الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل .

                  قال الرافضي : [1] " الثامن : خبر الطائر [2] ، روى الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بطائر ، فقال : اللهم ائتني [ ص: 370 ] بأحب خلقك إليك ، وإلي يأكل معي من هذا الطائر  ، فجاء علي ، فدق الباب فقال أنس [3] : إن النبي صلى الله عليه وسلم على حاجة [4] فرجع ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أولا ، فدق الباب [5] فقال أنس : ألم أقل لك إنه علي [6] حاجة [7] ؟ فانصرف [8] ، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم ، فعاد علي فدق الباب [9] أشد من الأولين [10] ، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فأذن [11] له بالدخول ، وقال : ما أبطأك [12] عني ؟ قال : جئت فردني أنس ، ثم جئت فردني ( أنس ) [13] ، ثم جئت فردني الثالثة [14] ، فقال يا أنس : ما حملك على هذا ؟ فقال : رجوت أن يكون الدعاء لرجل من الأنصار [15] ، فقال : يا أنس ، أو في الأنصار [ ص: 371 ] خير من علي ، أو في الأنصار أفضل من علي فإذا كان أحب الخلق إلى الله [16] ، وجب أن يكون هو الإمام [17] .

                  والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بتصحيح النقل ، وقوله روى الجمهور كافة : كذب عليهم ، فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح ، ولا صححه أئمة الحديث ، ولكن هو مما رواه بعض الناس ، كما رووا أمثاله في فضل غير علي ، بل قد روي [18] في فضائل معاوية أحاديث كثيرة ، وصنف في ذلك مصنفات ، وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا ، ولا هذا .

                  الثاني : أن حديث الطائر [19] من المكذوبات الموضوعات  عند أهل العلم ، والمعرفة بحقائق النقل [20] ، قال : أبو موسى المديني : " قد جمع غير [ ص: 372 ] واحد من الحفاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة ، كالحاكم النيسابوري ، وأبي نعيم ، وابن مردويه ، وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال : لا يصح " [21] .

                  [ ص: 373 ] هذا مع أن الحاكم منسوب إلى التشيع ، وقد طلب منه أن يروي حديثا في فضل معاوية ، فقال : ما يجيء من قلبي ما يجيء من قلبي ، وقد ضربوه على ذلك فلم يفعل ، وهو يروي في الأربعين أحاديث ضعيفة ، بل موضوعة عند أئمة الحديث ، كقوله بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين لكن تشيعه ، وتشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث كالنسائي ، وابن عبد البر ، وأمثالهما لا يبلغ إلى تفضيله على أبي بكر وعمر فلا يعرف في علماء الحديث من يفضله عليهما [22] ، بل غاية المتشيع منهم أن يفضله على عثمان ، أو يحصل منه كلام ، أو إعراض عن ذكر محاسن من قائله ، ونحو ذلك ; لأن علماء الحديث قد عصمهم ، وقيدهم ما يعرفون من الأحاديث الصحيحة الدالة على أفضلية [23] الشيخين ، ومن ترفض ممن له نوع اشتغال بالحديث كابن عقدة ، وأمثاله فهذا غايته أن يجمع ما يروى في فضائله من المكذوبات ، والموضوعات لا يقدر أن يدفع ما تواتر من فضائل الشيخين [ ص: 374 ] فإنها باتفاق أهل العلم بالحديث أكثر مما صح في فضائل علي وأصح وأصرح في الدلالة .

                  وأحمد بن حنبل لم يقل : إنه صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره ، بل أحمد أجل من أن يقول مثل هذا الكذب ، بل نقل عنه أنه قال : روي له ما لم يرو لغيره ، مع أن في نقل هذا عن أحمد كلاما ليس هذا موضعه .

                  الثالث : أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيء أحب الخلق إلى الله ليأكل منه ، فإن إطعام الطعام مشروع للبر والفاجر ، وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الآكل ، ولا معونة على مصلحة دين ، ولا دنيا فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله ؟ !

                  الرابع : أن هذا الحديث يناقض مذهب [24] الرافضة  ، فإنهم يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن عليا أحب الخلق إلى الله ، وأنه جعله خليفة من بعده ، وهذا الحديث يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله .

                  الخامس : أن يقال : إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن عليا أحب الخلق إلى الله ، أو ما كان يعرف ، فإن كان يعرف ذلك كان يمكنه أن يرسل يطلبه ، كما كان يطلب الواحد من الصحابة ، أو يقول اللهم ائتني بعلي ، فإنه أحب الخلق إليك ، فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في ذلك ؟ ! ولو سمى عليا لاستراح أنس من الرجاء الباطل ، ولم يغلق الباب في وجه علي .

                  [ ص: 375 ] وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف ذلك بطل ما يدعونه من كونه كان يعرف ذلك ، ثم إن في لفظه : " أحب الخلق إليك وإلي " فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه ؟ !

                  السادس : أن الأحاديث الثابتة في الصحاح التي أجمع أهل الحديث على صحتها ، وتلقيها بالقبول تناقض هذا فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه ؟ !

                  يبين [25] هذا لكل متأمل ما في صحيح البخاري [26] ، ومسلم ، وغيرهما من فضائل القوم ، كما في الصحيحين أنه قال : " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا " ، وهذا الحديث مستفيض ، بل متواتر عند أهل العلم بالحديث ، فإنه قد أخرج في الصحاح من وجوه متعددة من حديث ابن مسعود ، وأبي سعيد ، وابن عباس ، وابن الزبير [27] ، وهو صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض أحد أحب إليه من أبي بكر ، فإنه الخلة هي كمال الحب ، وهذا لا يصلح إلا لله [28] ، فإذا كانت ممكنة ، ولم يصلح لها إلا أبو بكر علم أنه أحب الناس إليه .

                  وقوله في الحديث الصحيح لما سئل : " أي الناس أحب إليك ؟ قال : " عائشة " قيل : من الرجال قال : " أبوها " [29] .

                  وقول الصحابة : " أنت خيرنا وسيدنا وأحب إلى رسول الله صلى الله [ ص: 376 ] عليه وسلم " [30] يقوله عمر بين المهاجرين والأنصار ، ولا ينكر ذلك منكر .

                  وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم محبته تابعة لمحبة الله ، وأبو بكر أحبهم إلى الله تعالى فهو أحبهم إلى رسوله .

                  وإنما كان كذلك ; لأنه أتقاهم ( وأكرمهم ) [31] وأكرم الخلق على [32] الله تعالى أتقاهم بالكتاب والسنة ، وإنما كان أتقاهم ; لأن الله تعالى قال: ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) ( سورة الليل : 18 - 21 ) .

                  وأئمة التفسير [33] يقولون : إنه أبو بكر [34] .

                  ونحن نبين صحة قولهم بالدليل فنقول الأتقى قد يكون نوعا ، وقد يكون شخصا ، وإذا كان نوعا فهو يجمع أشخاصا ، فإن قيل : إنهم ليس فيهم شخص هو أتقى كان هذا باطلا ; لأنه لا شك أن بعض الناس أتقى من بعض ، مع أن هذا خلاف قول أهل السنة والشيعة ، فإن هؤلاء يقولون : إن أتقى الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة هو أبو بكر ، وهؤلاء يقولون : هو علي ، وقد قال بعض الناس : هو عمر ، ويحكى عن بعض الناس غير ذلك ، ومن توقف أو شك لم يقل : [ ص: 377 ] إنهم مستوون في التقوى ، فإذا قال : إنهم متساوون في الفضل ، فقد خالف إجماع الطوائف فتعين أن يكون هذا [35] أتقى .

                  وإن كان الأتقى شخصا فإما أن يكون أبا بكر أو عليا ، فإنه إذا كان اسم جنس يتناول من دخل فيه ، وهو [36] النوع ، وهو القسم الأول ، أو معينا [37] غيرهما ، وهذا القسم منتف باتفاق أهل السنة والشيعة ، وكونه عليا باطل أيضا ; لأنه قال: ( الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) ( سورة الليل : 18 - 21 ) .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية