الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وهذا الوصف منتف في علي لوجوه :

                  أحدها : أن هذه السورة مكية بالاتفاق ، وكان علي فقيرا بمكة في عيال النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن له مال ينفق منه [1] ، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضمه إلى عياله لما أصابت أهل مكة سنة .

                  الثاني : أنه قال: ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى   ) ( سورة الليل : 19 ) ، وعلي كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة تجزى ، وهو إحسانه إليه لما ضمه إلى عياله بخلاف أبي بكر ، فإنه لم يكن له [2] عنده نعمة دنيوية لكن كان [3] له عنده نعمة الدين ، وتلك لا تجزى ، فإن أجر النبي [ ص: 378 ] صلى الله عليه وسلم فيها على الله لا يقدر أحد يجزيه ، فنعمة النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي بكر دينية لا تجزى ، ونعمته عند علي دنيوية تجزى ، ودينية .

                  وهذا الأتقى ليس لأحد عنده نعمة تجزى ، وهذا الوصف لأبي بكر ثابت دون علي .

                  فإن قيل : المراد به [4] أنه أنفق ماله لوجه الله لا جزاء لمن أنعم عليه ، وإذا قدر أن شخصا أعطى من أحسن إليه أجرا [5] ، وأعطى شيئا آخر لوجه الله ، كان هذا مما ليس لأحد عنده من نعمة تجزى .

                  قيل : هب أن الأمر كذلك ، لكن عليا لو أنفق لم ينفق إلا فيما يأمره [6] به النبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي له عنده نعمة تجزى فلا يخلص إنفاقه عن المجازاة ، كما يخلص إنفاق أبي بكر .

                  وعلي أتقى من غيره ، لكن [7] أبا بكر أكمل في وصف التقوى ، مع أن لفظ الآية أنه ليس عنده قط لمخلوق نعمة تجزى ، وهذا وصف من يجازي الناس على إحسانهم إليه فلا يبقى لمخلوق عليه منة ، وهذا الوصف منطبق على أبي بكر انطباقا لا يساويه فيه أحد من المهاجرين ، فإنه لم يكن في المهاجرين - عمر وعثمان وعليا وغيرهم - رجل [8] أكثر إحسانا إلى الناس قبل الإسلام ، وبعده بنفسه ، وماله من أبي بكر كان [ ص: 379 ] مؤلفا محببا يعاون الناس على مصالحهم ، كما قال فيه ابن الدغنة سيد القارة لما أراد أن يخرج من مكة : " مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج ، فإنك تحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق " . [9]

                  وفي صلح الحديبية لما قال لعروة بن مسعود : " امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ قال لأبي بكر : لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك " [10] .

                  وما عرف قط أن أحدا كانت له يد على أبي بكر في الدنيا لا قبل [ ص: 380 ] الإسلام ، ولا بعده فهو أحق الصحابة : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) فكان أحق الناس بالدخول في الآية .

                  وأما علي رضي الله عنه فكان للنبي صلى الله عليه وسلم عليه نعمة دنيوية ، وفي المسند لأحمد أن أبا بكر رضي الله عنه كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد : ناولني إياه ، ويقول : إن خليلي أمرني أن لا أسال الناس شيئا [11] .

                  وفي المسند ، والترمذي ، وأبي داود حديث عمر ، قال عمر : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ، فوافق [12] ذلك مالا عندي ، فقلت اليوم أسبق أبا بكر ، إن سبقته يوما ، فجئت بنصف مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك " ، فقلت : مثله ، قال : وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال : " ما أبقيت لأهلك ؟ " ، قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، فقلت : لا أسابقك إلى شيء أبدا " [13] .

                  فأبو بكر رضي الله عنه جاء بماله كله ، ومع هذا فلم يكن يأكل من أحد لا صدقة ، ولا صلة ، ولا نذرا ، بل كان يتجر ، ويأكل من كسبه [14] ، ولما [ ص: 381 ] ولي الناس ، واشتغل عن التجارة بعمل المسلمين أكل من مال الله ورسوله الذي جعله الله له لم يأكل من مال مخلوق .

                  وأبو بكر لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه شيئا من الدنيا يخصه به ، بل كان في المغازي كواحد من الناس ، بل يأخذ من ماله ما ينفقه على المسلمين ، وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ، وما عرف أنه [15] أعطاه عمالة ، وقد أعطى [16] عمر عمالة ، وأعطى [17] عليا من الفيء ، وكان يعطي المؤلفة قلوبهم من الطلقاء ، وأهل نجد ، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لا يعطيهم ، كما فعل في غنائم حنين وغيرها ، ويقول : " إني لأعطي رجالا ، وأدع رجالا ، والذي أدع أحب إلي من الذي [18] أعطي . أعطي رجالا لما في قلوبهم من الجزع والهلع ، وأكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير " . [19]

                  ولما بلغه عن الأنصار كلام سألهم عنه ، فقالوا : يا رسول الله أما ذوو الرأي منا فلم يقولوا شيئا ، وأما أناس منا حديثة أسنانهم ، فقالوا : يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم ، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال ، وترجعوا إلى رحالكم برسول الله ، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به " قالوا : بلى يا رسول [ ص: 382 ] الله قد رضينا ، قال : " فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض " قالوا : سنصبر " [20] .

                  وقوله تعالى: ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) ( سورة الليل : 17 - 21 ) استثناء منقطع ، والمعنى : لا يقتصر في العطاء على من له عنده يد يكافئه بذلك ، فإن هذا من العدل الواجب للناس بعضهم على بعض بمنزلة المعاوضة في المبايعة ، والمؤاجرة .

                  وهذا واجب لكل أحد على كل أحد ، فإذا لم يكن لأحد عنده [21] نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعادلة ، فيكون عطاؤه خالصا لوجه ربه الأعلى ، بخلاف من كان عنده لغيره نعمة [22] [23] يحتاج أن يجزيه لها [24] ، فإنه يحتاج أن يعطيه مجازاة [25] له على ذلك ، وهذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكى ، [26] فإنه في معاملته للناس يكافئهم دائما ، ويعاونهم ، ويجازيهم ، فحين أعطاه الله ماله يتزكى [27] لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزى .

                  [ ص: 383 ] وفيه أيضا ما يبين أن التفضيل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجبات من المعاوضات ، كما قال تعالى: ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) ( سورة البقرة : 219 ) ، ومن تكون عليه ديون وفروض وغير ذلك أداها ، ولا يقدم الصدقة على قضاء هذه الواجبات ، ولو فعل ذلك فهل [28] ترد صدقته ؟ على قولين معروفين للفقهاء .

                  وهذه الآية يحتج بها من ترد [29] صدقته ; لأن الله إنما أثنى على من آتى ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه أن يجزيها قبل أن يؤتي ماله يتزكى ، فإما إذا آتى ماله يتزكى قبل أن يجزيها لم يكن ممدوحا فيكون عمله مردودا لقوله عليه الصلاة والسلام : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " [30] .

                  الثالث : أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما نفعني مال كمال أبي بكر " [31] .

                  وقال : " إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر [32] " .

                  بخلاف علي رضي الله عنه ، فإنه لم يذكر عنه النبي [ ص: 384 ] صلى الله عليه وسلم شيئا من إنفاق المال ، وقد عرف أن أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين في الله في أول الإسلام ، وفعل ذلك ابتغاء لوجه ربه الأعلى  لم [33] يفعل ذلك ، كما فعله أبو طالب الذي أعان النبي صلى الله عليه وسلم لأجل نسبه وقرابته لا لأجل الله تعالى ، ولا تقربا إليه .

                  وإن كان " الأتقى " اسم جنس فلا ريب أنه يجب أن يدخل فيه [34] أتقى الأمة ، والصحابة خير القرون ، فأتقاها أتقى الأمة ، وأتقى الأمة ( إما ) [35] أبو بكر ، وإما علي ، وإما غيرهما ، والثالث منتف بالإجماع ، وعلي إن قيل : إنه يدخل في هذا النوع لكونه بعد أن صار له مال آتى ماله يتزكى ، فيقال : أبو بكر فعل ذلك في أول الإسلام وقت الحاجة إليه ، فيكون أكمل في الوصف الذي يكون صاحبه هو الأتقى .

                  وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقدم الصديق في المواضع التي لا تحتمل المشاركة كاستخلافه في الصلاة ، والحج ، ومصاحبته وحده في سفر الهجرة [36] ، ومخاطبته ، وتمكينه [37] من الخطاب ، والحكم ، والإفتاء بحضرته ورضاه بذلك [38] ، إلى غير ذلك من الخصائص التي يطول وصفها .

                  [ ص: 385 ] ومن كان أكمل في هذا الوصف كان أكرم عند الله فيكون [39] أحب إليه فقد ثبت بالدلائل الكثيرة أن أبا بكر هو أكرم الصحابة في الصديقية ، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون ، ومن كان أكمل في ذلك كان أفضل .

                  وأيضا فقد ثبت في النقل الصحيح عن علي أنه قال : " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر " واستفاض ذلك ، وتواتر عنه [40] ، وتوعد بجلد المفتري من يفضله عليه [41] ، وروي عنه أنه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم [42] ، ولا ريب أن عليا لا يقطع بذلك إلا عن علم .

                  وأيضا ، فإن الصحابة أجمعوا على تقديم عثمان الذي عمر أفضل منه [43] ، وأبو بكر أفضل منهما ، وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع ، وتقدم بعض ذلك ، ولكن ذكر هذا [44] لنبين [45] أن حديث الطير من الموضوعات .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية