وأما إلى أبا ذر الربذة وضربه ضربا وجيعا ، مع أن [ ص: 272 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حقه : [1] لهجة أصدق من أبي ذر ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي . وقال : قوله : " إنه نفى سيدهم ، علي ، وسلمان والمقداد ، وأبو ذر " . إن الله أوحى إلي أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم . فقيل له : من هم يا رسول الله ؟ قال :
فالجواب : أن سكن أبا ذر الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس ، فإن - رضي الله عنه - كان أبا ذر [2] رجلا صالحا زاهدا ، وكان من مذهبه أن الزهد واجب ، وأن ما أمسكه الإنسان [3] فاضلا عن حاجته فهو كنز يكوى به في النار ، واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة . احتج [4] بقوله - تعالى - : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) [ سورة التوبة : 34 ] ، وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة ، واحتج بما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه قال : " ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثالثة أبا ذر [5] وعندي منه دينار ، إلا دينارا أرصده لدين " . وأنه قال : " يا الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة ، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا [6] " .
[ ص: 273 ] ولما توفي وخلف مالا ، جعل عبد الرحمن بن عوف ذلك أبو ذر [7] من الكنز الذي يعاقب عليه ، يناظره في ذلك ، حتى دخل وعثمان كعب ووافق ، فضربه عثمان ، وكان قد وقع بينه وبين أبو ذر معاوية بالشام بهذا السبب .
وقد وافق على هذا طائفة من النساك ، كما يذكر عن أبا ذر عبد الواحد بن زيد ونحوه . ومن الناس من يجعل الشبلي من أرباب هذا القول . وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول .
[ فإنه قد ثبت ] في الصحيح [8] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " [9] أواق صدقة " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود صدقة ، وليس فيما دون خمس [10] . فنفى الوجوب فيما دون المائتين ، ولم يشترط كون صاحبها محتاجا إليها أم لا .
وقال جمهور الصحابة : وقد قسم [ ص: 274 ] الله - تعالى - المواريث في القرآن ، ولا يكون الميراث إلا لمن خلف مالا . وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه ، الأنصار ، بل ومن المهاجرين . وكان غير واحد من الأنبياء له مال .
وكان يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ، ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه ، مع أنه مجتهد في ذلك ، مثاب على طاعته - رضي الله عنه - كسائر المجتهدين من أمثاله . أبو ذر
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه إيجاب ، إنما قال : " ما أحب أن يمضي علي ثالثة وعندي منه شيء " فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه . وكذا قوله " " دليل على أن من كثر ماله قلت حسناته يوم القيامة إذا لم يكثر الإخراج المكثرون هم المقلون [11] منه ، وذلك لا يوجب أن يكون [ الرجل ] القليل الحسنات [12] من أهل النار ، إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة [ من فرائض الله ] .
وكان [13] - رضي الله عنه - يقوم رعيته [ تقويما تاما ] عمر بن الخطاب [14] ، فلا يعتدي [15] لا الأغنياء ولا الفقراء . فلما كان في خلافة توسع الأغنياء في الدنيا ، حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار عثمان [16] [ ص: 275 ] والنوع ، وتوسع في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات . وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين . أبو ذر
فكان اعتزال لهذا السبب ، ولم يكن أبي ذر مع لعثمان غرض من الأغراض أبي ذر [17] .
وأما كون من أصدق الناس ، فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره ، بل كان أبي ذر مؤمنا ضعيفا . كما [ ثبت ] أبو ذر [18] في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له : " إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي . لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم أبا ذر " يا [19] .
و [ قد ثبت عنه ] في الصحيح [20] أنه قال : " " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير [21] .
وأهل [22] الشورى مؤمنون أقوياء ، وأمثاله مؤمنون ضعفاء . وأبو ذر
[ ص: 276 ] فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة ، ، كعثمان ، وعلي ، أفضل من وعبد الرحمن بن عوف وأمثاله أبي ذر [23]
والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي [24] ضعيف ، بل موضوع [25] ، وليس له إسناد يقوم به .