فصل .
قال الرافضي : [1] " السابع : ما رواه الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر خيبر تسعا وعشرين ليلة [2] ، وكانت الراية لأمير المؤمنين علي [3] ، فلحقه رمد أعجزه عن [ ص: 365 ] الحرب ، وخرج مرحب يتعرض للحرب فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، فقال له خذ الراية فأخذها في جمع من المهاجرين [4] ( فاجتهد ) [5] ، ولم يغن شيئا ، ورجع منهزما فلما كان من الغد تعرض لها عمر فسار غير بعيد ، ثم رجع يخبر أصحابه [6] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : جيئوني بعلي ، فقيل : إنه أرمد ، فقال : أرونيه أروني [7] رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ليس بفرار ، فجاءوا بعلي فتفل في يده ، ومسحها على عينيه [8] ورأسه فبرئ [9] فأعطاه [10] الراية ففتح الله على يديه [11] ، وقتل مرحبا [12] ، ووصفه عليه السلام بهذا الوصف يدل على انتفائه عن غيره ، وهو يدل على أفضليته فيكون هو الإمام .
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بتصحيح النقل ، وأما قوله : " رواه الجمهور " ، فإن الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا ، بل الذي [ ص: 366 ] في الصحيح أن عليا كان غائبا عن خيبر لم يكن حاضرا فيها تخلف عن الغزاة ; لأنه كان أرمد ، ثم إنه شق عليه التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلحقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم قبل قدومه : " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه " [13] .
ولم تكن الراية قبل ذلك لأبي بكر ، ولا لعمر ، ولا قربها واحد منهما ، بل هذا من الأكاذيب ، ولهذا قال عمر : " فما أحببت الإمارة إلا يومئذ ، وبات الناس كلهم يرجون أن يعطاها فلما أصبح دعا عليا فقيل له [14] : إنه أرمد فجاءه فتفل في عينيه [15] حتى برأ فأعطاه الراية " .
وكان هذا التخصيص جزاء مجيء علي مع الرمد ، وكان إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وعلي ليس بحاضر لا يرجونه من كراماته صلى الله عليه وسلم فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر ، وعمر أصلا .
الثاني : أن إخباره أن عليا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله حق ، وفيه رد على النواصب لكن الرافضة الذين يقولون إن الصحابة ارتدوا بعد موته لا يمكنهم الاستدلال بهذا ; لأنه الخوارج تقول لهم هو ممن ارتد أيضا ، كما قالوا لما حكم الحكمين إنك قد ارتددت عن الإسلام فعد إليه .
قال الأشعري في كتاب " المقالات " [16] : " أجمعت الخوارج على كفر علي " [17] .
[ ص: 367 ] وأما أهل السنة فيمكنهم الاستدلال على بطلان قول الخوارج بأدلة كثيرة لكنها مشتركة تدل على إيمان الثلاثة ، والرافضة تقدح فيها فلا يمكنهم إقامة دليل على الخوارج على أن عليا مات مؤمنا ، بل أي دليل ذكروه قدح فيه ما يبطله على أصلهم ; لأنه أصلهم فاسد .
وليس هذا الوصف من خصائص علي ، بل غيره يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله لكن فيه الشهادة لعينه [18] بذلك ، كما شهد لأعيان العشرة بالجنة ، وكما شهد لثابت بن قيس بالجنة ، وشهد لعبد الله حمار بأنه يحب الله ورسوله [19] ، وقد كان ضربه في الحد مرات .
وقول القائل : " إن هذا يدل على انتفاء هذا الوصف عن غيره " .
فيه جوابان : أحدهما : أنه إن سلم ذلك ، فإنه قال : " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه " .
فهذا المجموع اختص به ، وهو أن ذلك الفتح كان على يديه ، ولا يلزم إذا كان ذلك الفتح المعين على يديه أن يكون أفضل من غيره فضلا عن أن يكون مختصا بالإمامة .
الثاني : أن يقال : لا نسلم أن هذا يوجب التخصيص ، كما لو قيل : لأعطين هذا المال رجلا فقيرا ، أو رجلا صالحا ، ولأدعون اليوم رجلا مريضا صالحا ، أو لأعطين [20] هذه الراية رجلا شجاعا ، ونحو ذلك - لم [ ص: 368 ] يكن في هذه الألفاظ ما يوجب أن تلك الصفة لا توجد إلا في واحد ، بل هذا يدل على أن ذلك الواحد موصوف بذلك .
ولهذا لو نذر أن يتصدق بألف درهم على رجل صالح ، أو فقير فأعطى هذا المنذور لواحد لم يلزم أن يكون غيره ليس كذلك ، ولو قالوا : أعطوا هذا المال لرجل قد حج عني فأعطوه رجلا لم يلزم أن غيره لم يحج عنه .
الثالث : أنه لو قدر ثبوت أفضليته في ذلك الوقت فلا يدل ذلك على أن غيره لم يكن أفضل منه بعد ذلك .
الرابع : أنه لو قدرنا أفضليته [21] لم يدل ذلك على أنه إمام معصوم منصوص [22] عليه ، بل كثير من الشيعة الزيدية ، ومتأخري المعتزلة ، وغيرهم يعتقدون أفضليته [23] ، وأن الإمام هو أبو بكر ، وتجوز عندهم ولاية المفضول ، وهذا مما يجوزه كثير من غيرهم ممن يتوقف في تفضيله [24] بعض الأربعة على بعض ، أو ممن يرى أن هذه المسألة ظنية لا يقوم فيها دليل قاطع على فضيلة واحد معين ، فإن من لم يكن له خبرة بالسنة الصحيحة قد يشك في ذلك .
وأما أئمة المسلمين ، المشهورون فكلهم متفقون على أن أبا بكر وعمر أفضل من عثمان وعلي ، ونقل هذا الإجماع غير واحد ، كما روى البيهقي في كتاب " مناقب الشافعي " ( مسنده عن الشافعي ) [25] قال : " ما [ ص: 369 ] اختلف أحد من الصحابة ، والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر ، وتقديمهما على جميع الصحابة " . [26]
وروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنقول : خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر [27] .
وقد تقدم نقل البخاري عن علي هذا الكلام [28] .
والشيعة الذين صحبوا عليا كانوا يقولون ذلك ، وتواتر ذلك عن علي من نحو ثمانين وجها ، وهذا مما يقطع به أهل العلم ليس هذا مما يخفى على من كان عارفا بأحوال الرسول والخلفاء .


