الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل قال الرافضي [1] : " البرهان السابع : قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) [ سورة الشورى : 23 ] روى أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) قالوا : يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم ؟ قال : " علي وفاطمة [ وابناهما ] [2] . وكذا [3] في تفسير الثعلبي ، ونحوه في الصحيحين . وغير علي [4] من الصحابة والثلاثة لا تجب مودته [5] ، فيكون علي أفضل ، فيكون هو الإمام ، ولأن مخالفته تنافي المودة ، وبامتثال أوامره تكون مودته [6] ، فيكون واجب الطاعة ، وهو معنى الإمامة " [7] . والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة هذا [8] الحديث . وقوله : [ ص: 96 ] " إن أحمد روى هذا في مسنده " كذب بين ، فإن [ هذا ] [9] مسند أحمد موجود ، به [10] من النسخ ما شاء الله ، وليس فيه هذا الحديث . وأظهر من ذلك كذبا قوله : إن نحو [11] هذا في الصحيحين ، وليس هو في الصحيحين ، بل فيهما وفي المسند ما يناقض ذلك . ولا ريب أن هذا الرجل وأمثاله جهال بكتب أهل العلم ، لا يطالعونها ولا يعلمون ما فيها . ورأيت بعضهم جمع لهم كتابا [12] في أحاديث من كتب متفرقة ، معزوة تارة إلى الصحيحين ، وتارة إلى مسند أحمد ، وتارة إلى المغازلي [13] والموفق خطيب خوارزم والثعلبي وأمثاله ، وسماه " الطرائف في الرد على الطوائف " . وآخر صنف كتابا لهم سماه " العمدة " واسم مصنفه ابن البطريق . وهؤلاء مع كثرة الكذب فيما يروونه ، فهم أمثل حالا من أبي جعفر محمد بن علي الذي صنف لهم وأمثاله ، فإن هؤلاء يروون من الأكاذيب ما لا يخفى إلا على من هو من أجهل الناس . ورأيت كثيرا من ذلك المعزو الذي عزاه أولئك إلى المسند والصحيحين وغيرهما باطلا لا حقيقة له ، يعزون إلى مسند أحمد ما ليس فيه أصلا . لكن أحمد صنف كتابا في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي [ وغيرهم ] [14] ، وقد يروي في هذا الكتاب ما ليس في المسند . وليس كل [ ص: 97 ] ما رواه أحمد في المسند وغيره يكون حجة عنده ، بل يروي ما رواه أهل العلم ، وشرطه في المسند أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عنده ، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف ، وشرطه في المسند مثل شرط أبي داود في سننه . وأما كتب الفضائل فيروي [15] ما سمعه من شيوخه ، سواء كان صحيحا أو ضعيفا ، فإنه لم يقصد أن لا يروي في ذلك إلا ما ثبت عنده . ثم زاد ابن أحمد زيادات ، وزاد أبو بكر القطيعي زيادات . وفي زيادات القطيعي زيادات كثيرة [ كذب ] [16] موضوعة ، فظن الجاهل أن تلك من رواية أحمد ، وأنه رواها في المسند . وهذا خطأ قبيح ; فإن الشيوخ المذكورين شيوخ القطيعي ، وكلهم [17] متأخر عن أحمد ، وهم ممن يروي عن أحمد ، لا ممن يروي أحمد عنه . وهذا مسند أحمد وكتاب " الزهد " له ، وكتاب " الناسخ والمنسوخ " وكتاب " التفسير " وغير ذلك من كتبه ، يقول : حدثنا وكيع ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبد الرزاق . فهذا أحمد . وتارة يقول : حدثنا أبو معمر القطيعي ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا أبو نصر التمار ، فهذا عبد الله . وكتابه في " فضائل الصحابة " له [18] فيه هذا وهذا ، وفيه من زيادات القطيعي . يقول : حدثنا أحمد بن عبد الجبار الصوفي وأمثاله ، ممن هو مثل عبد الله بن أحمد في الطبقة ، وهو ممن غايته أن يروي عن أحمد ، فإن أحمد ترك الرواية في آخر عمره ; لما طلب الخليفة أن يحدثه ويحدث ابنه [ ص: 98 ] ويقيم عنده ، فخاف على نفسه من فتنة الدنيا ، فامتنع من الحديث مطلقا ليسلم من ذلك ; ولأنه [19] كان قد حدث بما كان عنده قبل ذلك ، فكان يذكر الحديث بإسناده بعد شيوخه ، ولا يقول : حدثنا فلان ، فكان من يسمعون منه ذلك يفرحون بروايته عنه . فهذا القطيعي يروي عن شيوخه زيادات ، وكثير منها [20] كذب موضوع . وهؤلاء قد وقع لهم هذا الكتاب ولم ينظروا ما فيه من فضائل سائر [21] الصحابة ، بل اقتصروا على ما فيه من فضائل علي ، [22] ، وكلما زاد حديثا ظنوا أن القائل ذلك هو أحمد بن حنبل ، فإنهم لا يعرفون الرجال وطبقاتهم ، وأن شيوخ القطيعي يمتنع أن يروي أحمد [23] عنهم شيئا ، ثم إنهم [24] لفرط جهلهم ما سمعوا كتابا إلا المسند ، فلما ظنوا أن أحمد رواه ، وأنه إنما يروي في [25] المسند ، صاروا يقولون لما رواه القطيعي : رواه أحمد في المسند . هذا إن لم يزيدوا على القطيعي ما لم يروه ، فإن الكذب عندهم [26] غير مأمون ، ولهذا يعزو صاحب " الطرائف " وصاحب " العمدة " أحاديث يعزوها [27] إلى أحمد ، لم يروها أحمد لا في هذا ولا في هذا ، ولا سمعها أحد [28] [ ص: 99 ] قط . وأحسن حال هؤلاء أن تكون تلك مما رواه القطيعي ، وما رواه القطيعي فيه من الموضوعات القبيحة الوضع ما لا يخفى على عالم . ونقل هذا الرافضي من جنس صاحب كتاب " العمدة " و " الطرائف " فما أدري نقل منه [29] أو عمن [30] ينقل عنه ، وإلا فمن له بالنقل أدنى معرفة يستحيي أن يعزو مثل هذا الحديث إلى مسند أحمد والصحيحين ، والصحيحان والمسند نسخهما ملؤ الأرض ، وليس هذا في شيء منها . وهذا الحديث لم يرو في شيء من كتب العلم المعتمدة أصلا ، وإنما يروي مثل هذا من يحطب بالليل ، كالثعلبي وأمثاله ، الذين يروون الغث والسمين بلا تمييز . الوجه الثاني : أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، وهم المرجوع إليهم في هذا . وهذا [31] لا يوجد في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها [32] . الوجه الثالث : أن هذه الآية في سورة الشورى وهي مكية باتفاق أهل السنة ، بل جميع آل حم مكيات ، وكذلك آل طس . ومن المعلوم أن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر ، والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة ، والحسين في السنة الرابعة ، فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة ، فكيف يفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق [ بعد ] [33] ؟ ! . [ ص: 100 ] الوجه الرابع : أن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك . ففي الصحيحين عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس عن قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) [ سورة الشورى : 23 ] ، فقلت : أن لا تؤذوا [34] محمدا في قرابته . فقال ابن عباس : عجلت ، إنه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم قرابة ، فقال : لا أسألكم عليه أجرا ، لكن [ أسألكم ] أن تصلوا [35] القرابة التي بيني وبينكم [36] . فهذا ابن عباس ترجمان القرآن ، وأعلم أهل البيت بعد علي ، يقول : ليس معناها مودة ذوي القربى ، لكن معناها : لا أسألكم يا معشر العرب ويا معشر قريش عليه أجرا ، لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم ، فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولا أن يصلوا رحمه ، فلا يعتدوا عليه حتى يبلغ رسالة ربه [37] . [ ص: 101 ] الوجه الخامس : أنه قال : لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، لم يقل : إلا المودة للقربى ، ولا المودة لذوي القربى . فلو أراد المودة لذوي القربى لقال : المودة لذوي القربى ، كما قال : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) [ سورة الأنفال : 41 ] وقال : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى ) [ سورة الحشر : 7 ] . وكذلك قوله : ( فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ) [ سورة الروم : 38 ] ، وقوله : ( وآتى المال على حبه ذوي القربى ) [ سورة البقرة : 177 ] وهكذا في غير موضع . فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذوي قربى الإنسان إنما قيل فيها : ذوي القربى ، لم يقل : [ في ] القربى [38] . فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم دل على أنه لم يرد ذوي القربى . الوجه السادس : أنه لو أريد المودة لهم ; لقال : المودة لذوي القربى ، ولم يقل : في القربى . فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره : أسألك المودة في فلان ، ولا في قربى فلان ، ولكن أسألك المودة لفلان والمحبة لفلان . فلما قال : المودة في القربى ، علم أنه ليس المراد [39] لذوي القربى .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية