[ ص: 265 ] وقوله : " وطرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عم الحكم بن أبي العاص عن عثمان المدينة ، ومعه ابنه ، فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مروان وأبي بكر ، فلما ولي وعمر آواه ورده إلى عثمان المدينة ، وجعل كاتبه وصاحب تدبيره . مع أن الله قال : ( مروان لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) [ الآية ] [1] [ سورة المجادلة : 22 ] .
والجواب : أن كان من مسلمة الفتح ، وكانوا ألفي رجل ، الحكم بن أبي العاص ابنه كان صغيرا إذ ذاك ، فإنه من أقران ومروان ابن الزبير عمره حين الفتح سن التمييز : إما سبع سنين ، أو أكثر بقليل ، أو أقل بقليل ، فلم يكن والمسور بن مخرمة ، ذنب يطرد عليه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم تكن الطلقاء تسكن لمروان بالمدينة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإن كان قد طرده ، فإنما طرده من مكة لا من المدينة ، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة . وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه ، وقالوا : هو ذهب باختياره .
وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح ، ولا لها إسناد يعرف به أمرها .
ومن الناس من يروي أنه حاكى [2] النبي - صلى الله عليه وسلم - في مشيته ، ومنهم من يقول غير ذلك ، ويقولون : إنه نفاه إلى الطائف .
[ ص: 266 ] والطلقاء ليس فيهم من هاجر ، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية [3] .
ولما [4] قدم مهاجرا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - [ بالرجوع ] صفوان بن أمية [5] إلى مكة . ولما أتاه برجل العباس [6] ليبايعه على الهجرة وأقسم عليه ، أخذ بيده وقال : " [7] أبررت قسم عمي ولا هجرة بعد الفتح " . [ إني ]
وكان قد خرج من العباس مكة إلى المدينة قبل وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - [ إليها ] [8] عام الفتح ، فلقيه في الطريق . فلم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة . فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة .
وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم ، وقالوا : هو ذهب باختياره .
والطرد هو النفي ، . وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عزر رجلا بالنفي ، لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان ، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب ، والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين ، وكانوا يعزرون بالنفي [9] ، بل غاية النفي المقدر سنة ، وهو نفي الزاني والمخنث حتى يتوب من التخنيث ، فإن كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب منه ، فإذا تاب سقطت العقوبة عنه ، وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادي لم يقدر فيه قدر ، ولم يوقت فيه وقت . ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه [ ص: 267 ] منفيا [ دائما ]
وإذا كان كذلك ، فالنفي كان في آخر الهجرة ، فلم تطل مدته في زمن أبي بكر . فلما كان وعمر طالت مدته ، وقد كان عثمان شفع في عثمان عبد الله بن أبي سرح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان كاتبا للوحي ، وارتد عن الإسلام ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أهدر دمه فيمن أهدر ، ثم جاء [ به ] [10] فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعته فيه وبايعه ، فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم ؟ ! عثمان
وقد رووا أن سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرده فأذن له في ذلك . ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عثمان عبد الله بن سعيد بن أبي سرح . وقصة [ عبد الله ] ثابتة [11] معروفة بالإسناد الثابت . وأما قصة الحكم فعامة من ذكرها إنما ذكرها مرسلة ، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه ، وقل أن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان ، فلم يكن هنا [12] نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون . عثمان
[ ص: 268 ] والمعلوم من فضائل ، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، وثنائه عليه ، وتخصيصه بابنتيه ، وشهادته له بالجنة ، وإرساله إلى عثمان مكة ، ومبايعته له عنه لما أرسله إلى مكة ، وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة ، وشهادة وغيره له بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو عنه راض ، وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين ، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ، ولا يعرف كيف وقع ، ويجعل عمر ذنب بأمر لا يعرف حقيقته ، بل مثل هذا مثل الذين يعارضون المحكم بالمتشابه ، وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ ، الذين يبتغون الفتنة . لعثمان
( * ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة * ) [13] الذين ذمهم الله ورسوله .
وبالجملة ، فنحن نعلم قطعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يأمر بنفي أحد دائما ثم يرده معصية لله ورسوله ، ولا ينكر ذلك عليه المسلمون . وكان عثمان - رضي الله عنه - أتقى لله من أن يقدم على مثل هذا عثمان [14] ، بل هذا مما يدخله الاجتهاد ، فلعل أبا بكر - رضي الله عنهما - لم يرداه لأنه لم يطلب ذلك منهما ، وطلبه من وعمر ، فأجابه إلى ذلك ، أو لعله لم يتبين لهما توبته ، وتبين ذلك عثمان . وغاية ما يقدر أن يكون هذا خطأ من الاجتهاد أو ذنبا ، وقد تقدم الكلام على ذلك . لعثمان
[ ص: 269 ] وأما استكتابه ، مروان لم يكن له في ذلك ذنب ، لأنه كان صغيرا لم يجر عليه القلم ، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - فمروان لم يبلغ [ الحلم ] ومروان [15] باتفاق أهل العلم ، بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها ، وكان مسلما باطنا وظاهرا ، يقرأ القرآن ويتفقه في الدين ، ولم يكن قبل الفتنة معروفا بشيء يعاب به [16] ، فلا ذنب في استكتابه . لعثمان
وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من ، ولم يكن مروان ممن يحاد الله ورسوله . مروان
وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء ، والطلقاء حسن إسلام أكثرهم ، وبعضهم فيه نظر . ومجرد ذنب يعزر عليه لا يوجب أن يكون منافقا في الباطن .
والمنافقون تجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام ، ولم يكن أحد من الطلقاء بعد الفتح يظهر المحادة لله ورسوله ، بل يرث ويورث ، ويصلى عليه ، ويدفن في مقابر المسلمين ، وتجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على غيره .
وقد عرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أبي [ ابن سلول ] [17] وأمثاله ، ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحيانا ، كما تعصب سعد بن عبادة لابن أبي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 270 ] وسلم - ، وقال لسعد بن معاذ : " والله لا تقتله ولا تقدر على قتله " [18] . وهذا وإن كان ذنبا من سعد لم يخرجه ذلك عن الإيمان ، بل سعد من أهل الجنة ، ومن السابقين الأولين من الأنصار . فكيف إذا آوى رجلا لا يعرف أنه منافق ؟ ! بعثمان
ولو كان منافقا لم يكن الإحسان إليه موجبا للطعن [ في ] فإن الله عثمان [19] - تعالى - يقول : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) [ سورة الممتحنة : 8 ] [20] .
وقد ثبت في الصحيح أن قالت : يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال : " أسماء بنت أبي بكر " نعم صلي أمك [21] .
وقد أوصت لقرابة لها من صفية بنت حيي بن أخطب اليهود .
! فإذا كان الرجل المؤمن قد يصل أقاربه الكفار ، ولا يخرجه ذلك عن الإيمان ، فكيف إذا وصل أقاربه المسلمين ، وغاية ما فيهم أن يتهموا بالنفاق ؟
[ ص: 271 ] و [ [22] بنت حيي بن أخطب كان أبوها من رءوس أم المؤمنين ] صفية اليهود [23] المحادين لله ورسوله ، وكانت هي امرأة صالحة من أمهات المؤمنين المشهود لها بالجنة ، ولما ماتت أوصت لبعض أقاربها من اليهود [24] ، وكان ذلك مما تحمد عليه لا مما تذم عليه .
وهذا مما احتج به الفقهاء على جواز صلة المسلم لأهل الذمة بالصدقة عليهم ، والوصية لهم . فكيف بأمير المؤمنين إذا أحسن إلى عمه المظهر للإسلام ؟ !
وهذا لما كاتب المشركين بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل الجنة لشهوده حاطب بن أبي بلتعة بدرا والحديبية ، وقال لمن قال : إنه منافق : " [25] اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ما يدريك لعل الله [26] .
وأين من حاطب ؟ فلو قدر - والعياذ بالله - أن عثمان فعل مع أقاربه ما هو من هذا الجنس ، لكان إحساننا القول فيه ، والشهادة له بالجنة أولى بذلك من عثمان . حاطب بن أبي بلتعة