عن إيذائهم [11] . فهذا إحسانه إلى ذرية المسلمين .

                  ولا ريب أن العقوبة إذا أمكن أن لا يتعدى بها الجاني كان ذلك هو الواجب [12] . ومع هذا فإذا كان الفساد في ترك عقوبة الجاني أعظم من الفساد في عقوبة من لم يجن ، دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ، كما رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف بالمنجنيق [13] ، مع أن المنجنيق قد يصيب النساء والصبيان .

                  [ ص: 44 ] وفي الصحيحين أن الصعب بن جثامة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ، فقال : " هم منهم " [14] .

                  ولو صالت المرأة [15] الحامل على النفوس والأموال المعصومة ، فلم يندفع صيالها إلا بقتلها [16] قتلت ، وإن قتل جنينها .

                  فإذا قدر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ظن أن إقامة الحدود من هذا الباب ، حتى تبين له أنه ليس من هذا الباب [17] ، لم يكن هذا بأعظم من القتال يوم الجمل وصفين ، الذي أفضى إلى أنواع من الفساد أعظم من هذا ، وعلي - رضي الله عنه - كان مع نظره واجتهاده ، لا يظن أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ ، ولو علم ذلك لما فعل ما فعل ، كما أخبر عن نفسه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية