الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 45 ] فصل [1]

                  قال الرافضي [2] : " وأمر برجم مجنونة ، فقال له علي - رضي الله عنه - : إن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق ، فأمسك ، وقال : لولا علي لهلك عمر " .

                  والجواب : أن هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث [3] . ورجم المجنونة لا يخلو : إما أن يكون لم يعلم بجنونها فلا يقدح ذلك في علمه بالأحكام ، أو كان ذاهلا عن ذلك فذكر بذلك ، أو يظن الظان أن العقوبات لدفع الضرر في الدنيا ، والمجنون قد يعاقب لدفع عدوانه على غيره من العقلاء والمجانين ، والزنا هو من العدوان ، فيعاقب على ذلك حتى يتبين له أن هذا من باب حدود الله - تعالى - التي لا تقام إلا على المكلف .

                  والشريعة قد جاءت بعقوبة الصبيان على ترك الصلاة ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " مروهم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع " [4] .

                  [ ص: 46 ] والمجنون إذا صال ولم يندفع صياله إلا بقتله قتل ، بل البهيمة إذا صالت ولم يندفع صيالها إلا بقتلها قتلت ، وإن كانت مملوكة لم يكن على قاتلها ضمان للمالك عند جمهور العلماء ، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، وأبو حنيفة يقول : إنه يضمنها للمالك لأنه قتلها لمصلحته ، فهو كما لو قتلها في المخمصة ، والجمهور يقولون : هناك قتلها بسبب منه لا بسبب عدوانها [5] ، وهنا قتلها بسبب عدوانها [6] .

                  ففي الجملة قتل غير المكلف ، كالصبي والمجنون والبهيمة ، لدفع عدوانهم [ جائز بالنص والاتفاق ، [7] إلا في بعض المواضع ] [8] كقتلهم في الإغارة والبيات وبالمنجنيق وقتلهم لدفع صيالهم .

                  وحديث : " رفع القلم عن ثلاثة " إنما يدل على رفع الإثم لا [ يدل ] [9] على منع الحد [10] إلا بمقدمة أخرى ، وهو أن يقال : من لا قلم عليه لا حد عليه ، وهذه المقدمة فيها خفاء ؛ فإن من لا قلم عليه [11] قد يعاقب أحيانا ، ولا يعاقب أحيانا ، والفصل بينهما يحتاج إلى علم خفي ، ولو استكره المجنون امرأة على نفسها ، ولم يندفع إلا بقتله ، فلها قتله ، بل عليها ذلك بالسنة واتفاق أهل العلم .

                  [ ص: 47 ] فلو اعتقد بعض المجتهدين أن الزنا عدوان ، كما سماه الله - تعالى - عدوانا بقوله : ( فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ) [ سورة المؤمنون : 7 ] فيقتل به المجنون ، حتى يتبين له أن هذا حد الله ، فلا يقام [12] إلا بعد العلم بالتحريم ، والمجنون لم يعلم التحريم ، لم يشنع عليه في هذا إلا من شنع بأعظم منه على غيره .

                  فلو قال قائل : قتال المسلمين هو عقوبة لهم ، فلا يعاقبون حتى يعلموا الإيجاب والتحريم ، وأصحاب معاوية [ الذين قاتلهم [13] علي ] [14] لم يكونوا يعلمون أن لهم ذنبا ، فلم يجز لعلي قتالهم على ما لا يعلمون أنه ذنب ، وإن كانوا مذنبين فإن غاية ما يقال [15] : إنهم تركوا الطاعة الواجبة ، لكن كثيرا منهم - أو أكثرهم - لم يكونوا يعلمون أنه يجب عليهم طاعة علي ومتابعته ، بل كان لهم من الشبهات والتأويلات ما يمنع علمهم بالوجوب ، فكيف جاز قتال من لم يعلم أنه ترك واجبا ، أو فعل محرما مع كونه كان معصوما ؟ لم يكن مثل هذا قدحا في إمامة علي ، فكيف يكون ذلك قدحا في إمامة عمر ؟ !

                  لا سيما والقتال على ترك الواجب إنما يشرع إذا كانت مفسدة القتال أقل من مفسدة ترك ذلك الواجب ، والمصلحة بالقتال أعظم من المصلحة بتركه .

