الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : الثاني عشر : [2] روى أخطب [3] خوارزم بإسناده عن [4] أبي ذر الغفاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه [ ص: 403 ] وسلم : من ناصب عليا الخلافة فهو [5] . كافر ، وقد حارب الله ورسوله ، ومن شك في علي فهو كافر . وعن أنس قال : كنت عند النبي [6] صلى الله عليه وسلم ، فرأى عليا مقبلا فقال : أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة . وعن معاوية بن حيدة القشيري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي : من مات وهو يبغضك [7] . . مات يهوديا أو نصرانيا " .

                  والجواب من وجوه :

                  أحدها : المطالبة بتصحيح النقل ، وهذا على سبيل التنزل [8] ، فإن مجرد رواية الموفق خطيب خوارزم لا تدل على أن الحديث ثابت قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا لو لم يعلم ما في الذي جمعه من الأحاديث من الكذب والفرية ، فأما من تأمل ما [9] في جمع هذا الخطيب ، فإنه يقول : سبحانك هذا بهتان عظيم .

                  الثاني : أن كل من له معرفة بالحديث يشهد أن هذه الأحاديث كذب مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

                  [10] [ ص: 404 ] الثالث : أن هذه الأحاديث إن كانت مما رواها الصحابة والتابعون فأين ذكرها بينهم ؟ ومن الذي نقلها عنهم ؟ وفي أي كتاب وجد أنهم رووها ؟ ومن كان خبيرا بما جرى بينهم علم بالاضطرار أن هذه الأحاديث مما ولدها الكذابون بعدهم ، وأنها مما عملت أيديهم .

                  الوجه الرابع : أن يقال : علمنا بأن المهاجرين والأنصار كانوا مسلمين يحبون الله ورسوله ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبهم ويتولاهم ، أعظم من علمنا بصحة شيء من هذه الأحاديث ، وأن أبا بكر الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف يجوز أن يرد ما علمناه بالتواتر المتيقن بأخبار هي أقل وأحقر من أن يقال لها : أخبار آحاد لا يعلم لها ناقل صادق ، بل أهل العلم بالحديث متفقون على أنها من أعظم المكذوبات ، ولهذا لا يوجد ( منها ) شيء في كتب [11] الأحاديث المعتمدة ، بل أئمة الحديث كلهم يجزمون بكذبها .

                  ( الوجه ) [12] الخامس : أن القرآن يشهد في غير موضع برضا الله عنهم ، وثنائه عليهم ، كقوله تعالى: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ( سورة التوبة : 100 ) .

                  [ ص: 405 ] وقوله : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) ( سورة الحديد : 10 ) .

                  وقوله: ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) الآية ( سورة الفتح : 29 ) .

                  وقوله: ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) ( سورة الفتح : 18 ) .

                  وقوله: ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) ( سورة الحشر : 8 ) ، وأمثال ذلك فكيف يجوز أن [13] يرد ما علمنا دلالة القرآن عليه يقينا بمثل هذه الأخبار المفتراة التي رواها من لا يخاف مقام ربه ، ولا يرجو لله وقارا .

                  الوجه السادس : أن هذه الأحاديث تقدح في علي وتوجب أنه كان مكذبا بالله ورسوله ، فيلزم من صحتها كفر الصحابة كلهم هو وغيره .

                  أما الذين ناصبوه الخلافة [14] ، فإنهم في هذا الحديث المفترى كفار ، وأما علي فإنه لم يعمل بموجب هذه النصوص ، بل كان يجعلهم مؤمنين مسلمين ، وشر من قاتلهم علي هم الخوارج ، ومع هذا فلم يحكم فيهم بحكم الكفار ، بل حرم أموالهم وسبيهم ، وكان يقول لهم قبل قتالهم : إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ، ولا حقكم من فيئنا ، ولما قتله ابن [ ص: 406 ] ملجم [15] قال : إن عشت فأنا ولي دمي ، ولم يجعله مرتدا بقتله [16] .

                  وأما أهل الجمل فقد تواتر عنه أنه نهى ( عن ) [17] أن يتبع مدبرهم ، وأن يجهز على جريحهم ، وأن يقتل أسيرهم ، وأن تغنم أموالهم ، وأن تسبى ذراريهم ، فإن كان هؤلاء كفارا بهذه النصوص فعلي أول [18] من كذب بها فيلزمهم أن يكون علي كافرا .

                  وكذلك أهل صفين كان يصلي على قتلاهم ، ويقول : إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف ، ولو كانوا عنده كفارا لما صلى عليهم ، ولا جعلهم إخوانه ، ولا جعل السيف طهرا لهم [19]

                  وبالجملة نحن نعلم بالاضطرار من سيرة علي رضي الله عنه أنه لم يكن يكفر الذين قاتلوه ، بل ولا جمهور المسلمين ، ولا الخلفاء الثلاثة ، ولا الحسن ، ولا الحسين كفروا [20] أحدا من هؤلاء ، ولا علي بن الحسين ، ولا أبو جعفر ، فإن كان هؤلاء كفارا ، فأول من خالف النصوص علي وأهل بيته ، وكان يمكنهم أن يفعلوا ما فعلت الخوارج فيعتزلوا بدار غير دار الإسلام ن ، م : المسلمين ، وإن عجزوا عن القتال ، ويحكموا [21] على أهل دار الإسلام بالكفر والردة ، كما يفعل ذلك كثير من شيوخ الرافضة ، وكان الواجب [ ص: 407 ] على علي إذا رأى أن الكفار لا يؤمنون ، أن يتخذ له ولشيعته دارا غير دار أهل الردة والكفر ، ويباينهم كما باين المسلمون لمسيلمة الكذاب وأصحابه .

                  وهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم كان بمكة هو وأصحابه في غاية الضعف ، ومع هذا فكانوا يباينون الكفار ، ويظهرون مباينتهم بحيث يعرف المؤمن من الكافر ، وكذلك هاجر من هاجر منهم إلى أرض الحبشة مع ضعفهم ، وكانوا يباينون النصارى ، ويتكلمون بدينهم قدام النصارى .

                  وهذه بلاد الإسلام مملوءة من اليهود والنصارى ، وهم مظهرون لدينهم متحيزون عن المسلمين .

                  فإن كان كل من يشك [22] في خلافة علي كافرا عنده وعند أهل بيته ، وليس بمؤمن عندهم إلا من اعتقد أنه الإمام المعصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن لم يعتقد ذلك فهو مرتد عند علي وأهل بيته ، فعلي أول من بدل الدين ، ولم يميز المؤمنين من الكافرين ، ولا المرتدين من المسلمين .

                  وهب أنه كان عاجزا عن قتالهم وإدخالهم في طاعته فلم يكن عاجزا عن مباينتهم ، ولم يكن أعجز من الخوارج الذين هم شرذمة ( قليلة ) [23] من عسكره ، والخوارج اتخذوا لهم دارا غير دار الجماعة وباينوهم كما [24] كفروهم ، وجعلوا أصحابهم [25] هم المؤمنين .

                  [ ص: 408 ] وكيف كان يحل للحسن [26] أن يسلم أمر المسلمين إلى من هو عنده من المرتدين شر من اليهود والنصارى ، كما يدعون في معاوية ؟ وهل يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر ؟ وقد كان الحسن يمكنه أن يقيم بالكوفة ، ومعاوية لم يكن بدأه بالقتال ، وكان قد طلب منه ما أراد فلو قام مقام أبيه لم يقاتله معاوية ، وأين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في فضل الحسن : إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين [27] ، فإن كان علي وأهل بيته - والحسن منهم - يقولون : لم يصلح الله به إلا بين المؤمنين والمرتدين فهذا قدح في الحسن ، وفي جده الذي أثنى على الحسن ، [28] : لما كان الأمر كما يقوله الرافضة .

                  فتبين أن الرافضة من أعظم الناس قدحا وطعنا في أهل البيت ، وأنهم هم الذين عادوا أهل البيت في نفس الأمر ، ونسبوهم إلى أعظم المنكرات التي من فعلها كان من الكفار ، وليس هذا ببدع من جهل الرافضة وحماقاتهم .

                  ثم إن الرافضة تدعي أن الإمام المعصوم لطف من الله بعباده ليكون ذلك أدعى إلى أن يطيعوه فيرحموا ، وعلى ما قالوه فلم يكن على أهل الأرض نقمة أعظم من علي ، فإن الذين خالفوه وصاروا مرتدين كفارا ، والذين وافقوه أذلاء مقهورون تحت النقمة لا يد ولا لسان ، وهم مع [ ص: 409 ] ذلك يقولون إن خلقه مصلحة ولطف ، وإن الله يجب عليه أن يخلقه ، وإنه لا تتم مصلحة العالم في دينهم ودنياهم إلا به ، وأي صلاح في ذلك على قول الرافضة ؟

                  ثم إنهم يقولون : إن الله يجب عليه أن يفعل أصلح ما يقدر عليه للعباد في دينهم ودنياهم ، وهو يمكن الخوارج الذين يكفرون به بدار لهم [29] فيها شوكة ، ومن قتال أعدائهم ، ويجعلهم هم [30] والأئمة المعصومين في ذل [31] أعظم من ذل [32] اليهود والنصارى [33] ، وغيرهم من أهل الذمة ، فإن أهل الذمة يمكنهم إظهار دينهم ، وهؤلاء الذين يدعى أنهم حجج الله على عباده ولطفه في بلاده ، وأنه لا هدى إلا بهم ، ولا نجاة إلا بطاعتهم ، ولا سعادة إلا بمتابعتهم قد غاب خاتمتهم من أكثر من [34] أربعمائة وخمسين سنة [35] ، فلم ينتفع به أحد في دينه ولا دنياه ، وهم لا يمكنهم إظهار دينهم ، كما تظهر اليهود والنصارى دينهم .

                  ولهذا ما زال أهل العلم يقولون : إن الرفض من أحداث الزنادقة الملاحدة الذين قصدوا إفساد الدين : دين الإسلام ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، فإن منتهى أمرهم تكفير علي وأهل بيته ، بعد أن كفروا الصحابة ( والجمهور ) [36]

                  [ ص: 410 ] ولهذا كان صاحب دعوى الباطنية الملاحدة رتب دعوته مراتب : أول ما يدعو المستجيب إلى التشيع ، ثم إذا طمع فيه قال له : علي مثل الناس ، ودعاه إلى القدح في علي أيضا ، ثم إذا طمع فيه دعاه إلى القدح في الرسول ، ثم إذا طمع فيه [37] دعاه إلى إنكار الصانع ، هكذا [38] ترتيب كتابهم الذي يسمونه " البلاغ الأكبر " ، و " الناموس الأعظم " ، وواضعه الذي أرسل به إلى القرمطي الخارج بالبحرين لما استولى على مكة ، وقتلوا الحجاج ، وأخذوا الحجر الأسود ، واستحلوا المحارم ، وأسقطوا الفرائض ، وسيرتهم مشهورة عند أهل العلم .

                  وكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وهو يبغض عليا مات يهوديا ، أو نصرانيا ، والخوارج كلهم تكفره وتبغضه ؟ ! وهو نفسه لم يكن يجعلهم مثل اليهود والنصارى ، بل يجعلهم من المسلمين أهل القبلة ، ويحكم فيهم بغير ما يحكم به [39] بين اليهود والنصارى .

                  وكذلك من كان يسبه ويبغضه من بني أمية وأتباعهم ، فكيف يكون من يصلي الصلوات ويصوم شهر رمضان ويحج البيت ويؤدي الزكاة مثل اليهود والنصارى ؟ ! وغايته أن يكون قد [40] خفي عليه كون هذا إماما ، أو عصاه بعد معرفته .

                  وكل أحد يعلم أن أهل الدين والجمهور ليس لهم غرض مع علي ، ولا لأحد منهم غرض في تكذيب الرسول ، وأنهم لو علموا أن الرسول جعله إماما كانوا أسبق الناس إلى التصديق بذلك .

                  [ ص: 411 ] وغاية ما يقدر أنهم خفي عليهم هذا الحكم فكيف يكون من خفي عليه جزء من الدين مثل اليهود والنصارى ؟ !

                  وليس المقصود هنا الكلام في التكفير ، بل التنبيه على أن هذه الأحاديث مما يعلم بالاضطرار أنها كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنها مناقضة لدين الإسلام ، وأنها تستلزم تكفير علي ، وتكفير من خالفه ، وأنه لم يقلها من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فضلا عن أن تكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل إضافتها - والعياذ بالله - إلى رسول الله من أعظم القدح والطعن فيه ، ولا شك أن هذا فعل زنديق ملحد لقصد [41] إفساد دين الإسلام فلعن الله من افتراها ، وحسبه ما وعده به الرسول حيث قال : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " [42] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية