الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " إنه نفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا ، مع أن [ ص: 272 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حقه : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي [1] لهجة أصدق من أبي ذر . وقال : إن الله أوحى إلي أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم . فقيل له : من هم يا رسول الله ؟ قال : علي سيدهم ، وسلمان ، والمقداد ، وأبو ذر " .

                  فالجواب : أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس ، فإن أبا ذر - رضي الله عنه - كان [2] رجلا صالحا زاهدا ، وكان من مذهبه أن الزهد واجب ، وأن ما أمسكه الإنسان [3] فاضلا عن حاجته فهو كنز يكوى به في النار ، واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة . احتج [4] بقوله - تعالى - : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) [ سورة التوبة : 34 ] ، وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة ، واحتج بما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه قال : " يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثالثة [5] وعندي منه دينار ، إلا دينارا أرصده لدين " . وأنه قال : " الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة ، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا [6] " .

                  [ ص: 273 ] ولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالا ، جعل أبو ذر ذلك [7] من الكنز الذي يعاقب عليه ، وعثمان يناظره في ذلك ، حتى دخل كعب ووافق عثمان ، فضربه أبو ذر ، وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب .

                  وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك ، كما يذكر عن عبد الواحد بن زيد ونحوه . ومن الناس من يجعل الشبلي من أرباب هذا القول . وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول .

                  [ فإنه قد ثبت ] في الصحيح [8] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود صدقة ، وليس فيما دون خمس [9] أواق صدقة " [10] . فنفى الوجوب فيما دون المائتين ، ولم يشترط كون صاحبها محتاجا إليها أم لا .

                  وقال جمهور الصحابة : الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه ، وقد قسم [ ص: 274 ] الله - تعالى - المواريث في القرآن ، ولا يكون الميراث إلا لمن خلف مالا . وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من الأنصار ، بل ومن المهاجرين . وكان غير واحد من الأنبياء له مال .

                  وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ، ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه ، مع أنه مجتهد في ذلك ، مثاب على طاعته - رضي الله عنه - كسائر المجتهدين من أمثاله .

                  وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه إيجاب ، إنما قال : " ما أحب أن يمضي علي ثالثة وعندي منه شيء " فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه . وكذا قوله " المكثرون هم المقلون " دليل على أن من كثر ماله قلت حسناته يوم القيامة إذا لم يكثر الإخراج [11] منه ، وذلك لا يوجب أن يكون [ الرجل ] القليل الحسنات [12] من أهل النار ، إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة [ من فرائض الله ] .

                  وكان [13] عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقوم رعيته [ تقويما تاما ] [14] ، فلا يعتدي [15] لا الأغنياء ولا الفقراء . فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا ، حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار [16] [ ص: 275 ] والنوع ، وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات . وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين .

                  فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب ، ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض [17] .

                  وأما كون أبي ذر من أصدق الناس ، فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره ، بل كان أبو ذر مؤمنا ضعيفا . كما [ ثبت ] [18] في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له : " يا أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي . لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم " [19] .

                  و [ قد ثبت عنه ] في الصحيح [20] أنه قال : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير " [21] .

                  وأهل [22] الشورى مؤمنون أقوياء ، وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء .

                  [ ص: 276 ] فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة ، كعثمان ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، أفضل من أبي ذر وأمثاله [23]

                  والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي [24] ضعيف ، بل موضوع [25] ، وليس له إسناد يقوم به .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية