الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة ، وهو بدعة ، فصار [1] سنة إلى الآن " .

                  فالجواب : أن عليا - رضي الله عنه - كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله . ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة هذا الأذان ، كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان ، بل أمر بعزل معاوية وغيره . ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك [ ومقاتلتهم التي عجز عنها ، فكان على إزالة هذه البدعة من الكوفة ونحوها من أعماله أقدر منه على إزالة أولئك ، ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه ] [2] .

                  فإن قيل : كان الناس لا يوافقونه على إزالتها .

                  قيل : فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها ، حتى الذين قاتلوا مع علي ، كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين . وإلا فهؤلاء الذين هم أكابر الصحابة لو أنكروا ذلك لم يخالفهم غيرهم ، وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر [ ص: 291 ] هذا [3] ومنهم من لا ينكره ، كان ذلك من مسائل الاجتهاد ، ولم يكن [4] هذا مما يعاب به عثمان .

                  وقول القائل : هي بدعة . إن أراد بذلك أنه لم يكن يفعل قبل ذلك ، فكذلك قتال أهل القبلة بدعة ، فإنه لم يعرف أن إماما قاتل أهل القبلة قبل علي . وأين قتال أهل القبلة من الأذان ؟ !

                  فإن قيل : بل البدعة ما فعل بغير دليل شرعي .

                  قيل لهم : فمن أين [5] لكم أن عثمان فعل هذا بغير دليل شرعي ؟ وأن [6] عليا قاتل أهل القبلة بدليل شرعي ؟

                  [ وأيضا ] فإن علي [ بن أبي طالب ] - رضي الله عنه - [7] أحدث في خلافته العيد الثاني بالجامع ، فإن السنة المعروفة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان أنه لا يصلى في المصر إلا جمعة واحدة ، ولا يصلى يوم النحر والفطر إلا عيد واحد . والجمعة كانوا يصلونها في المسجد ، والعيد يصلونه بالصحراء . وكان [8] النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة وعرفة قبل الصلاة ، وفي العيد بعد الصلاة . واختلف عنه في الاستسقاء .

                  فلما كان على عهد علي قيل له : إن بالبلد [9] ضعفاء لا يستطيعون [ ص: 292 ] الخروج إلى المصلى ، فاستخلف عليهم رجلا صلى [10] بالناس بالمسجد . قيل : إنه صلى ركعتين بتكبير ، وقيل : بل صلى أربعا بلا تكبير .

                  وأيضا فإن ابن عباس عرف في خلافة علي بالبصرة ، ولم يرو عن علي [11] أنه أنكر ذلك .

                  وما فعله عثمان من النداء الأول اتفق عليه الناس بعده : أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ، كما اتفقوا على ما سنه أيضا عمر من جمع الناس في رمضان على إمام واحد .

                  وأما ما سنه علي من إقامة عيدين [12] فتنازع العلماء فيه وفي الجمعة على ثلاثة أقوال . قيل : إنه لا يشرع في المصر إلا جمعة واحدة وعيد واحد ، كقول مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة ، لأنه السنة . وقيل : بل يشرع تعدد صلاة العيد في المصر دون الجمعة ، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين . لكن قائل هذا بناه على أن صلاة العيد لا يشترط لها الإقامة والعدد كما يشترط للجمعة . وقالوا : إنها تصلى في الحضر والسفر [13] . وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين . وقيل : بل يجوز عند الحاجة أن تصلى جمعتان في المصر ، كما صلى علي عيدين للحاجة . وهذا مذهب أحمد بن حنبل في المشهور عنه ، وأكثر أصحاب أبي حنيفة ، وأكثر المتأخرين من [ ص: 293 ] أصحاب الشافعي . وهؤلاء يحتجون بفعل علي [ بن أبي طالب ] [14] لأنه من الخلفاء الراشدين .

                  وكذلك أحمد بن حنبل جوز التعريف بالأمصار ، واحتج بأن ابن عباس فعله بالبصرة . وكان ذلك في خلافة علي ، وكان ابن عباس نائبه بالبصرة . فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون عليا فيما سنه ، كما يتبعون عمر وعثمان فيما سناه . وآخرون من العلماء ، كمالك وغيره ، لا يتبعون عليا فيما سنه ، وكلهم متفقون على اتباع عمر وعثمان فيما سناه . فإن جاز القدح في عمر وعثمان فيما سناه - وهذا حاله - فلأن يقدح في علي فيما سنه - وهذا حاله - بطريق الأولى .

                  وإن قيل بأن ما فعله علي سائغ لا يقدح فيه ، لأنه باجتهاده ، أو لأنه سنة يتبع فيه ، فلأن يكون ما فعله عمر وعثمان كذلك بطريق الأولى .

                  ومن هذا الباب ما يذكر مما فعله [15] عمر ، مثل تضعيف الصدقة ، التي هي جزية في المعنى ، على نصارى بني تغلب ، وأمثال ذلك .

                  ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئا فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين ، ولم ينكروه عليه ، واتبعه [16] المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة ، وهم قد زادوا في الأذان شعارا لم يكن يعرف على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ولا نقل [17] أحد أن النبي - صلى الله عليه [ ص: 294 ] وسلم ] - [18] أمر بذلك في الأذان ، وهو قولهم : " حي على خير العمل " .

                  وغاية ما ينقل إن صح النقل ، أن بعض الصحابة ، كابن عمر - رضي الله عنهما - ، كان يقول ذلك أحيانا على سبيل التوكيد ، كما كان بعضهم يقول بين النداءين : حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، وهذا يسمى نداء الأمراء ، [ وبعضهم يسميه التثويب ] [19] ورخص [20] فيه بعضهم ، وكرهه أكثر العلماء ، ورووا عن عمر وابنه وغيرهما كراهة [21] ذلك .

                  ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان ، الذي كان يؤذنه بلال [22] وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، وأبو محذورة [23] بمكة ، وسعد القرظ في قباء ، لم يكن فيه هذا الشعار الرافضي . ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يهملوه ، كما نقلوا ما هو أيسر منه . فلما لم يكن في الذين نقلوا الأذان من ذكر هذه الزيادة ، علم [24] أنها بدعة باطلة .

                  وهؤلاء الأربعة كانوا يؤذنون بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم ، ومنه تعلموا الأذان ، وكانوا يؤذنون في أفضل المساجد : مسجد مكة ، ومسجد المدينة ، ومسجد قباء . وأذانهم متواتر عند العامة والخاصة .

                  [ ص: 295 ] ومعلوم أن نقل المسلمين للأذان أعظم من نقلهم إعراب آية ، كقوله : ( وأرجلكم ) ونحو ذلك . ولا شيء أشهر في [25] شعائر الإسلام من الأذان ، فنقله أعظم من نقل [ سائر ] [26] شعائر الإسلام .

                  وإن قيل : فقد اختلف في صفته [27] .

                  قيل : بل كل ما ثبت به النقل فهو صحيح سنة ، ولا ريب أن تعليم [ النبي - صلى الله عليه وسلم - ] أبا محذورة [28] الأذان [29] ، وفيه الترجيع ، والإقامة مثناة كالأذان . ولا ريب أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ، ولم يكن في أذانه ترجيع . فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب ، ونقل تثنيتها صحيح بلا ريب ، وأهل العلم بالحديث يصححون هذا وهذا .

                  وهذا مثل أنواع التشهدات [30] المنقولات . ولكن اشتهر بالحجاز آخرا إفراد الإقامة التي علمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالا [31] . وأما الترجيع فهو يقال سرا . وبعض الناس يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه لأبي محذورة ليثبت الإيمان في قلبه ، لا أنه من الأذان . فقد اتفقوا على [ ص: 296 ] أنه لقنه أبا محذورة ، فلم يبق بين الناس خلاف في نقل الأذان المعروف .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية