الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 265 ] وقوله : " وطرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ، ومعه ابنه مروان ، فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، فلما ولي عثمان آواه ورده إلى المدينة ، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره . مع أن الله قال : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) [ الآية ] [1] [ سورة المجادلة : 22 ] .

                  والجواب : أن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح ، وكانوا ألفي رجل ، ومروان ابنه كان صغيرا إذ ذاك ، فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة ، عمره حين الفتح سن التمييز : إما سبع سنين ، أو أكثر بقليل ، أو أقل بقليل ، فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإن كان قد طرده ، فإنما طرده من مكة لا من المدينة ، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة . وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه ، وقالوا : هو ذهب باختياره .

                  وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح ، ولا لها إسناد يعرف به أمرها .

                  ومن الناس من يروي أنه حاكى [2] النبي - صلى الله عليه وسلم - في مشيته ، ومنهم من يقول غير ذلك ، ويقولون : إنه نفاه إلى الطائف .

                  [ ص: 266 ] والطلقاء ليس فيهم من هاجر ، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " [3] .

                  ولما [4] قدم صفوان بن أمية مهاجرا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - [ بالرجوع ] [5] إلى مكة . ولما أتاه العباس برجل [6] ليبايعه على الهجرة وأقسم عليه ، أخذ بيده وقال : " [ إني ] [7] أبررت قسم عمي ولا هجرة بعد الفتح " .

                  وكان العباس قد خرج من مكة إلى المدينة قبل وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - [ إليها ] [8] عام الفتح ، فلقيه في الطريق . فلم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة . فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة .

                  وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم ، وقالوا : هو ذهب باختياره .

                  والطرد هو النفي ، والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين ، وكانوا يعزرون بالنفي . وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عزر رجلا بالنفي ، لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان ، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب ، ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه [ ص: 267 ] منفيا [ دائما ] [9] ، بل غاية النفي المقدر سنة ، وهو نفي الزاني والمخنث حتى يتوب من التخنيث ، فإن كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب منه ، فإذا تاب سقطت العقوبة عنه ، وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادي لم يقدر فيه قدر ، ولم يوقت فيه وقت .

                  وإذا كان كذلك ، فالنفي كان في آخر الهجرة ، فلم تطل مدته في زمن أبي بكر وعمر . فلما كان عثمان طالت مدته ، وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن أبي سرح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان كاتبا للوحي ، وارتد عن الإسلام ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أهدر دمه فيمن أهدر ، ثم جاء [ به ] [10] عثمان فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعته فيه وبايعه ، فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم ؟ !

                  وقد رووا أن عثمان سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرده فأذن له في ذلك . ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعيد بن أبي سرح . وقصة [ عبد الله ] ثابتة [11] معروفة بالإسناد الثابت . وأما قصة الحكم فعامة من ذكرها إنما ذكرها مرسلة ، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه ، وقل أن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان ، فلم يكن هنا [12] نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان .

                  [ ص: 268 ] والمعلوم من فضائل عثمان ، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، وثنائه عليه ، وتخصيصه بابنتيه ، وشهادته له بالجنة ، وإرساله إلى مكة ، ومبايعته له عنه لما أرسله إلى مكة ، وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة ، وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو عنه راض ، وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين ، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ، ولا يعرف كيف وقع ، ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا يعرف حقيقته ، بل مثل هذا مثل الذين يعارضون المحكم بالمتشابه ، وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ ، الذين يبتغون الفتنة .

                  ( * ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة * ) [13] الذين ذمهم الله ورسوله .

                  وبالجملة ، فنحن نعلم قطعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يأمر بنفي أحد دائما ثم يرده عثمان معصية لله ورسوله ، ولا ينكر ذلك عليه المسلمون . وكان عثمان - رضي الله عنه - أتقى لله من أن يقدم على مثل هذا [14] ، بل هذا مما يدخله الاجتهاد ، فلعل أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - لم يرداه لأنه لم يطلب ذلك منهما ، وطلبه من عثمان ، فأجابه إلى ذلك ، أو لعله لم يتبين لهما توبته ، وتبين ذلك لعثمان . وغاية ما يقدر أن يكون هذا خطأ من الاجتهاد أو ذنبا ، وقد تقدم الكلام على ذلك .

                  [ ص: 269 ] وأما استكتابه مروان ، فمروان لم يكن له في ذلك ذنب ، لأنه كان صغيرا لم يجر عليه القلم ، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ومروان لم يبلغ [ الحلم ] [15] باتفاق أهل العلم ، بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها ، وكان مسلما باطنا وظاهرا ، يقرأ القرآن ويتفقه في الدين ، ولم يكن قبل الفتنة معروفا بشيء يعاب به [16] ، فلا ذنب لعثمان في استكتابه .

                  وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان ، ولم يكن مروان ممن يحاد الله ورسوله .

                  وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء ، والطلقاء حسن إسلام أكثرهم ، وبعضهم فيه نظر . ومجرد ذنب يعزر عليه لا يوجب أن يكون منافقا في الباطن .

                  والمنافقون تجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام ، ولم يكن أحد من الطلقاء بعد الفتح يظهر المحادة لله ورسوله ، بل يرث ويورث ، ويصلى عليه ، ويدفن في مقابر المسلمين ، وتجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على غيره .

                  وقد عرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أبي [ ابن سلول ] [17] وأمثاله ، ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحيانا ، كما تعصب سعد بن عبادة لابن أبي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 270 ] وسلم - ، وقال لسعد بن معاذ : " والله لا تقتله ولا تقدر على قتله " [18] . وهذا وإن كان ذنبا من سعد لم يخرجه ذلك عن الإيمان ، بل سعد من أهل الجنة ، ومن السابقين الأولين من الأنصار . فكيف بعثمان إذا آوى رجلا لا يعرف أنه منافق ؟ !

                  ولو كان منافقا لم يكن الإحسان إليه موجبا للطعن [ في عثمان ] فإن الله [19] - تعالى - يقول : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) [ سورة الممتحنة : 8 ] [20] .

                  وقد ثبت في الصحيح أن أسماء بنت أبي بكر قالت : يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال : " نعم صلي أمك " [21] .

                  وقد أوصت صفية بنت حيي بن أخطب لقرابة لها من اليهود .

                  فإذا كان الرجل المؤمن قد يصل أقاربه الكفار ، ولا يخرجه ذلك عن الإيمان ، فكيف إذا وصل أقاربه المسلمين ، وغاية ما فيهم أن يتهموا بالنفاق ؟ !

                  [ ص: 271 ] و [ أم المؤمنين ] صفية [22] بنت حيي بن أخطب كان أبوها من رءوس اليهود [23] المحادين لله ورسوله ، وكانت هي امرأة صالحة من أمهات المؤمنين المشهود لها بالجنة ، ولما ماتت أوصت لبعض أقاربها من اليهود [24] ، وكان ذلك مما تحمد عليه لا مما تذم عليه .

                  وهذا مما احتج به الفقهاء على جواز صلة المسلم لأهل الذمة بالصدقة عليهم ، والوصية لهم . فكيف بأمير المؤمنين إذا أحسن إلى عمه المظهر للإسلام ؟ !

                  وهذا حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل الجنة لشهوده بدرا والحديبية ، وقال لمن قال : إنه منافق : " ما يدريك لعل الله [25] اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " [26] .

                  وأين حاطب من عثمان ؟ فلو قدر - والعياذ بالله - أن عثمان فعل مع أقاربه ما هو من هذا الجنس ، لكان إحساننا القول فيه ، والشهادة له بالجنة أولى بذلك من حاطب بن أبي بلتعة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية