ولهذا الرافضة التقية ، وهي أن يظهر خلاف ما يبطن كما يفعل المنافق . وقد كان المسلمون في أول الإسلام في غاية الضعف والقلة ، وهم يظهرون دينهم لا يكتمونه . رأس مال
والرافضة يزعمون أنهم يعملون بهذه الآية : قوله تعالى : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه ) [ سورة آل عمران : 28 ] ويزعمون أنهم هم المؤمنون ، وسائر أهل القبلة كفار ، مع أن لهم في تكفير الجمهور قولين . لكن قد رأيت غير واحد من أئمتهم يصرح في كتبه [ ص: 422 ] وفتاويه بكفر الجمهور ، وأنهم مرتدون ، ودارهم دار ردة ، يحكم بنجاسة مائعها ، وأن من انتقل إلى قول الجمهور منهم ثم تاب لم تقبل توبته ، لأن المرتد الذي يولد على الفطرة لا يقبل [ منه ] [1] الرجوع إلى الإسلام .
وهذا في المرتد عن الإسلام قول لبعض السلف ، وهو رواية عن . قالوا : لأن المرتد من كان كافرا فأسلم ، ثم رجع إلى الكفر ، بخلاف من يولد مسلما . الإمام أحمد
فجعل هؤلاء هذا في سائر الأمة ، فهم عندهم كفار ، فمن صار منهم إلى مذهبهم كان مرتدا .
وهذه الآية حجة عليهم ، فإن هذه الآية خوطب بها أولا من كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المؤمنين ، فقيل لهم : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) [ سورة آل عمران : 28 ] . وهذه الآية مدنية باتفاق العلماء فإن سورة آل عمران كلها مدنية ، وكذلك البقرة والنساء والمائدة .
بالمدينة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أحد منهم يكتم إيمانه ولا يظهر للكفار أنه منهم ، كما يفعله الرافضة مع الجمهور . ومعلوم أن المؤمنين
وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت بسبب أن بعض المسلمين أراد إظهار مودة الكفار فنهوا عن ذلك . وهم لا يظهرون المودة للجمهور . وفي رواية الضحاك عن أن ابن عباس كان له حلفاء من [ ص: 423 ] عبادة بن الصامت اليهود ، فقال : يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو ، فنزلت هذه الآية .
وفي رواية أبي صالح أن عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ويأتونهم بالأخبار ، يرجون لهم الظفر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم .
وروي عن أن قوما من ابن عباس اليهود كانوا يباطنون قوما من الأنصار ، ليفتنوهم عن دينهم ، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك ، وقالوا : اجتنبوا هؤلاء . فأبوا ، فنزلت هذه الآية .
وعن مقاتل بن حيان أنها نزلت في ومقاتل بن سليمان وغيره ، كانوا يظهرون المودة لكفار حاطب بن أبي بلتعة مكة ، فنهاهم الله عن ذلك .
والرافضة من أعظم الناس إظهارا لمودة أهل السنة ، ولا يظهر أحدهم دينه ، حتى إنهم يحفظون من فضائل الصحابة ، والقصائد التي في مدحهم ، وهجاء الرافضة ما يتوددون به إلى أهل السنة ، ولا يظهر أحدهم دينه ، كما كان المؤمنون يظهرون دينهم للمشركين وأهل الكتاب . فعلم أنهم من أبعد الناس عن العمل بهذه الآية .
وأما قوله تعالى : ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) [ سورة آل عمران : 28 ] قال : إلا مصانعة مجاهد [2] .
والتقاة ليست بأن أكذب [3] وأقول بلساني ما ليس في قلبي ، فإن هذا نفاق ، ولكن أفعل ما أقدر عليه .
[ ص: 424 ] كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " [4] .
فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه ، ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه ، مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه ، إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه ، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله ، بل غايته [5] أن يكون كمؤمن [ آل ] [6] فرعون - وامرأة فرعون - وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم ، ولا كان يكذب ، ولا يقول [7] بلسانه ما ليس في قلبه ، بل كان يكتم إيمانه .
وكتمان الدين شيء ، وإظهار الدين الباطل شيء آخر . فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره ، بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر . والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره .
والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين ، لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإن هذا الإكراه لا يكون [ ص: 425 ] عاما من جمهور بني آدم ، بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا [8] في بلاد الكفر ، ولا أحد يكرهه على كلمة الكفر ، ولا يقولها ، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم ، وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، بل يكتم ما في قلبه .
وفرق بين الكذب وبين الكتمان . فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار ، كمؤمن آل فرعون . وأما الذي يتكلم بالكفر ، فلا يعذره إلا إذا أكره . والمنافق الكذاب لا يعذر بحال ، ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب . ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه ، وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه ; لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح ، وإرادة الخير بهم ، وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم ، كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارا ، وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ، ومع هذا كان يعظم موسى ويقول : ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ) [ سورة غافر : 2 ] .
وأما ، فهو لا يألوهم خبالا ، ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم ، وهو ممقوت عند من لا يعرفه ، وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول ، ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه ، لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه . الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق ، فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد ، يحمله على الكذب والخيانة ، وغش الناس ، وإرادة السوء بهم
[ ص: 426 ] والمؤمن معه عزة الإيمان [9] ، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين . ثم هم يدعون الإيمان دون الناس ، والذلة فيهم أكثر منها في سائر الطوائف من المسلمين .
وقد قال تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) [ سورة غافر : 51 ] . وهم أبعد طوائف أهل الإسلام عن النصرة ، وأولاهم بالخذلان . فعلم أنهم أقرب [10] طوائف [ أهل ] [11] الإسلام إلى النفاق ، وأبعدهم عن الإيمان .
وآية ذلك أن المنافقين حقيقة ، الذين ليس فيهم إيمان من الملاحدة ، يميلون إلى الرافضة ، والرافضة تميل إليهم أكثر من سائر الطوائف .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف " [12] . وقال - رضي الله عنه - : اعتبروا الناس بأخدانهم . ابن مسعود
فعلم أن بين أرواح الرافضة وأرواح المنافقين اتفاقا [13] محضا : قدرا مشتركا وتشابها ، وهذا لما في الرافضة من النفاق ، فإن النفاق شعب .
كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أربع [ ص: 427 ] من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " [14] . وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : وفي رواية " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " : لمسلم " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم " [15] .
والقرآن يشهد لهذا فإن الله وصف المنافقين في غير موضع بالكذب والغدر والخيانة . وهذه الخصال لا توجد في طائفة أكثر منها في الرافضة ، ولا أبعد منها عن أهل السنة المحضة المتبعين للصحابة ، فهؤلاء أولى الناس بشعب الإيمان وأبعدهم عن شعب النفاق ، والرافضة أولى الناس بشعب [16] النفاق وأبعدهم عن شعب الإيمان ، وسائر الطوائف قربهم إلى الإيمان وبعدهم عن [17] النفاق بحسب سنتهم وبدعتهم .
وهذا كله مما يبين أن القوم أبعد الطوائف عن [18] اتباع المعصوم الذي لا شك في عصمته ، وهو خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله . وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك ، فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق ، كما قد ذكر ذلك أهل العلم .
[ ص: 428 ] ذكر غير واحد منهم أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على وعصمته كان منافقا زنديقا ، أراد فساد دين الإسلام ، وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع علي بولص بالنصارى ، لكن لم يتأت له ما تأتى لبولص ، لضعف دين النصارى وعقلهم ، فإن المسيح - صلى الله عليه وسلم - رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ، ويقومون به علما وعملا ، فلما ابتدع بولص ما ابتدعه من لغو في المسيح ، اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح ، ودخلت معهم ملوك ، فقام أهل الحق خالفوهم وأنكروا عليهم ، فقتلت الملوك بعضهم ، وداهن الملوك بعضهم ، وبعضهم اعتزلوا [19] في الصوامع والديارات .
وهذه الأمة - ولله الحمد - لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق ، فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على أهل الحق [20] ، ولكن يضل من يتبعه على ضلاله .
وأيضا فنواب المعصوم الذي يدعونه غير معصومين [21] في الجزئيات . وإذا كان كذلك فيقال : إذا كانت العصمة في الجزئيات غير واقعة ، وإنما الممكن العصمة في الكليات ، فالله تعالى قادر أن ينص على الكليات ، بحيث لا يحتاج في معرفتها إلى الإمام ولا غيره ، وقادر أيضا أن يجعل نص النبي أكمل من نص الإمام ، وحينئذ فلا يحتاج إلى عصمة الإمام ، لا في الكليات ولا في الجزئيات .