                  [ ص: 48 ] ولم يكن الأمر كذلك ؛ فإن القتال لم يحصل الطاعة المطلوبة ، بل زاد بذلك عصيان الناس لعلي ، حتى عصاه وخرج عليه خوارج من عسكره ، وقاتله كثير من أمراء جيشه ، وأكثرهم [16] لم يكونوا مطيعين له مطلقا ، وكانوا قبل القتال أطوع له منهم بعد القتال .

                  فإن قيل : علي كان مجتهدا في ذلك ، معتقدا أنه بالقتال يحصل الطاعة .

                  قيل : فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفورا ، مع أنه أفضى إلى قتل ألوف من المسلمين ، بحيث حصل الفساد ، ولم يحصل المطلوب من الصلاح ، أفلا يكون الاجتهاد في قتل واحد ، لو قتل لحصل به نوع المصلحة من الزجر عن الفواحش ، اجتهادا مغفورا ؟ مع أن ذلك لم يقتله ، بل هم به وتركه .

                  وولي الأمر إلى معرفة الأحكام في السياسة العامة الكلية أحوج منه إلى معرفة الأحكام [17] في الحدود الجزئية ، وعمر - رضي الله عنه - لم يكن يخفى عليه أن المجنون ليس بمكلف : لكن [18] المشكل أن من ليس بمكلف : هل يعاقب لدفع الفساد ؟ هذا موضع مشتبه ؛ فإن الشرع قد جاء بعقوبة غير المكلفين في دفع الفساد في غير موضع ، والعقل يقتضي ذلك لحصول مصلحة الناس ، والغلام الذي قتله الخضر قد قيل : إنه [ ص: 49 ] كان لم يبلغ [ الحلم ] [19] وقتله لدفع صوله على أبويه بأن يرهقهما طغيانا وكفرا .

                  وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، والمجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ " [20] ، إنما يقتضي رفع المأثم لا رفع الضمان باتفاق المسلمين ، فلو أتلفوا نفسا أو مالا ضمنوه ، وأما رفع العقوبة إذا سرق أحدهما أو زنى أو قطع الطريق ، فهذا علم بدليل منفصل بمجرد هذا الحديث .

                  ولهذا اتفق العلماء على أن المجنون والصغير الذي ليس بمميز ليس عليه عبادة بدنية كالصلاة والصيام والحج ، واتفقوا على وجوب الحقوق في أموالهم كالنفقات والأثمان ، واختلفوا في الزكاة ؛ فقالت طائفة - كأبي حنيفة - : إنها لا تجب إلا على مكلف كالصلاة ، وقال الجمهور - كمالك والشافعي وأحمد - : بل الزكاة من الحقوق المالية كالعشر وصدقة الفطر ، وهذا قول جمهور الصحابة .

                  فإذا كان غير المكلف قد تشتبه بعض الواجبات : هل تجب في ماله أم لا ؟ فكذلك بعض العقوبات قد تشتبه : هل يعاقب بها أم لا ؟ لأن من الواجبات ما يجب في ذمته بالاتفاق ، [ ومنها ما لا يجب في ذمته بالاتفاق ] [21] وبعضها يشتبه : هل هو من هذا أو هذا ؟

                  [ ص: 50 ] وكذلك العقوبات : منها ما لا يعاقب به [22] بالاتفاق ، كالقتل على الإسلام ، فإن المجنون لا يقتل على الإسلام ، ومنها ما يعاقب به ، كدفع صياله ، ومنها ما قد يشتبه .

                  ولا نزاع بين العلماء أن غير المكلف كالصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيرا بليغا ، وكذلك المجنون يضرب على ما فعله [23] لينزجر ، لكن العقوبة [24] التي فيها قتل أو قطع هي التي تسقط عن غير المكلف ، وهذا إنما علم بالشرع ، وليس هو من الأمور الظاهرة حتى يعاب من خفيت عليه حتى يعلمها .

                  وأيضا فكثير من المجانين - أو أكثرهم - يكون له حال إفاقة وعقل ، فلعل عمر ظن أنها زنت في حال عقلها وإفاقتها ، ولفظ " المجنون " [25] يقال [26] على من به الجنون المطبق [27] ، والجنون الخانق ، ولهذا يقسم الفقهاء المجنون إلى هذين النوعين ، والجنون المطبق قليل ، والغالب هو الخانق .

                  وبالجملة فما ذكره من المطاعن في عمر وغيره يرجع إلى شيئين : إما نقص العلم ، وإما نقص الدين ، ونحن الآن في ذكره ، فما ذكره من منع فاطمة ومحاباته في القسم ودرء الحد [28] ونحو ذلك يرجع إلى أنه لم يكن [ ص: 51 ] عادلا بل كان ظالما ، ومن المعلوم للخاص والعام أن عدل عمر - رضي الله عنه - ملأ الآفاق ، وصار يضرب به المثل ، كما قيل : سيرة العمرين ، وأحدهما عمر بن الخطاب ، والآخر قيل : إنه عمر بن عبد العزيز ، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره [ من أهل العلم والحديث ] [29] . وقيل : هو أبو بكر وعمر ، وهو قول أبي عبيدة وطائفة من أهل اللغة [30] والنحو .

                  ويكفي الإنسان أن الخوارج ، الذين هم أشد الناس تعنتا [31] ، راضون عن أبي بكر وعمر في سيرتهما ، وكذلك الشيعة الأولى أصحاب علي كانوا يقدمون عليه أبا بكر وعمر ، وروى ابن بطة ما ذكره الحسن بن عرفة : حدثني كثير بن مروان الفلسطيني [32] ، عن أنس بن سفيان ، عن غالب بن عبد الله العقيلي ، قال : لما طعن عمر دخل عليه رجال ، منهم ابن عباس ، وعمر يجود بنفسه وهو يبكي ، فقال له ابن عباس : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ فقال له عمر : أما والله ما أبكي جزعا على الدنيا ، ولا شوقا إليها ، ولكن أخاف هول المطلع ، قال : فقال له ابن عباس : فلا تبك يا أمير المؤمنين ، فوالله لقد أسلمت فكان إسلامك فتحا ، ولقد [ ص: 52 ] أمرت فكانت إمارتك فتحا ، ولقد ملأت الأرض عدلا ، وما من رجلين من المسلمين يكون بينهما ما يكون بين المسلمين فتذكر عندهما إلا رضيا بقولك [33] وقنعا به . قال : فقال عمر : أجلسوني ، فلما جلس قال عمر : أعد علي كلامك يا ابن عباس . قال : نعم [34] ، فأعاده . فقال عمر : أتشهد لي بهذا عند الله يوم القيامة يا ابن عباس ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، أنا أشهد لك بهذا عند الله ، وهذا علي يشهد لك ، وعلي بن أبي طالب جالس ، فقال علي بن أبي طالب : نعم يا أمير المؤمنين [35] .

                  وهؤلاء أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم ، وليس لهم غرض مع أحد ، بل يرجحون قول هذا الصاحب [36] تارة ، وقول هذا الصاحب [37] تارة ، بحسب ما يرونه من أدلة الشرع ، كسعيد بن المسيب ، وفقهاء المدينة ، مثل عروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وعلي بن الحسين ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وسليمان بن يسار ، وخارجة بن زيد ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وغير هؤلاء .

                  [ ص: 53 ] ومن بعدهم كابن شهاب الزهري ، ويحيى بن سعيد ، وأبي الزناد ، وربيعة ، ومالك بن أنس ، وابن أبي ذئب ، وعبد العزيز الماجشون ، وغيرهم .

                  ومثل طاوس اليماني ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وعبيد بن عمير ، وعكرمة مولى ابن عباس .

                  ومن بعدهم مثل عمرو بن دينار ، وابن جريج ، وابن عيينة ، وغيرهم من أهل مكة .

                  ومثل الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وجابر بن زيد أبي الشعثاء ، ومطرف بن عبد الله بن الشخير ، ثم أيوب السختياني ، وعبد الله بن عون ، وسليمان التيمي ، وقتادة ، وسعيد بن أبي عروبة ، وحماد بن سلمة ، وحماد بن زيد [38] .

                  وأمثالهم مثل علقمة ، والأسود ، وشريح القاضي ، وأمثالهم ، ثم إبراهيم النخعي ، وعامر الشعبي ، والحكم بن عتيبة ، ومنصور بن المعتمر ، إلى سفيان الثوري ، وأبي حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وشريك ، إلى وكيع بن الجراح ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأمثالهم .

                  ثم الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، والحميدي عبد الله بن الزبير ، وأبو ثور ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن جرير الطبري ، وأبو بكر بن المنذر ، ومن لا [ ص: 54 ] يحصي عددهم إلا الله من أصناف علماء المسلمين ، كلهم خاضعون لعدل عمر وعلمه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية